غزة في سؤال الغرب: ديمقراطية الأغلبية أم طغيان الأقلية؟

حجم الخط
0

السؤال قديم بالطبع، وسبق أن تكرر طرحه على الديمقراطيات الغربية، في أوروبا والولايات المتحدة، خلال مناسبات شتى تضمنت مسائل حارقة بصدد الحرب والسلام، التوسع العسكري والاجتياح وإمبراطوريات المراحل الأحدث من الإمبريالية، الهجرة واللجوء والعلاقات بين الأمم عموما و«الشمال» و«الجنوب» خصوصا، الاقتصاد وسوء توزيع الثروات الكونية، والجوع مقابل التخمة؛ وسوى هذا وذاك من ملفات واسعة النطاق وهائلة العواقب وبعيدة الأثر.
وحرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضد الفلسطينيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ في قطاع غزة خصوصا، ولكن في سائر فلسطين عموما وبمشاركة جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية وقطعان المستوطنين؛ هي المنصة الأحدث لطرح السؤال القديم إياه، على نحو أشد دموية وهمجية وفاشية، وبمعدلات انخراط من جانب الجهات الحاكمة في الديمقراطيات الغربية لم يسبق لها مثيل من حيث التواطؤ والتورط والتغطية والتزييف. غالبية ملموسة وعالية من تمثيلات الرأي العام الشعبي في واد؛ والحكومات، خاصة الأمريكية والبريطانية والألمانية والفرنسية، في واد آخر تماما؛ ولا صلة واضحة، ملموسة أو ذات معنى، بين ملايين المتظاهرين في الشوارع ضد حرب الإبادة الإسرائيلية، وبين حفنة ضئيلة تقف على هرم القرار السياسي والعسكري والاقتصادي والأمني.
قد يجادل البعض بأن هذه القيادات الحاكمة قد انتُخبت ديمقراطيا، أيا كانت المظان والطعون التي تكتنف النُظُم الديمقراطية في البلدان التي يتولون حكمها؛ وهذا أمر مفروغ منه بالطبع، مع حق امرئ هنا أو هناك في الطعن جوهريا بالمستوى التمثيلي الفعلي الذي يسفر عنه هذا النظام الديمقراطي أو ذاك من حيث مراكز الهيمنة والتحكم والتوجيه، المالية والإعلامية بصفة خاصة. ما يشتمل عليه سؤال ديمقراطية الأغلبية إزاء طغيان الأقلية يتصل بالطرائق الأكثر تعبيرا عن إرادات الشعوب في مراحل مفصلية محددة، وعلى رأسها مبدأ الاستفتاء العام بصدد قضية حارقة وملحة، أو الإصغاء إلى نبض الشارع الشعبي من خلال تظاهرات الاحتجاج والاعتصام، أو حتى اعتمادا على استطلاعات رأي ذات منهجيات مكينة ورصينة ونزيهة.
والمعادلة هنا بالغة الوضوح، حتى حين يتم أحيانا اللجوء إلى تبسيطها بهدف تسليحها بمنطق أعلى سطوة وجدوى: بافتراض أن الحكومة البريطانية أجرت استفتاء، شاملا أو حتى عينيا، حول الموقف من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة؛ أو فعلته الحكومة الألمانية، بصدد رغبتها المنافقة للدفاع عن دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية؛ أو اختارته الحكومة الفرنسية، واستفت الفرنسيين حول الفارق الجلي بين العداء للسامية والعداء للصهيونية والعداء لسياسات الاحتلال الإسرائيلية… ولن يعدم المرء أيضا مَنْ يساجل بأن هذه الأشكال من «الديمقراطية المباشرة» ليست عملية، وأنه لا يُحتكم إليها إلا بصدد قضايا شائكة أو طارئة تقتضي إدخال تعديلات دستورية صريحة؛ وهذا، هنا أيضا، صحيح من حيث الشكل فقط، ولكنه أصح من حيث المحتوى الملموس للعلاقة التعاقدية بين الحاكم والمحكوم، والتي لا يفلح صندوق الاقتراع في تصويب اشتراطاتها، فما بالك بأخلاقياتها، بين دورة انتخابية وأخرى.

إذا سار قرار محكمة العدل الدولية صوب إدانة دولة الاحتلال، فالعالم سيشهد فصلا جديدا من دَوْس الديمقراطيات الغربية على القانون الدولي ذاته الذي تتغنى به، كاذبة منافقة

شبكات الانحياز إلى أحد أطراف هذه المعادلة لن تقتصر على الساسة ورجال المال والأعمال والصناعات العسكرية والاستثمار الرأسمالي وما إليها، وهي بالطبع كثيرة ومتنوعة؛ بل تشمل نمطا من صناع الرأي العام، كتابا ومعلقين ومفكرين، وبعضهم من عيار ثقيل يتجاوز بكثير صفة «المثقف» في أوسع تعريفاتها. هي، إلى ذلك، انحيازات سوف تنطوي غالبا على خيارات تراجع أو ارتداد أو تحريف أو تنازل جوهري، بالقياس إلى حصيلة في الماضي القريب لم تكن نقيض الحاضر فقط، بل تشكل صياغات تزييف للحصيلة السالفة وقَلْب منطقها رأسا على عقب.
خذوا موقف الفرنسي جاك أتالي من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وما ينطوي عليه من إعادة تأويل معكوسة لخلاصات دراماتيكية سبق أن توصل إليها قبل سنوات قليلة فقط، بصدد علاقة الديمقراطيات الغربية ورأسمالية اقتصاد السوق بالتمثيل الشعبي الفعلي. ففي مقالة بعنوان «تفادي دوائر الجحيم الثلاث» اعتبر أتالي أن مشكلة «حماس» مع دولة الاحتلال تنحصر في البغضاء الموروثة بين أنظمة الاستبداد (و«حماس» في عدادها بالطبع، حسب تصنيفه) والديمقراطية؛ تماما كما هي البغضاء بين روسيا فلاديمير بوتين وأوكرانيا. غني عن القول إن أتالي لا ينطق بكلمة حول هذه «الديمقراطية» الإسرائيلية التي تحكمها الحكومة الأشد يمينية وتدينا وفاشية وعنصرية في تاريخ الكيان الصهيوني، وأن «البغضاء» في جنين ونابلس والخليل وطولكرم ليست بين الاستبداد والديمقراطية بل مع عنصرية استيطانية إجرامية يحرسها جيش هذه «الديمقراطية» إياها.
ولكن أليس هذا هو أتالي سنوات قليلة خلت، شهدت تبشيره بأن السمة الجوهرية السائدة اليوم هي انهيارCrash الحضارة الغربية وليس صراع Clash هذه الحضارة مع سواها من الحضارات، غامزا بذلك من قناة نظرية صمويل هنتنغتون الشهيرة؟ ألم يكن أتالي هذا، كما يعلم الجميع، مراقبا غير عادي لمشهد العولمة الراهن، إذْ عمل مستشارا وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران، وعرف الكثير من خفايا السياسة الدولية خصوصا في طور انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية؟ ألم يشغل، في أطوار حاسمة، منصب المدير العام لأول بنك أوروبي موحد وُضع تحت تصرف وإدارة الاتحاد الأوروبي؟ أخيرا، وليس آخرا، هل من فارق في كونه يهوديا، سليل أسرة هاجرت من الجزائر إلى فرنسا، يراقب العالم بذلك النوع «الحصيف» الحساس من حس الكارثة وذاكرة الهولوكوست؟
وإذْ جادل أتالي بأن الحضارة الغربية موشكة على الانهيار، فإنه كتب بالحرف: «بالرغم من القناعة السائدة القائلة بأن اقتصاد السوق اتحد مع الديمقراطية لتشكيل آلة جبارة تساند وتُطور التقدم الإنساني، فإن هاتين القيمتين عاجزتان عن ضمان بقاء أية حضارة إنسانية. إنهما حافلتان بالتناقضات ونقاط الضعف. وإذا لم يسارع الغرب، ثم الولايات المتحدة بوصفها قائدة الغرب المعينة بقرار ذاتي، إلى الاعتراف بنقائص وأزمات اقتصاد السوق والديمقراطية، فإن الحضارة الغربية سوف تأخذ في الانحلال التدريجي، ولسوف تدمر نفسها بنفسها». نعم، ليس أقل.
كذلك جادل أتالي بأن الشقوق والصدوع أخذت تظهر هنا وهناك على سطح الحضارة الغربية، وأن تنفيذ أبسط صورة بأشعة X سوف يكشف مظاهر الاعتلال العميق في الجسد ذاته وليس على جلده وقشرته الخارجية فقط، وسوف يحدد بوضوح صارخ «خطر الفناء» الوشيك الذي تراكمه مظاهر الاعتلال تلك. ولقد بدأ بتحديد ثلاثة تناقضات مستعصية، غير قابلة للتصالح، تمنع حدوث الزواج الناجح بين اقتصاد السوق والديمقراطية: الأول هو أن المبادئ الناظمة لاقتصاد السوق والديمقراطية، لا يمكن تطبيقها في معظم مجتمعات الغرب؛ والتناقض الثاني هو أن هاتين القيمتين، السوق والديمقراطية، تدخلان غالبا في حال تصارع بدل حال التحالف، وتسيران وجها لوجه بدل السير بدا بيد؛ والتناقض الثالث هو أنهما حملتا على الدوام بذور تدمير الذات، لا لشيء إلا لأن ديمقراطية السوق كفيلة بخلق «دكتاتورية السوق» بوصفها عنوان حروب التبادل بين ديمقراطية صناعية كبيرة وأخرى أكبر وثالثة تعد نفسها الأكبر.
واليوم، إذا سار قرار محكمة العدل الدولية صوب إدانة دولة الاحتلال، فالعالم سيشهد فصلا جديدا من دَوْس الديمقراطيات الغربية على القانون الدولي ذاته الذي تتغنى به، كاذبة منافقة؛ وسيسجل برهة أخرى إضافية من اتساع الهوة الفاغرة بين إرادات الشعوب وحكامها… طغاة الأقلية المهيمنة باسم الأغلبية!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية