غزة: إبادة جماعية وإفلات من العقاب

لا تحتاج لأن تكون عربياً، أو مسلماً، أو مواطناً من المنطقة، حتى تتأثر لما يحدث من مشاهد إبادة وتهجير للمدنيين في قطاع غزة. «العالم الحر»، الذي يسعى للحفاظ حتى على أرواح الحيوانات، تتعطل إنسانيته، ويقف عاجزا أمام صور الآلاف من الأبرياء، الذين يموتون بلا جريرة. كان واضحاً منذ اليوم الأول للحرب أن الهدف لا ينحصر في ملاحقة حركة حماس، أو القضاء على جناحها العسكري، حيث تعمد جيش الاحتلال استهداف المباني والأعيان المدنية، بشكل قصد منه إيقاع أكبر قدر من الخسائر. توسع الاحتلال في استهداف المنشآت الصحية وعربات الإسعاف وكل مكان يمكن أن يلجأ إليه الهاربون وطالبو النجاة، بل وصل من الجرأة حد استهداف ضحايا التجويع، الذين تجمعوا لأخذ نصيبهم من الإغاثة.
أراد الاحتلال بكل هذا أن يضاعف الخسائر، فمن لم يمت بالقصف، مات متأثراً بجراحه في ظل انعدام الرعاية الصحية، ومن نجا من كل ذلك مات جوعاً أو عطشا.
آثار أحداث غزة تمتد لما يتجاوز المنطقة فتهدد ثبات حكومات وتؤثر على استقرار أسعار النفط. في مضيق باب المندب يأمل متابعون أن ينجح وقف إطلاق النار في إقناع الحوثيين بالتوقف عن مهاجمة السفن العابرة، ما سيكون مهماً من أجل معاودة انسياب حركة النقل وتخفيض التكلفة.

يرفض الإسرائيلي، الذي يؤمن بأنه أحق بالأرض من أصحابها، النظر بموضوعية، ولا يفكر سوى بفرض منطقه المتخيل حول اليهودي المظلوم، الذي يكافح ضد اللاسامية

فيما يتعلق بالحوثيين، فإنه بات من شبه المؤكد أن لا شيء سيدفعهم للتوقف عن تهديد الملاحة، سوى وقف العدوان على غزة، فقد جرّب التحالف البريطاني الأمريكي قصف مناطق اعتبرها حيوية في اليمن، كما فعل الجمعة الماضية، لكن من دون أن يحقق ذلك الردع المطلوب. وقف إطلاق النار، الذي ظهر مؤخراً في مشروع قرار أمريكي مقدم لمجلس الأمن، صار مطلوباً، لا لذاته، وإنما لتخفيف الحصار الأخلاقي على الولايات المتحدة. واشنطن، التي تستقبل اليوم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، والتي كانت قد أعلنت وقف تمويل منظمة «أونروا»، ظلت تتابع، على الرغم مما تعرضت له من انتقادات، مدّ تل أبيب بالسلاح والعون الاستخباراتي والدبلوماسي. الحصار الأخلاقي المتوسع يكشف زيف «الديمقراطيات» ويجعلها تدخل في مواجهة مع مبادئها وشعاراتها. على المستوى الشعبي يأخذ التعبير عن حالة العجز عن احتمال هذه الازدواجية أوجهاً عدة، من ذلك ما هو سلمي، كحالة التظاهرات التضامنية الكبرى، التي جابت أغلب عواصم العالم الغربي، ومنه ما هو عنيف كحالة العسكري الأمريكي، الذي أضرم النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن. الحصار الأخلاقي هو ما اضطر الرئيس جو بايدن لأن يبدي اهتماماً بالمأساة الفلسطينية، ويعلن عن تخفيف المعاناة، من خلال تقديم غذاء ومعونات، كما أنه هو الذي دفع دولاً أوروبية لفتح ملف الاعتراف بدولة فلسطين كخطوة رمزية باتجاه الاعتراف بحقوق المنكوبين.
في الداخل الإسرائيلي لا تبدو حكومة الاحتلال مكترثة كثيراً بالمسألة الأخلاقية، فما تزال تعتبر أن كل ما تفعله هو رد مقبول على عملية «طوفان الأقصى»، وأن أي دعوة لتخفيف الحصار أو حماية المدنيين هي دعوة لحماية الإرهاب. يستمر الكيان في التوسع في جرائمه غير آبه حتى لنصح حلفائه المشفقين، الذين حذروه من تضرر سمعته وفقدان التعاطف. بلغ الغرور الصهيوني حد الإعلان عن المضي قدماً في مخطط اجتياح مدينة رفح. آخر الجرائم الكبرى، التي ما تزال مستمرة حتى كتابة هذا المقال، كان استشهاد العشرات جراء استهداف محيط مجمع الشفاء الطبي في غزة. القصف المكثف تزامن مع منع طواقم الإسعاف من الوصول إلى المصابين. العملية، التي بدأت بتدمير عشرات المنازل في محيط المجمع، شملت اعتقال العشرات من سكان المنازل المحاذية، بمن فيهم سيدة في التسعينيات من عمرها. الأشد تأثراً بكل ذلك كان المرضى، الذين حرموا من كل رعاية ودواء، وتم حبسهم بشكل غير إنساني. إمعاناً في الإضرار حبس الجيش الإسرائيلي كذلك جميع الأطباء والممرضين في مكان مجهول داخل المجمع ومنعهم من ممارسة عملهم ولو على سبيل تقديم الإسعافات أو الرعاية الأولية، ما أدى لوفاة عدد من أصحاب الحالات الحرجة. أعلن الاحتلال في البداية أن العملية أدت لاعتقال قيادي في حماس، كانت هذه الرواية مهمة من أجل تثبيت وجهة النظر التي تبرر الهجوم على المنشآت المدنية. المفارقة هي أنه عاد ونفى ذلك معتبراً، في تقليل من شأن من راحوا ضحية لعمليته، أن ما حدث كان مجرد خطأ. جرائم الاحتلال وعدوانه لا تقتصر على قطاع غزة ورفح، بل تمتد حتى الضفة الغربية، التي تعاني من التهويد والاستيطان ومن موجات الاعتقالات العشوائية، التي يستهدف بها بالدرجة الأولى القادمون من غزة أو المرتبطون بها. على صعيد الاشتباكات، تفيد الأخبار الواردة قبل يومين بأن قوات الاحتلال قتلت شاباً في مدينة رام الله، بعد اشتباك مسلح استمر لنحو أربع ساعات. أصيب في هذه العملية نحو سبعة جنود ومستوطنين على الأقل بعضهم حالته خطيرة. أثارت هذه العملية ذعراً كبيراً وحالة من الهلع في الداخل الإسرائيلي، خاصة بعد أن أفادت الأنباء بأن منفذ العملية، الذي أظهر مهارة وثباتاً، عسكري سابق. الدوائر الأمنية في الكيان الهش تتساءل اليوم عما إذا كانت هناك خلايا أخرى، أو عدد آخر من المتحمسين، ممن نالوا في وقت سابق تدريباً عسكرياً. المستوطن الاسرائيلي يبدو مندهشاً من تزايد العمليات الفدائية، فقبل هذا كانت هناك عملية أخرى في بيت لحم استهدفت فيها أيضاً حافلة صهيونية، وفي طوباس كان هناك تبادل لإطلاق النار، فيما أعلنت «سرايا القدس» أنها نجحت في اغتيال ضابط وثلاثة جنود في طولكرم. في المقابل، فإن التوغل والاقتحامات الإسرائيلية لمدن وبلدات الضفة الغربية صار يواجه بالعبوات الناسفة والقنابل. يرفض الإسرائيلي، الذي يؤمن بأنه أحق بالأرض من أصحابها، النظر بموضوعية، ولا يفكر سوى بفرض منطقه المتخيل حول اليهودي المظلوم، الذي يكافح ضد اللاسامية. في الوقت الذي يرى فيه الجميع، بمن فيهم حلفاؤه، أنه لا يمكن للإسرائيلي أن ينعم بالسلام في ظل ما يمارس على الأرض، يظن الأخير أنه، ومن خلال «الحلول الأمنية» وحدها، يمكنه أن يضمن لنفسه السلام.
على صعيد المنظمات الحقوقية الدولية ومؤسسات الضغط يكتفي المسؤولون بتوصيف الوضع، كقول رئيسة المفوضية الأوروبية، إن «غزة على حافة المجاعة»، أو كبيان المجلس الأوروبي، الذي يعبر عن مجموع الدول الأعضاء، والذي تحدث عن أهمية الانخراط في هدنة إنسانية. هكذا فقط، ولا يمكنك أن تسأل أين ذهبت مبادئ القانون الدولي مثل «الحق في التدخل والحماية»، أو محاسبة المتورطين في جرائم حرب، أو غيرها من البنود الدولية ذات الديباجات البراقة، التي تدعو لفرض عقوبات مشددة على الأنظمة التي تحتقر حقوق الإنسان. هدف رفع جنوب افريقيا قضية ضد الكيان أمام المحكمة الدولية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، كسر ذلك الحصار الأخلاقي ومساءلة الحصانة التاريخية، صحيح أن النتيجة لم تتعد مطالبة المعتدين بفتح تحقيق واتخاذ تدابير لمنع وقوع أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين والمطالبة بتحسين الوضع الإنساني، إلا أن ذلك كان مهماً أهمية حجر ألقي في بركة راكدة من التواطؤ والتجاهل والصمت.
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية