تحت ركام غزة توارت هذه الأسابيع قضايا عربية عدة، غطّاها غبار المباني المتهاوية تحت القصف الإسرائيلي المجنون، قضايا اختفت من ساحة التداول الإعلامي لتفسح المجال واسعا لمتابعة مآسي أهل غزة وما أقساها، قضايا كانت تتصدر عناوين الأخبار فإذا بها تختفي بالكامل تقريبا، إن لم يكن من الإعلام الدولي فالأكيد من العربي، وإن لم يكن في الصحف والمجلات فالأكيد على شاشات التلفزيون.
من منا ما زال يتحدث عن السودان غير أهله؟! بلد يستمر فيه الاقتتال بين الجيش والفصيل الذي خرج من رحمه متمرّدا فدمّر بلدا كان أصلا مدمّرا بعد ثلاثين عاما من حكم الرئيس عمر البشير و«المشروع الحضاري» الذي جاءت به جماعته «للإنقاذ». لم يؤد العناد بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد «الدعم السريع» محمد حمدان حميدتي سوى إلى مزيد الخراب مع عجز كليهما عن الحسم ورفض الاعتراف بذلك. نزح عشرات الآلاف، ولجأ عشرات الآلاف غيرهم إلى دول الجوار دون بصيص أمل في سلام قريب، خاصة وأن لكل طرف من يدعمه إقليميا ودوليا مع أن «الكبار» لن يهتموا بمثل هذه الحرائق عندما لا تشتعل في ثوبها.
من منا ما زال يتحدث عن اليمن غير أهله؟! بلد يرزح تحت حكم ديني متخلف نجح في الاستيلاء على السلطة في غفلة يتحمل مسؤوليتها أكثر من طرف يمني وعربي. استطاع «الحوثيون» السيطرة على العاصمة وفرض حكمهم تحت عنوان مقاومة تدخل خارجي، قال إنه جاء للنجدة لكنه لم ينجد أحدا، ثم لم ينجح حتى في نجدة نفسه لاحقا حين عجز عن أن يجد لنفسه مخرجا من هذه الورطة. التدخل العسكري في اليمن، الذي بدأ خليجيا لينتهي سعوديا إماراتيا بالأساس، جاء مآزرا لقضية عادلة فانتهى به المطاف في وضع غير عادل حين انتهى متهما بأنه صار محتلا، لاسيما حين اتضحت وكشفت الحسابات الخاصة لأحد أطرافه والتي لا علاقة لها لا باليمن ولا باستقراره ناهيك طبعا عن ازدهاره. ولكل ذلك انتهى الأمر بالجميع إلى أمر واقع لا أحد يعرف كيف يمكن تجاوزه، فيما تسعى طهران، طبعا، إلى توظيف كل ذلك لحساباتها الخاصة.
أدى انهماك الرأي العام العربي والدولي في متابعة ما يجري في غزة إلى شعور الفاعلين في كل هذه الدول بانصراف الإعلام عن رصد شؤونها فانشرحوا لذلك بالتأكيد حتى تستمر الأوضاع كما هي
من منا ما زال يذكر ما يجري في ليبيا غير أهلها؟! بلد ما زال يئن تحت انقسام بين غربه وشرقه يكاد يستقر وضعا نهائيا لا فكاك منه، في ظل تعثر التسوية السياسية وارتهان كل طرف لمعسكر أجنبي كل منهما يقارع الآخر. حتى إعصار درنة وفيضاناتها الرهيبة وما حمله من بصيص أمل بالتفاف الجميع بروح الوطن الواحد والشعب الواحد سرعان ما تبخّر حين عادت سلطات الشرق بقيادة خليفة حفتر إلى إعادة بسط هيمنتها هناك وطرد الإعلام من المدينة غير عابئة بأي شيء آخر غير مصالح إعادة الإعمار ومساعي تقاسم كعكته حتى مع أعداء الأمس، فيما ظلت الحكومة المعترف بها دوليا عاجزة عن بسط سلطتها على كامل البلاد رغم نجاحها في إفشال حصار العاصمة طرابلس قبل أكثر من عامين.
من منا ما زال يذكر ما يجري في تونس غير أهلها؟! بلد اختنقت فيه الحياة السياسية بالكامل وآلت فيه كل الأمور، كبيرها وصغيرها، إلى رغبة رجل واحد يقود البلاد كما يريد بلا ضوابط ولا كوابح، وكله تحت شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد. ما عاد هناك من صوت مختلف أو معارض فالكل سكت، خوفا أو طمعا، أو زج به في السجون ينتظر البت في قضية تآمر على أمن الدولة، يٌمنع الحديث فيها إعلاميا رغم أنها لم تحترم أبسط الضوابط القانونية شكلا ومضمونا، كما يقول المحامون. يجري ذلك وسط أزمة اقتصادية ومالية خانقة وعزلة دولية واضحة يعانيها بلد كم كان واعدا حين خرج شعبه مطالبا بالحرية والكرامة، فخسرهما معا.
من لطف الأقدار أن كل هذه الدول العربية، باستثناء السودان، تعاني ما تعانيه دون سفك للدماء، وهذا مكسب كبير جدا، فلا الحسم العسكري هو المخرج في السودان، حيث يستنزف كل طرف الآخر ويستنزف كلاهما البلاد والعباد، ولا العودة إلى الاقتتال في ليبيا هو من سينتشلها من حالة الانقسام، ولا عودة المعارك والقصف إلى اليمن هو من سيعيد الشرعية المنهكة إلى صنعاء، ولا تونس في وارد أن يصل فيها موت السياسة إلى أي لجوء إلى السلاح ولله الحمد.
لقد أدى انهماك الرأي العام العربي والدولي في متابعة ما يجري في غزة إلى شعور الفاعلين في كل هذه الدول بانصراف الإعلام عن رصد شؤونها فانشرحوا لذلك بالتأكيد حتى تستمر الأوضاع كما هي. لا حاجة هنا لاستحضار سوريا فقد توارت عن الأحداث حتى قبل غزة ما أنسى الجميع ما تعيشه من مآس رغم توقف مسلسل التقتيل الكبير هناك.
لقد سترت حرب غزة الكثير من عورات ما يجري عندنا، لكنها كشفت في المقابل عورات أخرى لا حصر لها، وهذا حديث آخر طويل.
كاتب وإعلامي تونسي