عن عودة «عيال الله» بعد الحرب الباردة: إعادة البحث في السياسات الدينية المعاصرة

لقد كانت إحدى الخصائص المحددة للفترة الزمنية التي أعقبت الحرب الباردة انبعاث الأصوليات الدينية داخل بعض الدول والمناطق حول العالم. وهناك بعض الأمثلة على هذه الظاهرة الأكثر اتساعاً مثل الإبادة الجماعية في البوسنة، وظهور اليمين المسيحي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وهيمنة القومية الهندوسية داخل الهند، وكذلك انتشار الأصولية الإسلامية في جميع أنحاء منطقتي الشرق الأوسط وجنوب أسيا. وقد ظل شرح هذه الظاهرة، على الرغم من ذلك، بمنزلة تحدٍ حيث يتعارض ارتباط الدين الوثيق بالسياسة المعاصرة مع الافتراضات الأساسية لنظرية الحداثة ونتيجتها الطبيعية، وألا هي أطروحة العلمانية.
فبينما أخذت المؤسسات العلمانية للدول والأسواق في السيطرة على الحياة الحديثة افترض الكثيرون أن أوجه التأثير التقليدية، مثل الدين، سوف تكون ببساطة أقل ارتباطا، في الوقت الذي سادت فيه هيمنة العلم والمنطق من الناحية الفكرية، وأن تساهم الأعراف والأفكار العلمانية في تشكيل المستقبل، وليس الدين.

هل هو الدين أم السياسة؟ رؤية جوهرية

في هذا السياق غالبا ما نظرت العديد من الدراسات الى أن فكرة الظهور المجدد والمعاصر للأصوليات الدينية، يمثل في الأساس صراعا بين أولئك الذي يسعون الى نشر «القيم المتوارثة» للدين في الحياة العامة، وبين دولة تجسد (نظريا) القيم غير الدينية للحداثة العلمانية.
وربما ما عزز وجهة النظر هذه أن الفهم الذاتي لمعظم نشطاء الدين قد عمل على تعزيز هذا الرأي المتعلق بالنظر المتعلق بالسياسات الدينية للدول التي يعيشون فيها. حيث يدعي الإسلاميون على نحو شائع أن الاضطرابات الاجتماعية المعاصرة التي يعاني بسببها المجتمع المسلم تتأصل جذورها في تفتيت المجتمع وفقدان مجتمع أخلاقي ومحاولات فرض حياة دخيلة. ومن هذا المنطلق، فان فصل الدين عن الحياة العامة والتأكيد المفرط على الفرد يعارضان فهمهم للدين الإسلامي.
ومن أجل تجنب ذلك، نادوا بـ «العودة» الى رؤية أكثر أصالة للنظام الاجتماعي الذي تحكمه الشريعة الإسلامية والقيم النابعة من الاتحاد والمساندة. ومن ثم أدرك، النشطاء الإسلاميون المعاصرون، حقيقة الخلافات داخل الشرق الأوسط على انها دينية التوجه وتحركها منافسة ما بين أنظمة القيم المختلفة.

عودة الأصوليات من منظور مادي:

من جانب اخر، حاولت بعض الدراسات تقديم مقاربة بديلة للسياسات الدينية المعاصرة، عبر القول أن فشل التنمية الاقتصادية في تحسين معيشة الشعب، كان بمثابة القاعدة الأساسية لحالة عدم الرضا الشعبي التي جرى التعبير عنها من وجهة نظر دينية. وعلى الرغم من أن مثل تلك الحركات قد عبرت عن شكواها مستخدمة لهجة دينية وثقافية، فان الدافع الكامن كان في الغالب اقتصاديا وسياسيا. ومن هذا المنطلق، أدى الافتقار الى المعايير الاجتماعية والأخلاقية المستمد من التفكك الاقتصادي الناجم عن التحول الى الحداثة الى الرغبة الجامحة في العودة الى الدين.
فعلى سبيل المثال ذكر سعد الدين إبراهيم أن الروابط الطائفية القائمة التي تعتبر خاصية للمجتمعات التقليدية قد تمزقت في الوقت الذي غيرت فيه الحداثة الاقتصادية المشهد الاجتماعي الخاص بها. وكان واضحا في أعداد الهجرة واسعة النطاق لسكان الريف الى مراكز الحضر على مدار الخمسين عاما الأخيرة. وعلى الرغم من رؤية نظرية التحول الى العلمانية لذلك التوجه على أنه بداية سقوط المعتقد الديني، فان علماء الاجتماع قد جادلوا أن له تأثيرا عكسيا، ذلك أن هذا النوع من التغير الاجتماعي الاقتصادي أدى الى الانسلاخ، وشجع على العودة الى الدين على نطاق واسع وتمكن الأفراد من خلال عودتهم الى الدين من العثور على ملاذ امن داخل عالمهم المتحول.
بيد أنه، وبرغم أهمية التأكيد على هذه العوامل المادية في شرح السياق المتعلق بالأصوليات وظهور مناخ من الاحتجاجات، فانه بقي يعكس ميلا معينا لدى الدارسين الغربيين، من أن العوامل الاقتصادية هي الخصائص المحددة لما يقوم به الانسان من أفعال. كما بقي يثير المخاوف من الوقوع في نفس النظرة الجوهرية عبر الافتراض أن الدين متجانس ورجعي من حيث التعريف، بينما تدرك الحداثة من جانب اخر على أنها ليبرالية وديمقراطية ومتسامحة.

إطار رؤية بديلة: النخب السلطوية والدين

في سياق طرح كلا الاتجاهين الجوهر والمادي لدراسة عودة الحركات الأصولية داخل الفضاءات العامة بعد الحرب الباردة، يروم أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة سكوت هيبارد في كتابه « السياسة الدينية والدول العلمانية، ترجمة: الأمير سامح كريم سلسلة عالم المعرفة، 2014) الى طرح مسار توسطي بين هذين المنظورين، عبر السعي الى دمج الاسهامات الخاصة بكل منهما. وذلك من خلال طرح إطار عمل بديل لفهم السياسات الدينية المعاصرة، وتقديم رواية بديلة للروايات التقليدية التي سعت إلى التركيز على الحركات الاجتماعية التي صاحبت المذاهب الأصولية الدينية، من خلال تسليط الضوء على الموقف المغاير للنخب السياسة تجاه الدين، ومحاولة تتبع التغير الذي جرى في مقاربة ومواقف زعماء الدول الثلاث (مصر، الهند، الولايات المتحدة الأمريكية) تجاه الرؤى المحدودة للدين والمجتمع في أثناء حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، والتأثير الهائل الذي تسببت فيه محاولات استغلال التفسيرات الرجعية للدين- من قبل النخب العلمانية- على الخطوط السياسية للأفكار وللنشطاء المنتمين الى ذلك التيار، سعيا وراء استقطاب الدين لأغراضهم الخاصة.
وبذلك يعارض الكتاب بعض الرؤى التي تنسب عودة الدين ببساطة شديدة الى نتيجة فشل مشروع الحداثة، أو أنه نتيجة لمساعي دعاة الدين. فهذه عوامل مهمة لكن لا يمكنها وحدها شرح التحول الأيديولوجي الذي ميز هذه الفترة. ذلك أن دور النخب السياسة العلمانية في الترويج لخطاب ديني مجاهر هو متغير ثالث جرى تجاهله على نحو كبير، وهو ما يحتاج الى دراسة وتحليل. دون أن يكون مقصد المؤلف من ذلك أن الصحوة الدينية أمر يتعلق بتلاعب النخبة فقط، أو أن الحركات الاجتماعية غير مهمة. وليس المراد من ذلك أيضا ادعاء تجريد الدين من عناصره العادية. على العكس، فان الادعاء هنا ببساطة هو أن المكاسب السياسية للأفكار والنشطاء الأصوليين جرى تحريضها على نحو بالغ عندما اختار المسؤولون بالدولة مساندتهم بدلا من قمعهم.

صعود العلمانية المصرية وسقوطها:

يرصد الكاتب في بداية دراسته نشأة القومية العلمانية داخل مصر والسقوط اللاحق لها. فقد شجعت مؤسسات الدولة في أثناء عهد عبد الناصر شكلا مختلفا وليبراليا من الدين الإسلامي دعم رؤية نظم الحكم العلمانية للقومية العربية والاشتراكية. واستخدم ذلك التفسير الليبرالي للتقليد الإسلامي من أجل دعم برنامج للثورة الاجتماعية وتشويه الخصوم السياسيين الذين أيدوا قراءة أكثر سلفية أو حرفية للإسلام. ولذلك وقعت هذه التفسيرات المتنافسة للإسلام في الفخ المتعلق بالصراع السياسي (والأيديولوجي) ما بين الوطنيين العرب وخصومهم داخل جماعة الاخوان المسلمين ومعاقل أخرى للتشدد الديني والسياسي. وقد أثرت سيطرة عبد الناصر على الدولة بشكل كبير في نتيجة هذا الجدل وساعدت في غرس رؤية علمانية للتنمية الوطنية داخل الحياة العامة المصرية.
بيد أن هزيمة مصر في حرب حزيران/ يونيو 1967 مع إسرائيل أضرت بمصداقية المشروع الناصري على نحو كبير، كما أشعلت أيضا إعادة تقييم للمثل العليا التي قدمتها الثورة المصرية في العام 1952. وعلى الرغم من كون هذا التقييم ذو خلفيات اقتصادية وسياسية، كانت لغة الحوار المستخدمة دينية، ما أدى الى إحياء الجدل العلماني الإسلامي، ومع ذلك كانت المحصلة هذه المرة مختلفة. اذ تخلى خلف عبد الناصر، أنور السادات، وزعماء دول اخرون عن الخيار العلماني لمصلحة إسلام سلفي متأثر بالمملكة العربية السعودية، وسعت « ثورة التصحيح» التي قام بها السادات الى استقطاب، وليس مواجهة، الرؤية الإسلامية واستخدامها لبناء قاعدة جديدة لسلطة الدولة. كما تضمنت أيضا استخدام الدين المحافظ لوصم اليسار السياسي وتحريك المشاعر الشعبية تأييدا لسلطة الدولة. وبذلك وضعت هذه السياسات علامة بارزة، كونها مثلت انفصالا رئيسيا عن الإرث الناصري وتخليا عن التوجه العلماني الذي ولدته ثورة 1952 في مصر.
وعلى الرغم من كون نظام حكم مبارك كان أكثر حزما فيما يتعلق بموقفه من الجماعات السياسية الدينية، فلم يقم مطلقا بمعارضة مركزية الإسلام داخل الحياة العامة المصرية. وعلى النقيض، فقد سعى نظام الحكم الى تصوير نفسه على أنه المدافع الأصلي عن المعتقد الديني داخل المجتمع المصري. وعلاوة على ذلك، فان تحالف مبارك مع المؤسسة الدينية الرسمية في سنوات التسعينات من القرن الماضي أدى الى مزيد من التوطيد للتفسير الرجعي للإسلام داخل مؤسسات الدولة المصرية. وضمن إحدى المحاولات التي قام بها نظام مبارك لمجابهة التحدي الأيديولوجي للمجاهدين الإسلاميين، منح نظام الحكم درجة عالية من الاستقلالية لرجال الدين الذين اختلفت رؤيتهم للمجتمع بشكل بسيط مقارنة برؤية المعارضة الإسلامية، وكانت النتيجة بيئة ثقافية أكثر تشددا تم من خلالها الهجوم على الحرية الفكرية وقطاعات السكان من الأقليات.

غرس الطائفية في السياسة الهندية:

بعد ذلك بحث الكاتب في صعود العلمانية التي أسسها نهرو في أعقاب استقلال الهند وسقوطها، والتي حظيت بتأييد المهاتما غاندي الذي نظر الى التسامح وعدم استخدام العنف على انه صفة محورية للهندوسية وكان ذلك هو الأساس الذي بنيت عليه رؤيته الشمولية للمجتمع الهندي. وقد وضع نهرو القومية العلمانية بناء على تلك الأفكار، من خلال منح عضوية الانضمام الى الأمة لجميع من يعيشون داخل حدود أراضي الدولة.
وعلى الرغم من الالتزام الشديد لحزب المؤتمر، المهيمن تاريخيا، بنظام سياسي علماني– ومعارضته للطائفية الهندوسية في أثناء عصر نهرو- فقد تغير ذلك في أعقاب فترة الطوارئ (العام 1977 فصاعدا). ففي أثناء هذه الفترة الأخيرة سعت أنديرا غاندي، وفيما بعدها ابنها راجيف، الى استقطاب خطاب القومية الهندوسية باعتباره أساسا للحشد الشعبي. وقد كان واضحا في الاستراتيجية الانتخابية للحزب التي اعتمدت على الأغلبية في فترة الثمانينات من القرن الماضي، حيث استغلت قضية الخوف من انفصال الأقليات وأخذت تنجذب الى هوية دينية من أجل حشد الدعم ضمن المصوتين الهندوس، وبنجاحهما في استقطاب الطائفية الهندوسية، ساعد كل من انديرا وراجيف غاندي على نحو فعال على استئصال العلمانية باعتبارها أحد مبادئ الدولة الهندية.
وعلى الرغم من فاعلية تلاعب حزب المؤتمر بالسياسة الدينية على الأمد القصير، كانت هناك تبعات غير متعمدة أسهمت في تقليص فائدته على الأمد الطويل، حيث اعتبرت عملية اغتيال السيدة غاندي من أحد هذه الاثار. إضافة الى نشأة التوترات الطائفية وتطبيع القومية الهندوسية واتخاذها خطابا أيديولوجيا. كما ساعد هذا السياق الأيديولوجي المتغير في شرح الصعود المفاجئ والسريع لحزب بهاراتيا جاناتا (المتطرف للديانة الهندوسية) في مطلع التسعينات من القرن الماضي الذي بدأ من حالة أشبه بغموض حتى وصوله الى أعلى سلطة في الدولة خلال عشر سنوات فقط

القومية الدينية في عصر ريغان- بوش:

وفي نهاية دراسته، تفحص- هيبارد- دور المسؤولين الأمريكيين في نشأة رؤية محدودة للدين والمجتمع على حساب البديل الليبرالي في حقبتي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.
حيث بدا واضحا في أثناء فترة رئاسة ريتشارد نيكسون استخدامه سياسة دينية خلف ستار واهٍ كجزء من حملاته الانتخابية الرئاسية 1968و1972. وقد كانت السياسة الثقافية التي اتبعها جزءا من الجهد الأكثر توسعا- المعروف بالاستراتيجية الجنوبية- بغرض إحداث صدع في تحالف «الاتفاق الجديد» للحزب الديمقراطي وتجميع أغلبية محافظة جديدة عبر التقرب إلى المواطنين الجنوبيين البيض من الطبقة الكادحة. وقد اعتمدت هذه الاستراتيجية الانتخابية للحصول على الأغلبية على خليط من الدين والوطنية والعرق من اجل مناشدة جمهور الناخبين الديمقراطيين على نحو تقليدي. ومن خلال وضع غشاوة على الدين والقومية وتحويلهما الى «فكرة أميركا» غير المتبلورة، سعت استراتيجيات الحزب الجمهوري لوصم الأعراف الليبرالية والأقليات والرأي المعارض على أنهم غير وطنيين، كما اعتزمت أيضا استخدام الدين والقضايا الثقافية لكي تحل محل الاعتبارات الاقتصادية باعتبارها أساسا في عملية التصويت ضمن الأمريكيين من الطبقة الكادحة.
وبأسلوب مشابه لحالتي مصر والهند، أسهم الدعم الممنوح من النخب الرئيسية بالدولة منذ عهد نيكسون وريغان وحتى جورج بوش الابن في رفع الحظوظ السياسية للأفكار الدينية الرجعية ومؤيديها. وعلى سبيل المثال، قدم نشطاء الحزب الجمهوري المساعدة لانضمام بعض الأفراد مثل جيري فالويل وأعضاء اخرين من اليمين المسيحي في الحزب واللحاق بالاتجاه الأيديولوجي السائد. وقد غيروا بذلك من طبيعة الحزب الذي ينتمون إليه، علاوة على تغيير اتجاه السياسة الأمريكية.
وعلى الرغم من فقدان الديمقراطيين لدعم المقدم من قبل الجنوبيين المحافظين، فقد همش الجمهوريون الليبراليون أيضا، وذلك نتيجة لتحول مركز الثقل داخل الحزب في اتجاه المحافظين الدينيين.
ومع أن الكاتب يؤيد فكرة أن انتخاب باراك أوباما في العام 2008 مثل رفضا لإدارة بوش للسياسات الدينية وعودة الى رؤية أكثر وسطية لكل من الدين والسياسة، فإنه يبقى متشككا بقدرة إدارة أوباما على إبطال ارث القومية المسيحية وإعادة أمريكا الى جذورها التنويرية.

كاتب سوري

محمد تركي الربيعو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية