علي رافع.. قصة محام فلسطيني قتلت الصهيونية والديه في دير الأسد لكنه شقّ طريقاً ملحمية

حجم الخط
0

الناصرة- “القدس العربي”: “في مثل هذا اليوم من العام 1949، استشهد جدي مصطفى رافع في جبال دير الأسد في الجليل، هو وأخوه سعيد رافع. لم يكمل أبي جيل الثامنة، حينها، وهو يتذكر ذاك الحدث المحفور في ذاكرته حتى اليوم”.

 هكذا تقول الزميلة الصحافية، ابنة مدينة حيفا ودير الأسد في الجليل، نضال رافع، عن النكبة الشخصية لعائلتها التي فقدت شابين شقيقين من أبنائها، في مقدمة تقرير موسع لمؤسسة “خزائن” لحفظ الذاكرة الفلسطينية. وتتابع فيها: “عرف والدي، المحامي علي رافع، اليتم في جيل مبكر، بل كان لطيماً، أي يتيم الأب والأم، وقد حُرِمَ من كلمة يابا طيلة حياته منذ ارتكاب تلك الجريمة الصهيونية الموجعة. أن تكون وحيداً في العيد، المناسبات السعيدة وغير السعيدة، التخرج، الزفاف والعمل كمحام، وكل شيء. ألّا يكون هناك من يسأل عن تحصيلك في المدرسة، ألّا يكون هناك من يقرأ لك قصة قبل النوم، أن يغيب من يسأل عن خاطرك كل صباح. لم يعِ والدي لحظة استشهاد والده، ما معنى تلك الكلمة من ألم للفقدان، ووجعٍ سوف يرافقه طيلة حياته. لقد انقطع الحبل السري بينه وبين والده بفعل النكبة، وأعيد من جديد، حين استقبل وزوجته ابنه البكر مهند. أبي، في هذا اليوم المثقل بكل هذه المشاعر والأحاسيس، نقول لك إننا فخورون بك وبإنجازاتك وتحصيلك ومثابرتك لكي تنجح. إن هذا التصميم والإصرار هو نموذج لنِعمَ الأب. الله يطول بعمرك، ويمنحك الصحة والسعادة والفرح”.

ونشرت الصحافية نضال رافع هذه الكلمات، التي تتضمن مواساة واعتزازاً بوالدها، كمقدمة لتقرير أعدّه فادي عاصلة، مؤسس “خزائن” لحفظ الذاكرة، عن ذلك اليوم الدامي اللعين، معربة عن فرح بمرور خمس سنوات على تأسيس “خزائن”، على أمل الاستمرار بكل جهد ومثابرة لتوثيق روايتنا الفلسطينية، لأن لكل ورقة حكاية”.

عن النكبة وشهادات من حقبة الحكم العسكري

وتشير إلى أن الباحث فادي عاصلة يُعّد في هذه الأيام أطروحة دكتوراه حول الكتابة التاريخية لدى القرويين الفلسطينيين، التي تنطوي على توثيق للتاريخ الاجتماعي للفلسطينيين.

في واحدة من هذه القصص، الموثقة لدى “خزائن”، يقول فادي عاصلة: “في 31 تشرين الأول من عام 1949 دوى إطلاق نار بالقرب من البيوت في قرية دير الأسد في الجليل، كان يومها الحاج رافع جالساً مع زوجته آمنة محمد العكاوي وحفيده علي، حين دوى ذلك الصوت نظر إلى زوجته، هزّ رأسه بحزن، وقال بلغته العامية: “قتلوا أولادك يا آمنة، قتلوا سعيد ومصطفى..”.

ويتابع عاصلة: “كانت هذه العبارة من العبارات التي لن ينساها الحفيد علي، والذي سمع خبر استشهاد والده مصطفى وعمّه سعيد في لحظة واحدة، دون أن يفهم معنى ذلك تماماَ. لم يعرف أحد أسماء الشهداء حينها، كان الطريق الشمالي، والذي يؤدي إلى لبنان، مغلقاً، ضمن إجراءات الحكم العسكري، لكن مريم الرافع، شقيقة سعيد ومصطفى، كانت واقفة أمام المنزل حين مرّ علي الحوراني قادماً من الشمال، فسألته عن إطلاق النار، فقال سقط ثلاثة شهداء في معركة، اثنان منهما أخواك سعيد ومصطفى، أما الشهيد الثالث فتبيّن أنه من قرية الكويكات، واسمه شحادة. هرعت مريم إلى مكان إطلاق النار، مع الكثيرين من أهل البلد، وعندما أحضر الشهداء الثلاثة خلع الأب كوفيته وعقاله وثبتهما على رأس سعيد، لأن مصطفى يلبس حطة، وهؤلاء الشهداء يتم دفنهم بملابسهم بعد الصلاة عليهم”.

ويوضح عاصلة أنه في اليوم التالي ظهر خبر استشهاد الشبان الثلاثة في معظم الصحف العبرية الرئيسية أيضاً كـ “معاريف” و”حروت” و”دافار”، وغيرها، والتي ادعت أن الشبان الثلاثة كانوا ضمن عصابة فلسطينية مسلحة مكونة من عشرين شخصاً، وقد قتلوا بعد تبادل لإطلاق نار، ووجد بجانب الشهداء بنادق وذخائر عسكرية. لافتاً إلى أن صحفاً أخرى حرضت وأضافت، مثلما تفعل اليوم، أنهم كانوا عصابة مسلحة تحاول السرقة، بينما كانوا في الحقيقة في طريقهم الى دارهم بصحبة ضيفهم”.

الثورات الفلسطينية

 منوها إلى أن “العصابة الفلسطينية” لم تكن تحاول السرقة، بل كانت، كالكثير من المجموعات الفلسطينية التي برزت حينها، تشّكلت كي يستعيد أبناؤها ما خسروه من بيوت وأراضٍ، كانوا يحاولون العودة عبر الحدود للاطمئنان على عائلاتهم وأهليهم وممتلكاتهم التي تركوها خلفهم. ويقول إن خير من يحفظ طرق البلاد كان سعيد الرافع، والذي شارك في العديد من الثورات الفلسطينية، وقام بالعديد من عمليات التهريب العسكرية بين فلسطين ولبنان في الثورة وفي معارك النكبة عام 1948 حتى صار علماً في معرفة جغرافيا وطرق البلاد.

ويتابع: “كانت هذه مشاهد الطفولة الأولى التي شكّلت وعي علي رافع، الذي ولد عام 1941، وفقد والدته إبان احتلال دير الأسد، مثلما فقد والده بعد ذلك عام 1949 قبل أن يبلغ الثامنة، وقبل أن يحفظ ملامح وجه والده، ليبقى في عهدة جده وجدته بلا أب وبلا أم، نصف يومه معهم ونصف يومه الآخر في المدرسة الابتدائية في البعنة، ثم بعد ذلك في مدرسة القرية المُطلة على العريض، شرق منطقة العين، المنطقة التي شكلت مساحة للمعارك بين الفلسطينيين العائدين إلى أراضيهم وبين كتيبة الحدود الإسرائيلية “شرطة الصواري”، التي كانت تطاردهم (التي كانت تركب الخيول) لينتهي الأمر دوماً إما بترحيل أبناء المنطقة إلى لبنان، وإما باستشهاد العائدين وبقائهم في أرضهم جثثاً يدفنون بصمت وحزن كحالة سعيد ومصطفى رافع”.

ويقول علي رافع في هذا المضمار: “كثيراً ما كنا، ومن شباك المدرسة، نشاهد مطاردة بين الجنود وبين الفلسطينيين العائدين إلى بلادهم، كثيراً ما كانت هذه المشاهد تكون على مرأى العين، وكان المعلم يقطع تركيزنا حين يقول: انتبهوا إلى اللوح.. رأينا الكثير من الفلسطينيين المقتلعين من أرضهم في لحظتهم الأخيرة وهم يهجّرون من بلادهم، من شباك الصف رأيناهم، رأينا خطواتهم الأخيرة، قبل أن يتحولوا إلى لاجئين. وينوّه عاصلة أن مصير اللجوء كان يمكن أن تواجهه عائلة رافع نفسها.

ويضيف: “يذكر رافع ما حكاه الناس عن احتلال قريته، حين خرج الناطور سعيد بكرية منادياً: “يا سامعين الصوت، صلّوا على النبي، وانزلو عند الكراج بين الزيتون”، حيث تم تجميع الناس، وأطلقت النيران على أربعة من الشبان، وهم الشهيد صبحي محمود ذباح، والشهيد أحمد الأسدي أبو كايد، وشهيدان من البعنة، أحدهما مسلم والثاني مسيحي، وسيرى رافع بيت المختار محمود سعيد الخطيب، وبيت السيد حسن العكاوي، وقد سوّيا بالأرض، وهُدما بالديناميت مع بيت حسين الحاج في البعنة.

اللجوء في قرية يركا المعروفية

ويشير عاصلة، في تقريره، إلى أن مصير التهجير لم يواجه عائلة رافع، والتي كانت قد تركت القرية في آب من عام 1948، ومضت نحو قرية يركا في استضافة الشيخ كامل معدي. يذكرعلي رافع أنهم حملوا فراشهم معهم، ولكن الشيخ معدي رفض أن يستخدموا فراشهم واستضافهم بكرم وترحاب، هذا وقد استضافت قرية يركا العديد من أهالي دير الأسد الذين لجأوا لها. منوها أن هذه الهجرة القصيرة إلى قرية يركا سمحت لمن تبقى من العائلة أن يحصل على الهوية، وأن يثبت وجوده في أرضه. ويشير لنوعين من الهويات كانت تعطى في فترة الحكم العسكري، هوية زرقاء للذين استطاعوا أن يثبتوا تواجدهم في أراضيهم، وهوية حمراء مؤقتة لأشخاص آخرين حسب مزاج الاحتلال وأذنابه. وكان المحامي حنا نقارة، المنتمي للحزب للشيوعي الإسرائيلي، هو أحد المحامين القلائل الذين تجنّدوا واستطاعوا استبدال عشرات الهويات التي تمنع ترحيل أصحابها بعد التوجه للمحكمة العليا”.

ويذكر علي رافع الهتاف الشعبي الشهير الذي ردده الفلسطينيون خلف فاطمة البكري، السيدة الفلسطينية من ترشيحا، التي أصابتها طائرة إسرائيلية بإصابة بالغة أقعدتها طيلة عمرها: في كل مرة كان يتم الحصول على هوية زرقاء بدل الهوية الحمراء كان أهل البعنة ودير الأسد يرددون:

طارت طيارة من فوق اللية (منطقة في الجليل غرب مجد الكروم)

الله معاكم يا شيوعية

وحنا نقارة جاب الهوية

غصبن عن رقبة ابن غوريونا

ويتابع عاصلة: “من شبّاك المدرسة سيسمع رافع هذه الأغاني، سيرى المهجرين والعائدين، سيسمع أصوات البنادق ولهاث الخيل تطارد المهجرين. صور وأصوات رسمت وشكلت هويته وحلمه بأن يدافع عن كل هؤلاء الناس ويعيدهم إلى بلادهم، تماماً كما يفعل حنا نقارة، والذي سيلتقيه رافع بعد سنين وسيخبره بكل ذلك، وسيتدرب في مكتبه ليصير أحد أبرز المحامين في الداخل الفلسطيني الذين سيكملون طريق نقارة.

 كما يقول إن مقعد علي رافع في المدرسة سيحفظ كل هذه الذكريات والقصص والأحلام، وسيشاركه المقعد صديق طفولة، وهو طفل وسيم ولطيف سيصبح له شأن كبير، يدعى محمود درويش، هو الآخر يحمل قصة شبيهة بقصة رافع: فقد فَقَدَ شيئاً من صباه حين خسر بيته في البروة، وحين هاجرت عائلته إلى لبنان، وعادت بعدها لتسكن قرية دير الأسد، في نفس البيت الذي ولد فيه علي رافع، والذي كان قد بيع لشخص آخر في دير الأسد.

ثم بعد سنوات انتقلت عائلة سليم درويش لتسكن في قرية الجديدة في الجليل. صديق رافع هو الآخر اعتاد النظر من نفس الشباك ورؤية كل ذلك، لكن صديقه محمود درويش (1941-2008) لن يصير محامياً، فهو الشاعر الذي سيوصل كل تلك القصص إلى العالمية، قصص “أوراق الزيتون”، و”العصافير التي تموت في الجليل”، و”عاشق من فلسطين”، وسيشكل مقعد الدراسة وشباك المدرسة وتفاصيل هذه المرحلة محاولاته ودواوينه الشعرية الأولى.

ويخلص تقرير “خزائن” للقول: “تطورت في تلك الفترة أيضاً علاقة علي رافع بصديقين جديدين هما زكي درويش، والأديب الراحل شكيب جهشان (1936-2003)، والتي ستكون بداية صداقة لسنين طويلة، كانت نتائجها الأولى انتقال علي رافع للدراسة في ثانوية الرامة، بينما انتقل محمود وشقيقاه أحمد وزكي درويش للدراسة في ثانوية كفر ياسيف. في الرامة كان شكيب جهشان مدرساً للغة العربية، وهناك تعلّم علي في الصفين التاسع والعاشر، ثم انتقل بعد ذلك لينهي دراسته في الصفين الحادي عشر والثاني عشر في مدرسة كفر ياسيف الثانوية. وصل بقسط مدرسة الرامة الثانوية لسنة 1959.

التخرج من الثانوية

بعد التخرج من الثانوية كان على رافع أن يجد منحة جامعية للدراسة، هذه المرة جاءت المنحة من العائلة، من شقيقه كامل، والذي سيمضي نحو العمل في الأشغال الشاقة لمساعدة شقيقه في تحصيله العلمي في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس. توضح الرسائل المحفوظة في “أرشيف علي رافع وسارة جودة” طبيعة العلاقة العميقة والمميزة بين الشقيقين. كما توضح الرسائل، التي يزيد عددها عن أكثر من ثلاثمئة رسالة، في فترة الحكم العسكري، شبكة العلاقات المتشابكة والمتشعبة التي ستُنسج بين علي رافع ومجموعة من زملاء الدراسة، الذين سيكونون من النخب الفلسطينية الجديد بعد النكبة: محمود درويش، صبري جريس، سميح القاسم، زكي درويش، منصور كردوش، حنا نقارة وغيرهم. والتي تستحق أن يفرد لها مساحة خاصة، مساحة لا يمكن فهمها دون فهم هذا الواقع المركب الذي عاشه رافع، وعاشه أكثر من مئة وخمسين ألف فلسطيني ظلوا في الداخل يحاولون استيعاب النكبة وصدمتها ويحاولون إعادة بناء هويتهم، هوية وطنية، ساهمَ رافع مع أبناء جيله في تشكيلها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية