عتمة صباحية

بفنجان القهوة في يدي أقف في الغرفة المعتمة لصق الستارة، أتظاهر بالشرود بينما أرسل نظرة مائلة من تحت رموشي تتسلل مثل خيط بالميل نفسه عبر السنتيمترات العشرة الفاصلة بين الستارة وضلفة الزجاج. تلتقي عيناي بعينيها المتظاهرة بالشرود هي الأخرى. لابد أنها تنتظر هذا التلصص الصباحي، لأنها اختارت الرقود بميل يُمكّنها من مراقبتي بيسر وطبيعية. لا يبدو في عينيها المفتوحتين أي اعتبار لنظرتي، لا جفول المفاجأة، لا خجل الانكشاف، ولا فزع الخوف من الاعتداء، ولا يمكن وصف نظرتها الثابتة بالوقاحة.
لا شيء في عينيها الكهرمانيتين سوى فخر الأمومة ودلالها. وفي عيني، لا شيء سوى تلك المراودة الصباحية، لنفسي وليس لها.
ـ اصبر، سيأتي يوم تتمكن فيه من جمع الستارة ودفع ضلفتي الخشب للخارج فينساب النور.
سكون صباح الجمعة يضاعف هدوء المنور بين العمارتين المتواجهتين ظهرًا لظهر. أشتاق إلى قليل من الضوء، إلى برهان على صبح جديد، لكنها لا تبرح مكانها وتتركني ممتثلاً للأمر الواقع، راضيًا بالعتمة حتى في النهار، دون أن يبدو في عينيها أي أثر للامتنان.
ـ حقك.
أقول لها، بلا ضغينة، وأنصرف مصممًا على إكمال وعد قطعته على نفسي عندما استيقظت أبكر من المعتاد ذات يوم على صوت خرخشة ارتطام متكرر في الضلفة الخشبية من الشباك، خفت أن يكون ثعبانًا أو فأرًا يحاول التسلل إلى داخل الغرفة. أزحت الستارة فرأيت ذكر يمام بري يحاول الهبوط وفي فمه قشة، عندما رآني عاود التحليق وانتظر متربصًا بحمله في الشباك المواجه لشباكي. أخذ ينظر لأساسات عشه التي وضعها على عتبة شباكي. وأخذت أنظر إلى حفنة القش ذاتها بين طبقة الخشب الخارجية المواربة وطبقة الزجاج المغلقة.
الضجة التي تتسبب في إيقاظي قبل أواني تضع مرتكبها في عداد الأعداء، لا أتسامح معه إلا بعد قيلولة تزيل آثار عدوان أربك صباحي بهزال وضيق جعل الوقت عديم الجدوى. كدت أمد يدي لأزيح قبضة القش وأفتح شباكي للنور، لكنني أحكمت الستارة وانسحبت إلى سريري أتابع الخرخشات مجددًا.
ما الذي حملني على هذا التسامح؟ فضول طفولي بلا هدف؟ انتظار وضع الأنثى لبيضتيها ثم خروج الفرخين والتقاط صورة متفاخرة؟
ـ انظروا، حتى اليمام يستأمنني على أفراخه!
ابتسمت، للخاطر، لكنني لست بنكًا لأستفيد من دعاية كهذه، وليس من بين طموحاتي افتتاح حضانة أطفال. تصاعد جنوحي إلى الفكاهة مستعيدًا هلع باتريك زوسكيند في قصة ‘الحمامة’ وقد صار خوف بطل القصة رعبًا واقعيًا مصريًا وجنونًا سببته منذ أشهر ما قيل إنها حمامات تجسس. هل يكون هذا العش نقطة استطلاع متقدمة لأعدائي؟
لكن هذه مجردة غرفة نوم لا يحدث فيها إلا ما يحدث في غرف النوم. استلقاءة مجهدة على نصف سرير مع كتاب أو كمبيوتر لوحي أقرأ فيه الصحف وأدون شيئًا على حسابي في تويتر والفيسبوك، وأتلصص على ما يدونه الآخرون، أراجع بريدي. هل هذا كل شيء؟ للأمانة، أكتب في هذه الغرفة أحيانًا، لكن ما أكتبه مجرد مقالات تخرج إلى العلن بعد ساعات معدودة من كتابتها.
ـ سأترك العش يكتمل.
قلت بتصميم ألا أُتسبب في إزعاج جيراني الجدد. ربما أردت أن أثبت لنفسي قبل أي أحد آخر أن ثمة ركن هادئ في مدينة فقدت سكينتها، أن بيتي آمن لم يزل، وهذا هو البرهان: زوج من اليمام البري المرتاب يعشش في شباكي.
ما عليّ إلا أن أكون عند حسن ظنهما بي، وهذا ما كان. لم أفتح نور السقف منذ أسبوع، فقط مصباح القراءة الذي يعطي ظهره للشباك متوجهًا بشعاعه إلى صفحة الكتاب أو لوحة المفاتيح، ودعت الموسيقى التي أحبها، لأنني لا أعرف ذوق جيراني. هل يزعجهما الشخير الذي لا أستطيع تفاديه عندما أنام متعبًا أو غاضبًا؟
أفعل ما ينبغي أن يفعله جار مهذب، باستثناء نظرة متلصصة في الصباح، على الرغم من هديلهما المبكر الذي يدفعني إلى صحو مشوش قليل النضج، ومن حسن الحظ أن اليمام البري لا يحتاج سوى خمسة عشر يومًا ليفقس بيضه، بعكس الحمام الداجن الذي يستمريء الأمان ويكمل ثلاثة أسابيع من الرقود.
سأصبر أسبوعًا آخر في العتمة والصمت. ولا أعرف كيف ستكون أولى نظرات الفرخين إلى وجهي عندما يخرجان إلى النور، هل سأرى في عيونهما امتنًانًا على تضحياتي؟ كما إنني لا أعرف شيئًا عن مشاعر الذكر الذي لم أعد أراه، حيث أبدأ بالاستيقاظ على غزلهما الصباحي وعندما أقف لأسرق نظرة لا أرى سوى أنثى متحققة في الحب، تنظر إليّ بثبات وفخر الأمومة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية