عبد الواحد بنعضرا: نهايَة الأندلس بدأت مع فتْحِها

ينطلق عبد الواحد بنعضرا في كتابه الجديد «معركة العقاب ومصير المسلمين بالأندلس دراسة نقدية جديدة» من منشورات افريقيا الشرق في المغرب (2024) من سؤالين أساسيين: إلى أي حدّ اضطلعت معركة «العقاب» بدور في تحديد تقرير مصير المسلمين في الأندلس؟ وما حجم تأثيرها في ذلك؟
لقد حاول في بداية دراسته التعرّف على تأثير معركة العقاب في المناطق التابعة للموحدين، على أساس أن هذه المناطق شهدت أزمة بفعل الهزيمة، لكن تقدمه في البحث جعله يلاحظ، أن الأمر أعمق من أن تتسبب فيه هزيمة عسكرية في معركة، إذ يتساءل: كيف في إمكان معركة واحدة زمن الناصر الموحدي أن تقضي على إمبراطورية كبيرة؟ كيف لمعركة واحدة أن تتسبب في ضياع الأندلس؟ ويجيب لا شك في أن العطب كامن من قبْل هذه المعركة؛ لأن سيرورة ضياع الأندلس انطلقت قبْل المرابطين، ولم تبدأ مع فترة ملوك الطوائف، بل هي أبعد في الزمن من ذلك.
لقد تبيّن للباحث عبد الواحد بنعضرا، انطلاقاً من تصور خلدوني، أن فكرة الأندلس وُلِدت وهي تحمل معها أسباب نهايتها، وهي الأطروحة التي يحملها الكتاب؛ أي أن البدايات حملت في رحمها جرثومة لنهاية حتمية مهما طال وجود المسلمين في الأندلس، بحكم أن ظروف دخول المسلمين لشبه الجزيرة الإيبيرية كان سببا واضحا ومؤثرا على الوضعية الهشة للأندلس. والدليل على ذلك في نظر بنعضرا هو أنه لم تمر سوى مدة قليلة على دخول طارق بن زياد، وبعده موسى بن نصير إلى الأندلس، حتى فكّر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز في إخلائها من المسلمين، وأكثر من ذلك أشارت بعض الروايات إلى أن الأندلس كادت تخلو من المسلمين في مطلع ثلاثينيات القرن الثاني الهجري، بفعل المجاعة التي تسبب فيها الصراع بين العرب والبربر، ومغادرة الكثير من الأخيرين نحو شمال افريقيا، ويضيف أن ما يؤكد أعطاب البدايات (ظروف دخول المسلمين لتلك المناطق وتداعياتها) هو ضياع صقلية نفسه وعجز المسلمين عن استرجاعها. تمشّياً مع طبيعة الإشكالية للموضوع المدروس والقضايا المهمة التي أثارها، ولبسط أطروحته والاستدلال عليها قسّم عبد الواحد بنعضرا كتابه إلى أربعة فصول.
ناقش في الفصل الأول مجموعة من المفاهيم وهي: «الأزمة» «التقدم» «السقوط» عند مجموعة من الباحثين المغاربة، وبيّن تهافت طروحاتهم وكشف عن عدم ملاءمتها للسياق الأندلسي، لأنها لم تراع سياقات تبلور هذه المفاهيم ولا سيما مفهوم التقدم. وعمل جاهداً على فحص الدلالات التاريخية والفلسفية لهذه المفاهيم لدى مجموعة من المفكرين العرب والغربيين، وتوصل إلى عدم ملاءمتها لدراسة التطورات التي حدثت في الأندلس، بحكم أن الفعل الإنساني في كثير من المجالات وأهمها الفلاحة لم يقطع مع ما قبله. ليخلص إلى القول: «رأينا مما سبق، أن مفاهيم «الأزمة» و»التقدم» و»السقوط» لم تفدنا في تعميق البحث، بل زادتنا تشويشا».

لذلك دعا بنعضرا إلى ضرورة تعويضها بمفهوم «نهاية الأندلس» ومفهوم «إعادة إنتاج الحدث» مؤكدا أن بحثه «كان معنياً بالنفاذ إلى المعنى المتمثل من قبَل الجماعة الأندلسية لحدث ما، أو ظاهرة ما، وليس الاكتفاء بالوقوف عند مستوى معرفة صحة وقوع الحدث من عدمه، أو أصل الظاهرة، أو مدلولها، من منظور أنثروبولوجي، لم يكن مطروحا في تلك الجماعة أصلا. من هنا تأكيدنا على أهمية اقتراحنا مفهوم «إعادة إنتاج الحدث».
أما في الفصل الثاني فتطرق إلى تداعيات معركة العقاب على الأندلس ومصير المسلمين فيها؛ من خلال مناقشة ما جاء في المصادر العربية عن علاقة المعركة بما وقع بعدها في الأندلس أي تداعياتها، إذ أجمع المؤلفون المرينيون والأندلسيون النصريون على أن ضياع الأندلس بدأ بعد معركة العقاب التي تمّ تحميلها مسألة ما وقع في الأندلس من جهة. ومن جهة أخرى من خلال وضع مجهودات ومحاولات الأندلسيين لإنقاذ ما تبقى من الأندلس موضع النقد والدراسة؛ إذ أكد الباحث عدم وضوح خطة الأندلسيين في إنقاذ الأندلس، فبعضهم الذين خرجوا ضد الموحدين، وجهوا سيوفهم ضد المسلمين أكثر من توجيهها ضد المسيحيين، بل كانوا سببا في ضياع العديد من المناطق، نظير صنيع ابن هود، وسرعان ما تنازلوا عن الكثير من المناطق للخصوم، كما فعلت دولة بني الأحمر التي تواطأت كثيرا مع القشتاليين. ومما زاد من تفاقم الوضع هو الاضطرابات السياسية والتمردات الجماعية، لينتهي الباحث إلى التأكيد على غياب خطة واضحة المعالم لدى الاندلسيين لاسترجاع ما ضاع من أراضيهم، أو حماية ما تبقى، وبالتالي ينبغي عدم تحميل هزيمة العقاب مسؤولية نهاية الأندلس.
أما الفصل الثالث فعالج فيه مسألة فتح الأندلس ووضعيتها الهشة، بحكم كونها منطقة ثغرية، أي أنها منطقة حدودية مواجهة للخصوم. وافتتح هذه النقطة بالحديث عن تسمية الأندلس وعلى المناطق التي كانت تطلق عليها، ولاسيما الجزر المتوسطية كمالطا، انطلاقا مما ورد في الكثير من المصادر العربية الإسلامية، ما خلق الالتباس لدى الكثير من المؤرخين. وهو الأمر الذي سمح لبنعضرا بنقد فكرة فتح الأندلس، كما تمثلها الكثير من المؤرخين، مؤكدا أن دخول المسلمين لشبه الجزيرة الإيبيرية لم يكن مخططا له من قبل، بل كان مجرد تلبية لطلب بعض الإيبيريين وعلى رأسهم يليان، الذي اضطلع بدور رئيس في عملية الاستنجاد بالمسلمين لمواجهة لذريق. وبالتالي، لم يتّخذ دخول المسلمين للمنطقة شكل جهاد، أو فتح، بل إن الأمر تطور لاحقاً بعد هزيمة لذريق. وبناء على ذلك أكد بنعضرا، أن عملية السيطرة على شبه الجزيرة الإيبيرية كانت مغامرة من طارق بن زياد، اضطر موسى بن نصير لترسيخها لاحقاً.

وقد استعان طارق وموسى بيهود الأندلس لتثبيت سيطرتهم على البلاد، نظرا لقلة عدد المسلمين الداخلين إليها حينها. وقد شكّل ضم البلاد للخلافة الأموية عبئاً إضافياً على مركز الخلافة في المشرق، وقد تجلى ذلك بوضوح في محاولة الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز إخلاءها من المسلمين، قبل قراره العدول عن عزمه، مقابل ذلك رسخت مختلف إجراءات الخلافة الأموية وضعية الأندلس كمنطقة ثغرية، ما سمح بظهور ما أطلق عليه «الإقطاع العسكري». في حين ناقش في الفصل الرابع أعطاب بدايات المسلمين في الأندلس، من خلال تناول ظروف دخولهم لشبه الجزيرة الإيبيرية، وتداعيات ذلك على الأندلس التي تميزت بوضعية هشة هددت مصير المسلمين بها، وهو ما تولّدت معه القابلية للنهاية، وقد برز ذلك واضحاً في موضوع النبوءات.
أكد عبد الواحد بنعضرا أن ملابسات دخول المسلمين لشبه الجزيرة الإيبيرية، كانت لها تداعيات خطيرة على وجود المسلمين فيها، إذ تسبب في التباس وضعيتهم فيها، سواء بالنسبة لعلاقتهم بالأرض أو علاقتهم ببعضهم بعضا أو علاقتهم باليهود والمسيحيين، ما كان سببا في النزاعات بين المسلمين حول الأرض وحول مشروعية الحكم، وعدم قدرتهم على مراقبة كل البلاد، نظرا لقلة أعدادهم، ما سمح بنشوء مملكات «إسبانية» جديدة، وتوسعها على حساب المجال التابع للمسلمين. وقد استفحل الأمر على وجه الخصوص مع ظهور الدولة الأموية في الأندلس، التي صاحبتها الثورات منذ البداية مع غياب دعوة دينية /مذهبية مشرعنة لقيام عبد الرحمن الداخل، مبررة لحكمه وانفصاله عن الخلافة العباسية. وقد لاحظ عبد الواحد بنعضرا أن أعداد جنود السلطة المركزية والمنْتزّين لم يكن كافيا، لا بالنسبة للدولة لتراقب المجال الأندلسي ولا لخصومها لتمكينهم من حسم صراعهم مع السلطة المركزية وتحقيق الانفصال التام عنها والإعلان عن ميلاد إمارات جديدة مزاحمة للإمارة الأموية. بل ظل الأمر سجالاً فيه شد وجذب قبل سنوح فرصة الانفصال التام عن السلطة المركزية، بل القضاء عليها، وبالتالي ظهور حكم ملوك الطوائف. كل ما سبق أسهم في ترسيخ هشاشة وضعية الأندلس، ما سمح للباحث عبد الواحد بنعضرا بتأكيد أطروحته المتمثلة في أن ظروف دخول المسلمين لشبه الجزيرة الإيبيرية، دشنت لقابلية الأندلس للنهاية، وأصبح ذلك احتمالا قريب الوقوع، تدخّلت بعض الظروف لإجهاضه أو تأخير وقوعه أو التخفيف من حدته (كتدخل المرابطين والموحدين) وتحقق في ظروف لاحقة وِفْق سيرورة تراوحت بين التباطؤ والتسارع. وتوصل بنعضرا إلى عامل آخر كان له تأثير كبير في نهاية الأندلس وهو استبطان الأندلسيين وتقبّلهم النفسي للنهاية، التي اضطلعت النبوءات بالترويج لها، عبر الإنذار بخراب الأندلس وبضعف الإسلام فيها إلى جانب عناصر أخرى. إذ تعايش أهل الأندلس مع توقعات النهاية، دون اختفاء تلك التوقعات بالمرة. كانت تتوارى إلى الخلف أحيانا، لكن تأثيرها، الذي تراكم مع مرور السنين بفعل مجموعة من الوقائع وإعادة إنتاج روايات الفتن والملاحم، كان يظهر في النظرة التشاؤمية عن مصير الأندلس لدى بعض أصحاب القلم، وفي كثير من المحطات مثل عقد بيعة شنغول بن الحاجب العامري، وفي موضوع مهدوية هشام بن عبد الجبار وبعض الحموديين، وفي موقف الخليفة عبد الرحمن الناصر من تحصين بیشتر. ليخلص بنعضرا إلى القول: «من هنا، بات تحميل المسؤولية الكبرى لـ»معركة العقاب» غير مفيد ولا منتج علميا».

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية