عبد الملك مرتاض… رجل العربية الأول

حجم الخط
0

غادرنا العلاّمة الجزائري عبد المالك مرتاض يوم الجمعة الموافق لـ3 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عن عمر 88 عاما، بعد مسيرة علمية حافلة ومسار بحثي طويل، مخلفا رصيدا معرفيا تعجز عنه الكثير من المؤسسات رغم ما تملكه من إمكانيات مادية وبشرية.
لقد حُق لفقيد الضاد أن ينام مرتاحا، وقد ترك وراءه جيلا من الباحثين الذين نهلوا من علمه، وخبروا موسوعيته، فبالعودة إلى حياته العلمية الطويلة التي بدأها في خمسينيات القرن الماضي طالبا باحثا تنقل بين أقطار عديدة، نكتشف أنها كانت حلقات مفصلية في تكوينه العلمي والمعرفي. فمن بداية تعلمه على يد والده الفقيه الشيخ عبد القادر بن أحمد بن أبي طالب وصولا إلى الدكتور إحسان النص والمستشرق أندريه مكاييل وغيرهم تشكلت لدى المرحوم عبد الملك مرتاض رؤية خاصة به، تتعامل مع الأفكار والمعارف بعين معرفية عبر تخصصية دون أن تنقصها الدقة. فقد كان يملك عينا نقدية ثاقبة، تسبر الأعماق وتنفذ إلى لب الفكرة، ولا تكتفي بالمتداول والمألوف والشائع من الأمور.
لقد مثل عبد الملك مرتاض صفة الباحث المتعدد، الذي يؤمن بالتكامل المعرفي، فلم يقبل يوما أن يسجن في زاوية التخصص الضيق القاتل. وهو ما أهلّه ليكون نموذجا للباحث العابر للتخصصات، فهو صاحب معرفة واسعة بالعربية وأسرارها واستعمالاتها، وله في ذلك مُلحا لغوية «مسجلة» باسمه، لا ينازله فيها أحد. ويكفيه أنه استدرك في كثير من أعماله على ما جاء عند بعض اللغويين القدامى والمعاصرين، ولمن أراد أن يكتشف هذه القدرة الفائقة، فيكفيه العودة إلى كتابه الرائد: نظرية اللغة العربية: تأسيسات جديدة لنظامها وأبنيتها. وهو أيضا الناقد العارف بأحوال الدرس الأدبي وتحولاته المعرفية، المطلع على المذاهب والتيارات والمدارس والمقاربات والمناهج الأدبية الشائعة في الدرس النقدي الغربي، دون أن يغفل عن مثيلاتها في المنجز العربي تراثا وحداثة. وله في ذلك أيضا كتبا ودراسات لا يمكن إنكار قيمتها العلمية والمنهجية. كما إن للمرحوم تجربة جادة في الانفتاح على المعارف المجاورة للدرس اللغوي والأدبي العربي، فقد قدّم دراسة تطبيقية قارب فيها المعلقات السبع من منظور يجمع فيه بين التحليلين الأنثروبولوجي والسيميائي قلّ نظيرهما. وله أيضا في مجال علم الإناسة معجما موسوعيا اشتمل على مصطلحات أنثروبولوجية تتبع فيه مصطلحات العلاقات والعادات والتقاليد في المجتمع العربي منذ القديم.
يتوزع المشروع المعرفي لعبد الملك مرتاض، رحمه الله، بين مجالات متجاورة، فقد كتب في نظريات النص والتناص والنقد والرواية والقراءة والبلاغة وفي تحليل الخطاب الشعري والسردي، وفي نظام الخطاب القرآني وفي نظرية اللغة العربية، ودراسات حول المقامة وألف ليلة وليلة والشعر العربي قديمه وحديثه..
من دون أن نغفل مشروعه الموازي في كتابة الرواية والقصة حيث يملك مجموعة من الروايات التي نذكر منها نار ونور، وادي الظلام، الخنازير، صوت الكهف، حيزية، الطوفان، ومجموعات قصصية منها هشيم الزمن. وسيرة ذاتية موسومة بـ»الحفر في تجاعيد الذاكرة». ومما يجب ذكره في حق الرجل أنه كان ابنا بارا لبلده، مدافعا عن الموروث الثقافي الجزائري لغة وأدبا وممارسة شعبية، مهتما بالألغاز والأمثال الشعبية الجزائرية والقصة الجزائرية المعاصرة والأدب الجزائري القديم، ونهضة الأدب العربي المعاصر في الجزائر، والعامية الجزائرية وصلتها بالفصحى، وفنون النثر الأدبي في الجزائر، والشيخ البشير الإبراهيمي وأدب المقاومة الوطنية وغيرها
رحم الله عاشق الضاد عبد الملك مرتاض ونفع بعلمه وبطلبته الذين يتوجب عليهم تحمل المسؤولية في إكمال مشروعه المعرفي المتعدد الذي عاش من أجله إلى آخر أيام حياته، ونتمنى أن نرى في المستقبل مؤسسة معرفية، أو مركز بحث باسم عبد الملك مرتاض عربونا بسيطا لما قدمه للجزائر تدريسا وتأطيرا وبحثا وتأليفا.

أكاديمي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية