«عباءة غنيمة»…التاريخ والتفاصيل

وأنت تقرأ رواية «عباءة غنيمة» للكويتية عائشة عدنان المحمود، التي أنجزتها مؤخرا بعد رواية «وطن مزور» التي تحدثت فيها عن معاناة فئة من سكان الكويت، ومجموعة قصصية لم أطلع عليها، لابد أن تحس بشيء من الاندهاش، إزاء رواية لم تغفل شيئا من التفاصيل المطلوبة لصياغة حكاية ناجحة، وربطت تاريخ دولة الكويت بتاريخ أسرة يعمل عائلها في التجارة، ويمثل الرمز الأكثر ثقافة وتحضرا في الأسرة الكبيرة الممتدة، بدليل أن الأعراس كانت تجري طقوسها في بيته، والعزاءات أيضا تقام في ذلك البيت.
لوهلة وأنت تقرأ عن غازي الكبير، والرأسمالي، والعاشق لمريم، والطامح لتجيء له زوجته بفيصل، الذي سيسميه على عمه المحبوب، بالرغم من وجود عبد العزيز، الولد الأكبر، تكتشف أن غازي سيسير بالحكاية حتى النهاية، وأن رؤيته هي الرؤيا، التي ستسيطر على الحكي، بوصفه صانع التفاصيل البيتية ومالكها، لكن لأن فيصل جاء فعلا، ووجوده في البيت الكبير، وسط النساء كطفل أولا، مكنه من الإمساك بكثير من التفاصيل الصغيرة، التي ربما لا يعرفها غازي، أو لا ينتبه لها في زحمة مشاغله، وعبوره السريع بالبيت الداخلي إن عبر،، ثم إمساكه بعالم الرجال، بعد أن كبر قليلا، سببا آخر ليروي الحكاية حتى النهاية.
بلسان فيصل إذن، الصوت الذي صاغته الكاتبة جيدا، ملأته بكل خصائص الرجولة المفترضة، وتحدثت به، نتابع كتابة سلسة، عذبة، جاذبة، بعيدة تماما عن الجمل المشحونة بالبلاغة، والزركشة اللفظية.
نحن ننتبه لتفاصيل غاية في الإبهار، هي بمثابة معلومات قد تكون جديدة، تمنح الرواية فهما آخر، بوصفها رواية معرفة: الأكل والشرب، الذي كان سائدا في زمن الأربعينيات من القرن الماضي، وما بعد ذلك.. الأزياء التي قد لا نعرفها، وغالبا لا تذكر في الكتابات الروائية، ربما لعدم إحساس الروائي بأهميتها، مثل الدشداشة الخليجية، التي ما تزال قائمة حتى الآن، وتتنقل في الأزمنة جميعا، ملابس النساء مثل البطولا والبخنق، والعباءة، وكلها أزياء كانت سائدة، ولم يبق منها سوى العباءة، التي تطورت تطورا كبيرا في الآونة الأخيرة، وصارت لها زخارف وألوان شتى، بعد أن كانت مجرد غطاء أسود فضفاض، بلا أي إضافات.
لابد أيضا من وصف للبيوت في ذلك الوقت، وكيف كانت غرفا متجاورة، بلا معمار مميز، وأهم ما فيها فصل الداخل النسائي عن مجالس الرجال، وفي بيت واحد مثل غازي، معرض لغزوات الضيوف، وإقامة المناسبات فيه، لابد من مجلس كبير متسع، ولابد من خدمة جيدة، تقدم لمرتادي البيت، وهو ما كانت تفعله الزوجة مريم، بمساعدة أمينة الصامتة، المطيعة في معظم الأحيان، وما يتوفر من الجارات في كل وقت.
نحن نلم كذلك بتفاصيل الشتاء، ذلك القارس الصحراوي الذي يلسع الأماكن، ويحول الناس إلى كائنات بيتية. وحين تقرأ عن الشتاء في عباءة غنيمة، تحس أنك إزاء شتاء آخر لا يشبه الشتاءات المعروفة، أو أنك لم تعش شتاء من قبل، ذلك أن الكاتبة على لسان الراوي فيصل، تحول الشتاء إلى فصل يلسعك في ذهن القراءة.
المطر، ليس قطرات ماء، ولا حتى سيولا وعواصف فقط، إنما هو طقس حميم، يهابه الأطفال ويتذوقونه في الوقت نفسه، ويراقبون الدوائر، التي يصنعها إلقاء حجر في البحيرات المتكونة، وتخافه البيوت المهلهلة، بينما البيوت الراسخة مثل بيت التاجر غازي، تحوله إلى طقس منهزم، لا يمس منها شعرة، ويندلق ليغرق الطرق فقط.
ثمة قصص حب متعددة، بعضها نضج واستقر، وبعضها فتر كما تفتر قصص الحب عادة، قصة حب غازي ومريم، التي كانت مشتعلة حتى وقت متقدم من العمر، قصة بدور وفهد ابن العم، الذي كان معهم في البيت وغادر، ثم تحول إلى عابر في الطريق، قد يعبر وقد لا يعبر، وتراقبه بدور الجميلة، الهادئة والجريئة، الساعية للتحرر أيضا، عبر فرجة في النافذة، تماما كما تراقب الحمام والمطر، إنه حبها الأول، الذي ستتزوجه بعد ذلك وتنتقل معه، تاركة قلب أخيها فيصل ينفطر، وكرهه لفهد يزداد. فيصل نفسه أحب وأخفق، وكثيرون في الرواية تعلقوا بالجمال وأفلتوه.
فماذا عن الجدة مزنة؟.. تماما ومثل أي جدة في أي مكان، تمتلك مزنة خزائن الحكايات وأسرار السرد الأسطوري، وقصص ما قبل النوم للصغار، وأيضا تمتلك الصوت الأكثر علوا في مجالس الحريم.. إنها الرمز الدال على الحكمة، والرسوخ، ولم يرد ذكرها لمجرد كونها جدة، وأعتقد أن دور الجدة عموما في المجتمع الخليجي، مهم جدا، إنها نقطة تجمع أفراد العائلة، حتى لو كانوا على خلاف.
وغنيمة، صاحبة اسم الحكاية، امرأة «درويشة» من أهل الله، وأعتقد أن العنوان الذي استلهمها كان موفقا جدا.. هنا نستلهم البساطة، وحسن النوايا والتناغم مع كل ما هو شعبي، وتراثي، ولعل الحوار الذي كان يأتي بالعامية الكويتية القريبة من عامية أهل الخليج عموما، يأتي على قلته مناسبا ومفهوما، وفيه كثير من الإضافة.
إذن ماذا عن الكويت الوطن، ذلك الوطن، الذي كان حتى بداية ستينيات القرن الماضي، يرزح تحت الحماية البريطانية؟.. نعم ستحصل الكويت على استقلالها، وسيحتفل النص بذلك، كما احتفل في صفحات عدة بفلسطين ومصر، والعرب جميعا.
لكن لابد من حذر، فنيل الاستقلال ليس نهاية الأمر، هناك دائما تربصات ومخاوف، وتجهمات وربما إحباط كبير، لكن الوطن لا يغرق رغم ذلك.
«عباءة غنمية» إذن رواية مهمة في السياق المعرفي والحكائي، كتبت بتناغم وجمال، ووضحت أفكارا كثيرة، بشيء من الجذب. وأظنها إضافة جيدة للأدب الخليجي، الذي تطور كثيرا.

كاتب سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية