عالم الاجتماع العراقي والمختص بسياسات التنمية الدكتور دارم البصام: مرحلة ما بعد الصراع في ليبيا يجب أن تقترن بالحوكمة الرشيدة وصياغة عقد اجتماعي جديد

حاوره: رشيد خشانة
حجم الخط
0

أكد عالم الاجتماع والمختص بسياسات التنمية الدكتور دارم البصام، أن رد الاعتبار لثقافة الثقة، واستطرادا اقتصاد الثقة، في مرحلة ما بعد الصراع في ليبيا، يجب أن تقترن بالحوكمة الرشيدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وصياغة عقد اجتماعي جديد، قائم بالأساس على الديمقراطية التشاركية، التي تضمن علاقة مغايرة بين الفرد والمجتمع، من خلال الاقتران بين الشرعية والمشروعية. وأقر الدكتور البصام، الذي عمل في ليبيا قرابة سبع سنوات ككبير المستشارين لدى برنامج الأمم المتحدة الانمائي، كما عمل مستشارا لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بين 2015 و2018 أقرَ بأن ذلك أمر ليس بالسهل في المدى المنظور. وحض في حوار مع “القدس العربي” على وضع سياسات وطنية للبحث والتطوير، والانتقال إلى الاقتصاد المعرفي، وتخلي القطاع العام عن دور إنتاج السلع والخدمات، وهنا نص الحوار:

*إذا ما تأكد الاتجاه الحالي نحو تسوية سياسية للصراع في ليبيا، كيف ترى إمكانات إعادة هيكلة الاقتصاد الليبي؟

** بداية، في الدول التي تعبُرُ إلى مرحلة “ما بعد الصراع” كما هو الحال في ليبيا، علينا أن نفرق بين الإصلاح الاقتصادي (قصير الأمد) وإعادة الهيكلة الاقتصادية (في المدى المتوسط) وفي إطار استراتيجيا بعيدة المدى، لتنويع مصادر الدخل، والابتعاد عن الاتكال الكامل على مصدر أحادي، وهو النفط. الإصلاح الاقتصادي قصير الأمد يتطلب إعادة النظر في السياسة النقدية والمالية العامة، وإصلاح قطاع النفط، والمؤسسات الحكومية، وتوحيد المؤسسات السيادية وتحقيق التوازن والاستقرار الاقتصادي والمالي، وإصلاح سعر الصرف والقضاء على السوق الموازية، وإصلاح الدعم والحد من التضخم، وتحقيق الاستقرار في الأسعار وإنجاز الاصلاح الضريبي.

تغول الاقتصاد الرمادي

أما إعادة الهيكلة الاقتصادية وبرامجها، فتشمل الإصلاح على المستوى القطاعي، الكهرباء، المواصلات، الطاقة، التعليم، الصحة، الاسكان، المرافق العامة، وكذلك إصلاح سوق العمل والحد من تغول الاقتصاد الرمادي (التهريب والفساد بشبكاته) وتقليص هيمنة القطاع غير المنظم وإصلاح بيئة الاستثمار والتخفيف من القيود، ووضع سياسات وطنية للبحث والتطوير، والانتقال إلى الاقتصاد المعرفي، وتخلي القطاع العام عن دور إنتاج السلع والخدمات، وأخيرا وضع سياسة متكاملة للحماية الاجتماعية والحد من الفقر.

*أنت تقترح أن يركز بُناة الاقتصاد على إعادة التصدير، لماذا تطرح هذا الطرح؟

**إعادة التصدير كامنٌ في الذاكرة الوطنية الليبية، فهكذا كان الأجداد يعملون في التجارة باعتبارهم جسرا بين أوروبا وأفريقيا، وهو أنموذج يصلح بالأساس للدول التي لا يكون فيها رأس المال عنصر ندرة، بل هناك فوائض مالية يتوجب توظيفها من خلال هذا المنوال التجاري، مما يسهم في المنظور بعيد المدى لتنويع الدخل.

أمامنا أنموذج دبي، ففي سبعينيات القرن الماضي، كانت دبي تعتمد على النفط بنسبة تصل إلى 68 في المئة من الدخل القومي، وحاليا لا تتعدى تلك النسبة 6 في المئة. لكن إعادة التصدير لا تكفي لوحدها، فهناك قطاعات مساندة ينبغي تطويرها، من الاستثمار في المناطق الحرة وتجارة الخدمات الاقتصادية، وإنشاء المدن الخدمية (مدينة الصحة، مدينة التعليم، مدينة الإعلام…) على غرار تجربة دبي.

*من عيوب المنوال الاقتصادي الليبي تضخُمُ عدد العاملين في القطاع العام، كيف يمكن معالجة ذلك؟

**أزمة تضخم العاملين في القطاع العام في ليبيا ليست بالجديدة، ففي زمن القذافي كانت هذه الأزمة قائمة. وعندما عملتُ في ليبيا ضمن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، خلال النصف الثاني من التسعينيات، اقترحت عليهم برنامجا متكاملا للتخفيف من حجم العمالة في القطاع العام، مع جملة من القنوات والأدوات التعويضية المالية، كانت البدائل تؤدي إلى تخفيض عدد العاملين بنسبة الثلث. لكن لم يُؤخذ بذلك البرنامج لسبب بسيط، وهو أن رؤية الدولة الليبية رؤية ريعية، فهي تعتقد أن من حق المواطن أن تؤمن له الدولة دخلا ثابتا.

حجم أكبر وإنتاجية أقل

حاليا تعتبر ليبيا أول بلد في العالم من حيث نسبة السكان العاملين في القطاع العام، وأقل بلد من حيث الإنتاجية، فالعمالة طفيلية بالأساس، وبلغت كلفة المرتبات عام 2018 نحو 25 مليار دينار من مجموع الانفاق العام، البالغ 41 مليار دينار. كذلك هناك في ليبيا أزمة بطالة هيكلية، تتمثل في عجز الاقتصاد الوطني عن تأمين فرص عمل للخريجين وحاملي الشهادات، لكونه اقتصادا غير إنتاجي، يعتمد على مصدر دخل وحيد.

*ما هي النتائج التي ترتبت على تحوُل ليبيا إلى دولة ريعية؟

**الدولة الريعية في ليبيا تكرست مباشرة بعد الاستقلال (1952) واكتشاف النفط، وهي تنتج عادة عقدا اجتماعيا مشتقا من أنموذج الحكم الأبوي، أي أن الدولة هي التي تحتكر التحكم في الموارد من دون شفافية أو مساءلة، وتقوم بتوزيع الهبات على المواطنين وتوفر لهم مداخيل لا ترتبط بالضرورة بالإنتاجية أو بالمردود الاقتصادي.

ومن منظور الاقتصاد السياسي تتشابك المنظومة السياسية مع المنظومة الاقتصادية بشبكة من المصالح والفساد الكبير، في ظل الدولة الريعية. وإجمالا فإن الدولة الريعية هي بمثابة هدر للموارد وشراء الذمم، وخلق حالة من الطفيلية الاجتماعية، بمعنى الاعتماد الكلي على الدولة، وغياب معنى “المواطنة” في العقد الاجتماعي.

*هل من خطة لإعادة توزيع الدخل بين المناطق الليبية؟

**منذ سبعينيات القرن الماضي وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية يساعد الحكومة الليبية على تعميم الخطط الإقليمية الطبيعية، وتقسيم التراب الليبي الشاسع إلى مناطق/أقطاب نمو، مع مسح شامل للموارد الطبيعية وتشخيص للتكامل الاقتصادي بين المحافظات، في قطب النمو المُعيَن، وإعادة تخطيط المدن بحيث تكون هناك مراكز خدمات موزعة توزيعا جغرافيا عادلا. وقد ساهمتُ شخصيا في وضع تلك الخطط وتقسيم العمل مناطقيا، فهناك أقاليم لديها الامكان الصناعي وأخرى الامكان الزراعي أو الامكان الخدمي.

وفي نظري لابد من التفكير على المدى البعيد في الربط بين الرؤية الاقتصادية ورؤية المخططات الطبيعية، وتخطيط المدن واستخدام اقتصادات الحجم الكبير، للتوصُل إلى التوظيف الأمثل للموارد في المستوى الوطني، مع الأخذ في الاعتبار الاتساع الجغرافي للرقعة الليبية.

*كيف يمكن إقامة رابط بين المؤسسات البحثية والمؤسسة الإنتاجية؟

**إذا ما سلمنا بأن التنمية المستدامة في ليبيا تقوم على رهان توزيع مصادر الدخل، وتنويع الاقتصاد الوطني وقطاعاته الرائدة، فلا يمكن أن يتم ذلك من دون وجود هياكل مؤسسية وبرامج وبيوت خبرة وطنية للبحث والتطوير، وإيجاد علاقة عضوية بين المؤسسة البحثية والمؤسسة الإنتاجية، لتحقيق قدر عال من القدرة التنافسية والتوظيف الأمثل للموارد.

مراكز بحث للاستشراف

السياسة الوطنية للبحث والتطوير ينبغي أن تتضمن كذلك إيجاد مراكز بحث لاستشراف المستقبل، ورسم السيناريوهات وبدائل السياسات، فالعالم يمرُ بمراحل تحوُل نحو اقتصاد المعرفة بتجلياته المختلفة. ولابد للدول أن يكون لها فكر استراتيجي للآتي المقبل، وتحويل ذلك إلى خطط استراتيجية استباقية، وإلا فإن الفجوة المعرفية ستستمر إلى الحد الذي يصبح معه اللحاق بالركب أمرا صعبا، فالمعرفة أصبحت تتضاعف بشكل فلكي.

ليبيا بحاجة أيضا لذلك أكثر من أي بلد آخر، لأنها تعتمد اعتمادا كليا على النفط، ولابد للسياسات الوطنية للبحث والتطوير تحديد القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، التي تضمن تنويع الدخل، مع تحيُزي طبعا إلى مسار إعادة التصدير والاقتصاد الخدمي، فقد تبنت ليبيا سابقا سياسة إحلال الواردات والتوجُه نحو التصنيع المحلي، وكانت النتائج كارثية.

*تطرقت في إحدى محاضراتك إلى مفهوم “اقتصاد الثقة” ماذا تقصد به في الحالة الليبية؟

**اقتصاد الثقة يتطلب، إضافة إلى وجود الرساميل التقليدية المألوفة في عملية التنمية (رأس مال مادي، رأس مال مالي) وجود نوع آخر من الرساميل، وهو رأس المال الاجتماعي المتمثل في الشبكات والتنظيمات، التي تربط الاقتصاد الوطني بمستوييه: المستوى الكلي المتعلق بالمؤسسات وأيديولوجية الحكم والعمليات الاقتصادية والقوانين والإجراءات والهياكل الرسمية، كالدستور والسلطات الثلاث، والمستوى القاعدي المتمثل بالمؤسسات الإنتاجية والخدمية والأفراد كمواطنين وكفواعل اجتماعيين.

يجب أن يقترن رأس المال الاجتماعي، كي ينتج ثقافة الثقة ويؤدي إلى فائض مجتمعي يحقق النقلة النوعية في الاقتصاد، بالتشبيك المُهيكل (نقابات مهنية، تنظيمات مجتمع مدني فاعلة، حركات اجتماعية مناصرة…) كي تضمن المساءلة المجتمعية والرقابة على أجهزة الدولة في توظيف الموارد وحسن استغلالها.

وفي أعقاب الثورات، تتصدع عادة ثقافة الثقة نتيجة لضعف الدولة، وأحيانا فشلها التام، كما هو الحال في الوضع الليبي، فتنتشر القوى غير النظامية (الميليشيات مثلا) لتحتل الفراغ الذي تركه فشل الدولة، وتترعرع ثقافة انعدام الشفافية (أساس ثقافة الثقة) ويصبح التهرب الضريبي شائعا، ويأخذ القطاع الاقتصادي الرمادي موقعه من خلال التهريب والجريمة والمخدرات وأعمال الفتوة، وتستشري الرشوة كنوع من الفساد الصغير، الذي يأخذ مكانه إلى جانب الفساد الكبير.

من هنا فإن رد الاعتبار لثقافة الثقة، ومن ثم اقتصاد الثقة، في مرحلة ما بعد الصراع في ليبيا، والتي نرى بوادرها حاليا، يجب أن تقترن بالحوكمة الرشيدة (الحوكمة السياسية، الحوكمة الاقتصادية، الحوكمة الاجتماعية) وصياغة عقد اجتماعي جديد، قائم بالأساس على الديمقراطية التشاركية، التي تضمن علاقة مغايرة بين الفرد والمجتمع، من خلال الاقتران بين الشرعية والمشروعية، وذلك أمر ليس بالسهل في المدى المنظور، لذلك يتم الاعتماد مرحليا على رأس المال الاجتماعي التقليدي، أي التجمعات القبلية والمجتمعات المحلية، وهو أمر محفوف بالمخاطر، وقد لا يدفع إلى الانتقال إلى رأس المال الاجتماعي المُهيكل، الذي يعتمد بالأساس على التعامل مع المؤسسات النظامية للدولة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية