طه حسين… المشروع الثقافي وعقدة التاريخ

بعد أكثر من نصف قرن على رحيل طه حسين، ثمة أصوات تطالب بإعادة قراءته، بوصفها قراءة لـ»أطروحة المستقبل الثقافي» ولطبيعة الأسئلة التي أثارتها، ولعل ما أثير في معرض القاهرة للكتاب يكشف عن هواجس البحث عن علاقة الثقافة بالمستقبل، ومدى علاقته بمفاهيم الدولة والحرية والهوية والتاريخ والآخر، وبقدر ما تفترضه هذه العلاقة من إشكاليات معقدة، فإنها باتت مدعاة للمراجعة والنقد والمكاشفة..
يرتبط المشروع الثقافي لطه حسين بالجدل الذي أثاره، على مستوى الأفكار التي طرحها، والتصورات التي اقترحها في التعاطي مع إشكاليات الواقع المصري، وربما الواقع الشرقي، أو على مستوى مقاربة رؤيته الراديكالية للعلاقة مع الآخر التاريخي والاستشراقي، فما شغلَ طه حسين كان يرتبط بصياغةِ مواجهةٍ فكرية/ نقدية مع ذلك الواقع، وعبر منظور يتطلب بالضرورة حيازة واضحة لمتطلبات تلك المواجهة، ولمسؤولية صياغتها كمشروع ثقافي/ نقدي له تحدياته، وإشكالاته، ومفارقاته، وأهدافه في ما يتعلّق بالافكار التي تخصّ مفهوم التغيير، واستشراف المستقبل.
حساسية طه حسين النقدية جعلته لا يتردد في التصريح عن الحاجة إلى معرفة الآخر، لأن الاكتفاء بأرخنة التحولات الاجتماعية والثقافية، وهيمنة التعالق «الأصولي» أو المزاج الثوري بنزعاته الراديكالية ستكون عناصر تعويق لتلك المعرفة، وتعطيل استحقاقات التحرر، واستشراف المستقبل، وهي قضايا أثارت حولها أسئلة صاخبة، ليست بعيدة عما طرحه حول المشكلات العالقة بالتاريخ والهوية والثقافة والآخر، وأحسب أن كتابه «في الشعر الجاهلي» تمثّل لما هو مسكوت عنه في تلك الأسئلة، فنقد المرجعيات المسؤولة عن تأطير ذلك الشعر، يعني نقد التاريخ و»أساطيره» وتقويض فكرة «الديوان/ الهوية» والتغافل عما نُسج حولها من أساطير كثيرة، كما أن توظيفه للأطروحة الديكارتية، عدّها البعض توظيفا للشك في «أصول ومرجعيات» تدخل في المقدس وفي التابو الجمعي، وفي اتجاه تبنّي وعيٍ ضدي، ربما أراده طه حسين عتبة مفارقة لتتبع المُلفّق من التاريخ، والكشف عن أسراره، من خلال التعرّف على تطور الأنموذج الشعري العربي، وسيرورات أثره في تحولات الزمن الثقافي، فعمد إلى توظيف عبقرية اللغة، في الكشف عن تلك السيرورات، وبيان علاقتها بصناعة الأثر ومدوناته.
الشك بمرجعيات الشعر الجاهلي، لا تعني إلغاءّ لها، لكنها لا تعني التسليم الكامل بها، وما بين الشك والتسليم يمارس العقل النقدي/ المعرفي عند طه حسين وظيفته، وفي اتجاه استنفار أدواته البحثية في القراءة وفي المقاربة والبحث والكشف والتأويل، وهي قضايا تفترض التأسيس على المعرفة، وليس على الوهم، وهو ما يتطلب حيازة وعيٍ نقدي لذلك التاريخ، من خلال المعرفة العميقة لأخباره وأحداثه، ووثائقه، بعيدا عن «الصناعات الزائفة» التي صنعتها مركزيات ثقافية، لها علاقة بالسلطة، أو بالأيديولوجيا، أو بالخرافة، أو بالعقل الحكواتي السري أو المعارض، حيث لا مصادر أو حفريات تؤكد ذلك، سوى ما تركته المشافهة، من أخبار أو مرويات لا قوة مرجعية لها.

طه حسين و«مستقبل الثقافة»

الأخطر في مشروع طه حسين الثقافي هو كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» فهذا الكتاب يرتبط بوعي شروط التحوّل في مرحلة تاريخية مهمة في مصر، وهي المرحلة ما بعد الاستعمارية الإنكليزية لمصر، فضلا عن ارتباطها بشواغل الحفريات النقدية لطه حسين، وانهمامه في البحث عن «هوية مصر» وخصوصية هذه الهوية في «التاريخ» إذ إن نظرته لـ»المستقبل» ترتبط بنظرته لماضي مصر الفرعونية، وفي هذا مفارقة تتقاطع مع نظرته إلى مرجعيات القصيدة في «الجزيرة العربية» فبقدر ما يكون العقل النقدي لطه حسين المُحمّل بشغف ديكارتي فاعلا في تقعيد وعي الشك المعرفي، فإن انحيازا للماضي المصري الفرعوني، جعله ينظر إلى علاقة الترابط «الأوسطي» بين الحضارة المصرية القديمة والحضارات اليونانية والرومانية برؤية أكد عبرها الطابع المرجعي للهوية، من خلال «عبقرية المكان» وأثره في صناعة هذه الحضارة، وفي تمثيل معطياتها في التنوير والعقلانية والإصلاح..
زاوية نظر طه حسين لهذه المعطيات تُثير أسئلة مفارقة، فبقدر تنكره لـ»الحضارات الطينية» كالسومرية والبابلية والأكدية والآشورية في العراق، فإنه يتحدث عن «الحضارات الفارسية والهندية والصينية» بوصفها جزءاً من تكامل الأثر المصري القديم في الحضارة، وهذا ما جعل فكرة استعادة خطاب طه حسين عن المستقبل مفتوحة على مراجعة تلك المواقف، لاسيما في ظل انحيازه إلى «فرعونيته المصرية» أكثر من انحيازه إلى مصر العربية والإسلامية، ومن منطلق ربطه بين عبقرية المكان الأوسطي، والأثر الفرعوني مع المكان الإغريقي والروماني، وأثرهما الفلسفي والثقافي والنهضوي، وصولا إلى التماهي مع الحضارة الحديثة في أوروبا، وأن النظر إليها، وإلى الآخر يتطلب وعيا متعاليا، ودون أي حساسية بالاغتراب، أو دون عقد أو خوف.
ما أثير حول الكتاب من جدل، ومن غضب أو قبول يؤكد إشكالية العقل النقدي لطه حسين، واندفاعه إلى تبني خطاب الإصلاح والمراجعة وفق المقاربة الغربية، حيث نقد مركزية الميتافيزيقا، ونقد التاريخ الشفاهي، الذي يتعداه إلى نقد الواقع المصري، المربوط بأوهام ذلك التاريخ، وبشغف الملك فؤاد على استعادة رمزية الخلافة، بعد أن تمّ نزع رمزيتها السياسية من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.
النزعة المصرية في مشروع طه حسين، جعلته أكثر حماسا للتغيير من خلال التصريح بالمعرفة المسحورة بالآخر، والتعلّم منه، فهذا ليس عيبا أو استلابا كما يرى «العميد» بل هو شروع واقعي ونقدي للمغايرة، وللانعتاق من الجهل الذي لا يقل خطورة عن الاستعمار، وكتابه عن مستقبل الثقافة في مصر، أو كما سمّاه البعض بالتقرير إلى المندوب السامي البريطاني، يُمثل وعيا فائقا بالذاكرة المصرية الفرعونية، وبمشروعية رسم المستقبل على اسس معرفة تلك الذاكرة، ووضع التعليم بمفهومه العلماني الغربي قاعدة أساس للتعاطي مع استحقاقات مشروع النهضة، لاسيما وأن المنطقة العربية، شهدت صحوات كبيرة، لها رموزها مثل محمد عبده، وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وجورجي زيدان سلامة موسى ويعقوب صروف وغيرهم، وعبر اندفاعات جعلت من قضايا الإصلاح محورا مهما، صادما ومفارقا، وربما له تأثراته بأفكار كمال أتاتورك الجاذبة إلى الغربنة، وإلى ربط الحداثة والإصلاح بإخراج الدولة من تاريخ العصابي المغلق، إلى التاريخ المفتوح في علاقاته مع الآخر، ومع أطروحاته في الحرية والعدالة والحقوق وغيرها من اليوتوبيات التي جاءت بعد سرديات الثورة الفرنسية..

الصراع والشك والتمرد على التاريخ

لم يكن طه حسين بعيدا عن ذلك، ولا عن الصراعات التي انغمر فيها الواقع المصري، فالموقف من نقد التاريخ كما «في الشعر الجاهلي» لا يختلف كثيرا عن الموقف النقدي في « استشراف مستقبل الثقافة في مصر» لأن مفهوم الثقافي عند «العميد» يشمل كثيرا من التصورات الأنثروبولوجية، التي تجعل من الثقافة قريبة من أطروحات أدوارد تايلر بتوصيفه لها، بـ»ذلك الكلّ المُركّب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع».
اندفاع طه حسين نحو الآخر في النظر إلى إجراءات الإصلاح، تعني في جوهرها اندفاعا إلى نقد الواقع المؤسسي المصري، وربط الحديث عن التحرر والتحديث بنقد مظاهر الفساد والجهل الذي كان يسوده، وتسليط الضوء على التعليم بوصفه الترياق السحري لمعالجة علل التردي الحضاري، ما جعل أفكاره النقدية محط جدل، وأحيانا استخفاف، لأن خلط المفاهيم حول التحرر من الاستعمار، ارتبطت بوعي مشوه حول مفاهيم العدالة والنهضة والحرية والحق في الاختلاف، وحتى حول الاستقلال، وهو ما أعطى لرؤية طه حسين بُعدا في تجاوز «الأفق الضيق» إلى مدى واسع، جعله يرفض كتابة أيّ تقرير إلى وزارة المعارف المصرية، خشية أن يتحول إلى تهمة، أو أن يُهمل تحت يافطة الموقف من طه حسين. جرأته في وعي تلك المشكلة، جعلته يدرك أهمية التصريح بها، فبقدر تصوراته عن الاحتلال الإنكليزي، فإنه كان يثق بأهمية النهضة في أوروبا، وضرورة التعرف على أسرارها، وهذا ما جعله يجاهر بالحاجة إلى التعليم على طريقة الآخر، كونه سر تلك النهضة والإصلاح، وعليه أن يكون مدخلا لوعي مسؤوليات حقيقية في إنهاض الشعب المصري، فتلك النهضة لن تكون ناجعة وفاعلة في مجتمع جاهل ومعزول عن الحضارة الإنسانية. من هنا عدَّ الكثيرون كتاب طه حسين، أو تقريره، وصفة غربية لترسيم مسارات «الثقافة في مصر» بوصفها مجالا مُحفّزا للحديث عن «عهدٍ جديد» كما سمّاه العميد، «يدعوه إلى القيام بمسؤوليات خطيرة، وتحمّل تبعات ثقال، لأن ما جرى ما بعد توقيع المعاهدة مع الإنكليز، وإعلان الاستقلال هو أكثر مدعاة للمراجعة، لأن هذا الاستقلال ليس شأنا سياسيا فقط، بل ينبغي أن يكون قرينا بوعي استحقاقات ما بعد الاستقلال كالحرية والمعرفة، وكلاهما، كما يرى العميد «وسيلة إلى أغراض أرقى منهما وأبقى، وأشمل فائدة، وأعمّ نفعا».
ملاحظات «العميد» الساخطة والناقدة على عمل المؤسسات الحاكمة، دفعته إلى وضع تصورات «مرنة» حول العلاقة مع الآخر، وبعيدة عن «المسميات» الارتيابية، مثل الاستعمار والعدو والكافر وغيرها، إذ يتطلب الانخراط في المستقبل وعيا متعاليا وتعاطيا عقلانيا مع مفهوم ذلك الآخر، ومع مفهوم الهوية، لأن الحاجة إلى النهضة والاستقلال والحرية، وإلى استشراف المستقبل يفترض وجود هذه الاستحقاقات بوصفها تماهيا مع الإرث الكبير لـ»مصر الخالدة» كما يسميها، ولأن «العقل المصري القديم لم يتأثر بالشرق الأقصى ولا بالشرق البعيد قليلا أو كثيرا، وإنما نشأ مصريا» على حدّ قول العميد..

طه حسين وأسئلة الحاضر

ما أثير من جدل في معرض القاهرة للكتاب حول طه حسين، يعكس مدى القلق من مفارقات التاريخ الحديث، وليس القديم، فمن الصعب الحديث عن لازمنية طه حسين، ولا عن علاقة ذلك بمشروعه عن النهضة، وعن المستقبل، فالرجل كان جزءا من مخاض سياسي واجتماعي، ومن لحظة ثقافية محتدمة بالجدل والخلاف حول مفاهيم الحرية والاستقلال والعدالة والسلطة وغيرها، لذا تبدو الأسئلة الاستعادية حول مشروعه مرهونة بالنظر إلى ما جرى في مصر خلال 80 سنة بعد الإعلان عن كتاب «مستقبل الثقافة في مصر 1936» من صراعات وتحولات عميقة، وبما يجعل النتائج مخلوطة بمعطيات اجتماعية وسياسية، من الصعب التغافل عنها، وعن ارتباطها بأفكار طه حسين، وبمشروعه النهضوي والتعليمي، وعن العلاقة مع الآخر، وعن نظرته للسلطة ومؤسساتها، وعن علاقة هذه السلطة بالصراع الاجتماعي والحقوق العامة وقيم العدالة الاجتماعية وغيرها، فضلا عن نظرته للحاجة الثقافية، فبقدر ما ينظر إلى الغرب والشوق بوصفهما جغرافيتين هائلتين، فإنه ينظر إليهما من باب توصيف «الشرق الثقافي والغرب الثقافي» وهي رؤية تجاوز فيها العميد التاريخ إلى الإجراء، حيث تكون الثقافة عنصرا في البناء، وخطابا في التداول، ووعيا بالوجود..
هذا ما يمكن أن نستعيده إلى الحاضر من طه حسين، نظرته للهويات والأفكار، ولأهمية وضعها في سياق الحاجات وليس في الاستعراض الكرنولوجي، إذ تكون الثقافة بوصفها الأنثروبولوجي مجالا للتقدم ولاستشراف المستقبل، وليس لوضع طه حسين خارج الزمن، ووضعه في سياق يتجاوز وجود مصر الثقافية في نطاق عربي وإقليمي ودولي، فمصر ابنة كل هذه الجغرافيا، وليس مصرية بالمعنى الفرعوني المجرد، رغم أهمية هذا الانتماء الذي كان وما يزال يثير جدلا حول الهوية المصرية، التي قد تدفع البعض لاستعادة هويات مجاورة مثل الهوية السومرية والبابلية والفينيقية والكنعانية وغيرها…

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية