«طرابلس عاصمة الثقافة العربية 2024»: كي لا تتحول المناسبة إلى شعار سائب

حقّاً، ليست كذبة أول نيسان/أبريل مرور ثلاثة أشهر على انطلاق احتفالية «طرابلس عاصمة للثقافة العربية 2024» بل اللحظة المُناسِبة لغربلة ما تحقق في الربع الأول من الزمن المتاح لهذه المناسبة، أن نقف أمام أنفسنا لإضاءة ما تم إنجازه، وتيقُّظاً للمضيّ بخطوات واثقة تعزز بالجدّ والبذل ما تبقى من زمن المناسبة حتى نهاية العام، كواجب وطني لا يتعلق بالطرابلسيين فحسب، بل باللبنانيين، من أعلى السلطات المنظمة المسؤولة عن هذه المناسبة التاريخية، من وزارة الثقافة إلى اللجان والهيئات المعينة والمنوط بها مهمة قيادة وإنجاح هذا الحدث. ومع حرصنا على عدم إلقاء التهم وبث الكلام عشوائياً في هذا التوقيت، الذي لا يزال مناسباً جداً ولم تنته صلاحيته الثقافية، فإنه غيرُ خاف أنّ ما تم تنفيذه حتى اليوم بجهود فردية، ليس سوى إعادة تدوير لنشاطات سابقة معهودة مستمرة مع، أو دون الاحتفالية، التي من المفارقات أنها وحتى أيام قليلة لا تزال تدور في دوامة اللقاءات التنسيقية المفعمة بالكلمات والترحيب والتشكرات والحديث عن الظروف الصعبة، وضرورة تشجيع الهيئات والجمعيات المقاطِعة إلى المشاركة في هذا العرس الثقافي، عطفاً على اعتراف رئيس الرابطة الثقافية، ورئيس لجنة التواصل رامز الفري بأن «الأنشطة التي أقيمت حتى الآن وعلى أهميتها لم ترق إلى مستوى الحدث».

اللافت أيضاً عدم جديّة كثير من الهيئات والجمعيات التي جرى الإعلان عن مشاركتها في المناسبة ؛ فمنها ما لا يملك من الإمكانات والكوادر شيئا يقدمه، ومنها ما هو متوقف تماماً عن ممارسة أيّ نشاط منذ أعوام، مع ما يبدو أنه استغلال لمنحة التمثيل والحضور في الواجهة الثقافية لحدث كبير بهذا الحجم، حتى يتصل الأمر إلى التساؤل عمّن طرح واقترح أسماء هذه الهيئات للمشاركة، غير بعيد من عشوائية واضحة تؤكد أيضاً أنّ ما ظهر من عمل اللجان المكلفة بالتنسيق وإدارة المناسبة، حتى اللحظة يرزح تحت سلطة الاعتبارات الشخصية، التي تشي بأن أحداً لا يكلم، بل لا يريد أن يكلم أحدا، أو أقله أن يكون هو البادئ بالكلام، مما يجب ألا نراه ولا نلمسه وألا يفكر به أيّ كان في موقع مسؤولية وطنية جسيمة كهذه، رأس غايتها الوصول بالمدينة إلى أقصى ما يمكن من نجاح بأي وسيلة مشروعة. فالمناسبة لكل لبنان، ولكل مثقف وكاتب ومفكر ومؤرخ وفنان وأكاديمي لبناني، ما يحتم الانفتاح ليعيش الجميع الحالة الثقافية، مشاركين بالحدث بشكل أو بآخر، مع التذكير بأنّ أي نشاط ثقافي يقام خارج طرابلس، وفي أي بقعة من لبنان، يمكن أن يكون تحت شعار «طرابلس عاصمة عربية ثقافية» وهو ما لم يحصل حتى الآن في مختلف المناطق اللبنانية، وأنّ تجاهل دعوة القامات والشخصيات الثقافية غير الطرابلسية الشمالية، عفواً أو قصدا، يؤذي المناسبة، ويفتح الباب مع الوقت لإطلاق المواقف المُعيبة على مسار الاحتفالية، وإبراز سلبياتها، ما قد يقع إذا لم يتم تداركه بالتواصل مع أكبر مروحة واسعة من صانعي الثقافة ومكوناتها، منظومات وأفرادا، التي لها حيثيات وإبداعات حقيقية، محلياً وعربياً وعالميا، وكيلا يتذرع مفكر/ كاتب من هنا أو مثقف/ عالم من هناك بتجاهله، وهذا سهل متاح في عصر التواصل والإنترنت، مع إقرارنا بصعوبة المهمة في ظل الانقسام العامودي طائفياً وعقائدياً، إنما لا بد منها، بل هي تسهُل مع طرابلس التاريخية عاصمةً ثقافية للبنان، بأعلامها وأنديتها ومراكزها الموزعة على الأدب والفن والمعارف، إلى قلعتها وأسواقها وخاناتها ومبانيها الدينية العريقة التنوع التي يقل نظيره في لبنان شاهداً حياً على عراقة هذه المدينة وطبيعة علاقات التسامح بين أبنائها، على الرغم من تعرضها لحروب وويلات تجاوزتها بحكمة عقلائها.

نقول وبكل جرأة وموضوعية وانفتاح على الحوار والنقاش مع أي كان، إننا لا نريد لطرابلس «عاصمة ثقافية عربية» أن تنتهي في نهاية عام 2024 إلى مجموعة من المناسبات الإعلامية/ الإعلانية مطبوعة على كراسة ورقية، تبتعد من إحياء ونشر القيم المعرفية/ الثقافية الجادة والمستنيرة في الفكر وأنواع المعارف والعلوم الآداب، التي تؤكد أن هذه المدينة تشرّف الثقافة العربية، وتستحق التكليف باللقب شكلا وممارسة. نحن لا نوجه السّهام، بل الأقلام، نضيء على ما يمكن أن يكون غائباً أو مخفياً عن مسؤولي المدينة لأن نجاحهم هو نجاحنا جميعا، حيث نأمل من أهل السياسة في المدينة، الذين تداولوا كرسي رئاسة السلطة التنفيذية في لبنان لأكثر من 15 دورة منذ سبعين عاما حتى اليوم، أن يواكبوا هذا الحدث وأن يشمروا عن سواعدهم لإنجاح المناسبة، وكي تكون طرابلس درة المدن العربية وضفة المتوسط، تخلصّاً من الصورة النمطية التي رافقتها منذ عقود، كمرتع للبؤس والعوز والاقتتال والحرب والمتاريس، وكي لا يمتد الحرمان إلى الثقافة أيضا. في مثل هذا التصور، ندعو اللجان المسؤولة إلى التركيز في ما نقوله كي لا يفسر على غير مضمونه، إذ يجب التنبه له، إن احتفالية «طرابلس عاصمة الثقافة العربية» لا تحتمل التهاون في مستوى الندوات، أو اللقاءات والمناسبات التي قد لا ترقى إلى أهميتها الفكرية والثقافية، محليا وعربيا ودوليا، فكما أن المطلوب نشاطات فكرية/ ثقافية غنية الفائدة في جودة مضامينها وعلى اختلاف الأجناس الثقافية والأدبية والفكرية، فإن المطلوب والضروري أيضا التدقيق والنظر بعناية في أي نشاط كقيمة ثقافية فعلية تليق بالمناسبة، وما يمكن أن يضيفه لمقام المدينة كعاصمة للثقافة في الموضوعات المطروحة، ما يجب أن يحرص مسؤولو المناسبة عليه، بعيداً من أصوات المزايدة والاستهلاك الممجوج في مسألة حرية الرأي والقول والعمل الثقافي، التي قد تتحول لكلام حق يراد به باطل، والتي لا يتأخر أصحابها في استثمار أهمية المناسبة لاصطيادها والتسلق على أهميتها رافعةً مجانية للدعاية والصور والمجد الشخصي، ما يضر بالثقافة وبالمدينة، ويجعل من المناسبة شعاراً سائباً يمنح المُدّعين شهادة تقدير بالمجان، كما يدفع بالاحتفالية إلى خواتيمها السيئة، حيث لا يعود للندم فائدة، مع التذكير بأن طرابلس و(لبنان) هي التي يجب أن تستفيد من القيم المعرفية التي يحملها أصحاب الندوات واللقاءات، لا العكس.

إلى ذلك، فنحن قد نتفهّم غياب العربي (أكاديمي، مثقف، كاتب، مواطن…) حضورا وممارسة عن المناسبة لسبب أو لآخر، لكن من غير المقبول ولا المعقول غياب اللبناني (أكاديمي، مثقف، مفكر، كاتب، مواطن …) عن حدث تاريخي كهذا، حيث يتقوقع الفعل الثقافي حتى الآن، وبعد مرور أشهر ثلاثة، في مساحة مدينة طرابلس وحواليها جغرافيا؛ حتى كتابة هذه السطور لم نرصد حضوراً وازناً، ولا دعوات لشخصيات أدبية، فكرية، ثقافية لبنانية من خارج طرابلس والشمال على أجندة النشاطات المتعلقة بالمناسبة، مع ما يمكن عقده من ندوات تتناول واقع وتحديات الشباب العربي، الإشكالات الأنثروبولوجية في مجتمع منقسم كلبنان، قضايا المرأة، الفقر، الفساد الإداري والسياسي والاجتماعي، علاقة السلطة بالشعب، قضايا الثقافة والفنون والآداب (فولكلور، نحت، تشكيل، شعر، رواية، مسرح، قصة …) وغير ذلك من مظاهر الاجتماع والمدنية محلياً وعربياً، وعلى سبيل المثال ، فإنه لم يُقدّم عرض مسرحي واحد في المدينة، في الوقت الذي تنشط فيه العروض في العاصمة بيروت يومياً على مرمى حجر، وعلى الرغم من توافر صالات عرض حديثة معظمها متاح مجانياً كسينما أمبير، أو صالات أخرى في مراكز عديدة كالرابطة الثقافية مثلا.

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية