صاحب “الكرمل” وقارع الجرس الأول ضد الصهيونية.. 75 عاماً على رحيل “شيخ الصحافة” الفلسطينية نجيب نصار

حجم الخط
0

الناصرة- “القدس العربي”: في مثل هذا الأيام، قبل 75 عاماً، توفي في مدينة الناصرة الصحافي اللبناني- الفلسطيني نجيب نصّار، صاحب جريدة “الكرمل” الحيفاوية، وأحد رواد الصحافة السياسية في البلاد، وهو من أوائل الذين درسوا الصهيونية ونبّهوا إلى مخاطرها، وتصدّوا لها مبكراً، ولُقّب بـ “شيخ الصحافة الفلسطينية”. تستذكر مؤسسة الدراسات الفلسطينية ذكراه، وهو يستحق لكونه صحافياً مهنياً ووطنياً رائداً ومؤسساً، عملَ في ظروف صعبة جداً في نهايات الحقبة العثمانية وخلال فترة الاستعمار البريطاني، ولوحق في الفترتين.

 ولد نجيب نصار في لبنان عام 1873. درس في الجامعة الأمريكية في بيروت، فرع الصيدلية والعلوم السياسية. بعد تخرجه من الجامعة الأمريكية، عمل صيدلانياً في طبريا، وبعدها انتقل إلى مدينة القدس ليعمل في سلك التعليم في بعض مدارسها. أتاحت الفرصة لنجيب نصار أثناء عمله في مدينة طبريا والقدس بالاختلاط المباشر بالمهاجرين اليهود الذين سكنوا في مناطق الجليل والقدس.

تعرّفَ نصار إلى فكرة إقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين بحسب جدول زمني منظم، فكان هذا الأمر دافعاً أساسياً إلى تأسيسه جريدة “الكرمل” الحيفاوية (يوم 1908/12/27)، وهي أقدم الصحف الفلسطينية التي عالجت الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومنذ البداية كانت الصحافة مهنته الرئيسية، وكان دوره فيها ريادياً. عمل في الصحافة قرابة الخمسة والثلاثين عاماً، وقد جلب له هذا العمل المشاكل والمضايقات والاضطهاد المكثف من قبل السلطات العثمانية والبريطانية، واشتد الأمر إلى درجة المطاردة والملاحقات المتكررة.

عالجت “الكرمل” القضية الفلسطينية طوال صدورها معالجةً مكثفة وجادة أكسبت صاحبها، وبحق، اسم “أبو فلسطين، وشيخ الصحافة الفلسطينية”.

تزوج نصاربعد تخرجه من الجامعة، ولم يستمر هذا الرباط إلا فترة، وانفصل عن زوجته الأولى، وبعد شهور قليلة التقى في عكا بفتاة اسمها “ساذج”، هي ابنة الشيخ بديع الله بهائي، وقد امتازت بحدة ذكائها وسعة معرفتها. سارت الزوجة ساذج يداً بيد مع زوجها، وحتى يومه الأخير، في الثالث من مارس/ آذار 1948. وامتهن ولدهما فاروق الصحافة هو لآخر. نجح نصار في شراء “مطبعة الكرمل” عام 1909، وكانت الثانية في حيفا، بعد “المطبعة الوطنية”، لصاحبها باسيلا جدع، وهذا ما يؤكده محمد موسى المغربي، في مقال نشرته صحيفة “المنادي”.

الاستعمار البريطاني ينتهج “فرّق تسد”

وطبقاً لتقرير مؤسسة الدراسات الفلسطينية، لم يتغير الحال خلال الانتداب البريطاني، فقد بقي الوضع كما كان عليه في العهد التركي، ويمكن القول إن الإنكليز كانوا من دعاة “فرق تسد”، وخاصة بـاختلاق تعقيدات جديدة، فهجرة اليهود من جهة، والشعور القومي العربي من جهة أخرى، دفع حكومة الانتداب إلى حَبْك المؤامرات بهدف السيطرة على دفة الأمور.

حسب شهادات بعض من عرفه، كان نجيب نصار قصير القامة، يميل إلى البدانة، يلبس طربوشاً مائلاً للأمام، كتجار بيروت، وكانت المطبعة التابعة لصحيفته تتألف من غرفتين صغيرتين، وعدة جوارير للحروف، وفيها يشتغل عاملان، إلى جانب السيدة ساذج نصار، التي ساعدت زوجها في تحرير صحيفته.

عالجت “الكرمل” القضية الفلسطينية طوال صدورها معالجةً مكثفة وجادة أكسبت صاحبها، وبحق، اسم “أبو فلسطين، وشيخ الصحافة الفلسطينية” وصاحب القول: “من لا أرض له، لا وطن له”. وقد تنبأ نصار بخطورة ما سيحدث في البلاد، فكان طلائعياً في الحثّ والشرح، وتحمّلَ أموراً أكبر من طاقاته، وراودته المخاوف من المصير الذي سيلاقيه العرب من الهجرة اليهودية، ومن النشاط الصهيوني الذي يخطط لقيام اسرائيل، الأمر الذي أثار غضب اليهود وقلقهم من تأثير هذه المقالات المنشورة في “الكرمل”، وباستمرار، فقد توجّهَ الحاخام حاييم ناحوم إلى وزير الداخلية التركي، متهماً نصار بالتحريض والتشهير ضد اليهود، إلا ان المحكمة برأته. وبالرغم من ذلك، استمر نصار في الكتابة عن اليهود وعن القادة ورجال السلطة العثمانيين والحكام المحليين، مما أثار غضب الحكام الأتراك، حيث صدر الأمر باعتقاله عام 1915، لكنه هرب بأعجوبة وبقي عامين مشرداً إلى أن سلّمَ نفسه للسلطة، وسجن في “السجن العرفي” في دمشق، فطالت أيام التحقيق وجلسات التعذيب المضني، وبعدها وجهت له تهمة الخيانة لنظام الحكم العثماني.

وصلت الكثير من الاحتجاجات الموقعة من الوجهاء المحليين ومن محرري الصحف، مثل: باسيلا جدع، وديع صنبر، حسن شكري، عبد الله مخلص، وجميل رمضان، تشرح بلباقة أن معارضة نصار لسياسة السلطة العثمانية في موضوع “الهجرة اليهودية” هي نهج عقيدة يؤمن بها أغلبية الفلسطينيين سكان البلاد.

تعطيل صدور “الكرمل”

بعد أشهر من العذاب، أُفرج عن نجيب نصار بعد اقتناع أنور باشا بعدم جدية التهمة المنسوبة إليه، وأن نصار لا يشكل أي خطر كان.

توقفت “الكرمل” عن الصدور خمس سنين لعدة أسباب جذرية منها: الصعوبات المالية، مطاردة وملاحقة صاحبها، ونشوب الحرب العالمية. شكلت هذه العوائق مجتمعة مشاعر الإحباط، ما تسبّبَ في هدم هذا المنبر الإعلامي الفذ، المتمثل في صحيفة “الكرمل”.

بقي نجيب نصار خلّاقاً ومبدعاً، فمن ناحية يقرأ الكثير من الصحف العربية والأجنبية، مما يؤهله لأن يكون ملماً بمجريات الأمور، ومن ناحية أخرى يحاول إصدار “الكرمل” ثانيةً، خلال سكنه في القاهرة. وبعد المحاولات المضنية، والوعود، والموقف المتردد من زملائه في القاهرة، استمرَّ بنشر مقالات متناثرة في جريدة “المقطم”، نتج عنها نقاش حاد بينه وبين الصحافي أنطوان الجميل حول الهجرة اليهودية وأبعادها المستقبلية وخطورة الأمر في نظر نصار، بينما عارضه أنطوان الجميل بشدة.

وعلى مدى ستة عشر مقالاً بعنوان: “معك حق ومعنا حق”، كان نتاج النقاش الصحافي أنْ أنهى أنطوان الجميل هذا النقاش بمقال نشر في “الأهرام”، بعنوان: “معك الحق، كل الحق، ولكنك تخدم أمة لو علمت الشتيمة تنفعك، لضنت بها عليك”. هذه الجملة هي استسلام وإقرار للواقع من وجهة نظر أنطوان الجميل، إقرار لنهج نصار الذي يؤمن به.

أصرَّ نصار، “شيخ الصحافة”، على إصدار “الكرمل”، رغم الظروف المالية المتدهورة، فبقيت كلمة “الكرمل”، شامخة ومعتزة بموقفها الوطني، وظلت تدافع وتنطق باسم الجماهير العربية وطموحاتها، بالرغم من انعدام الدقة في صدورها في التواريخ والمواعيد؛ تحتجب، ثم تعاود الصدور كلما انفرجت الأزمة التي تعيشها جزئياً أو مرحلياً، لذلك تبدو تواريخ صدورها بلا ترتيب، وبلا جدول زمني منظم.

احتجاب “الكرمل” يؤكده نصار بأسلوبه وبكلمات ممزوجة بالأسى والمرارة كالقول: “لاقيتُ مقاومات شديدة من كثير ممن توقعتُ أنْ يكونوا أعظم الأنصار، فحاولوا خنق صوت “الكرمل” وإطفاء نورها.

خلاصة القول؛ عندما أستعرضُ الحالة التي صرنا إليها بعد ذلك الجهاد الطويل، أسأل نفسي: أكنت أخدع أمتي؟ وأدعوها للتفرقة والخصومات والمشاحنات والانقسامات والفساد والوشايات والجاسوسية واللصوصية وبيع أراضيها، وانصرفت أمتي على الفساد والدس والتجسس بعضها على بعض، وإلى المنازعات، حتى ما عاد العربيُّ يرى غيرَ العربي عدواً له.

منبر وطني

اكتسبت “الكرمل” شعبيتها من صراحة موقفها ووضوح توجهها، ولم تتعرض أبداً للأمور الشخصية الفردية، ولم تفتح أبوابها للمشادات الكلامية، ولم تلتزم بشكل أعمى لفئة ما، بل وقفت بالمرصاد لكل توجّه فردي أو جماعي خاطئ، أو سياسة سلطة غاشمة، ولا تخاف في نقدها من مغبة الاضطهاد، بل كانت تعبّر بكل صدق عن الرأي الصادق من دون مهادنة في الرأي ووجهة النظر.

كانت جدية وموضوعية وسعة اطّلاع محرر “الكرمل” على ما يدور من صفقات بيع الأراضي، وفضح مرتكبيها، وتعميم أخبار هذه الصفقات المشبوهة والمرفوضة على صفحاتها، قد أكسبتْها هذا الاحترام الشعبي الواسع، خاصةً إقدام السلطة على بيع الأراضي للمنظمات اليهودية مثل الصندوق القومي اليهودي “الكيرن كايمت”، والصندوق التأسيسي “كيرن هيسود”، كذلك محاولة السلطة، ونجاحها في بيع عشرات الدونمات من أراضي بيسان. وأبرزت “الكرمل”، بشكل لا يقبل الجدل، سياسة السلطة العثمانية، ثم من بعدها الانتداب البريطاني، لتمليك اليهود أراضي فلسطينية، فكتب يقول: “في نابلس، قامت في تموز 1913 مظاهرة ضد اعتزام السلطات بيع أراضي بيسان التابعة للدولة للمنظمة الصهيونية، كما أرسل المزارعون في سهل بيسان برقيات احتجاج على بيع أراضيهم”. ودعت الكرمل إلى حتمية “تنظيم العمل والجهود كانت ذات أثر فعّال في التمهيد لظهور جمعية مكافحة الصهيونية، التي اتخذت من نابلس مقرّها الرئيسي، مع إقامة فروع لها في بعض المدن الفلسطينية الأخرى”.

احتجاب “الكرمل” يؤكده نصار بأسى: “لاقيتُ مقاومات شديدة من كثير ممن توقعتُ أنْ يكونوا أعظم الأنصار، فحاولوا خنق صوت “الكرمل” وإطفاء نورها.

“وهذا ما حث نجيب نصار لشراء مزرعة في بيسان، حتى لا تباع الأرض، وحتى لا تبنى عليها مستوطنة، وحتى لا نبقى بلا أرض وبلا وطن أيضاً”.

لا بدّ من الاشارة إلى أنه، سنة 1913 بالذات، كرّست “الكرمل” قدراً كبيراً من صفحاتها لنشر أنباء شراء الأراضي، من خلال محاولة مدروسة يقصد بها القائمون على الصحيفة إثارة وعي الشعب العربي لمواجهة هذا النشاط ومكافحته. وكانت هنالك دلائل جلية على ازدياد حدة المشاعر العربية العدائية نحو الاستيلاء على الأرض وبيعها.

العمل الجماعي المنظم

وعُقد العديد من المؤتمرات، وتأسّست الجمعيات المختلفة العربية لتوعية الشعب وتجنيده، وكما ذكر نصار: “لا يمكن إنقاذ الشعب العربي والحفاظ عليه إلا من خلال العمل الواعي المنظم”، حين كان يوقّع الملّاكون العرب مع المشترين الأجانب عقود البيع تضمنت العقود بنداً ينص على إخلاء الأرض من السكان، وحين تدخل العقود حيز التنفيذ، كان الملاك الجديد يتقدم إلى قطعة الأرض، وبمساعدة الشرطة البريطانية، يقوم وببساطة بطرد السكان.

ويلاحظ أن هذا الطرد ازداد، وبنسبة كبيرة، في أوائل العشرينيات، وبشكل جماعي ومنظم، فلقد تعرّضَ سكان 22 قرية، أي مجموع 1746 أسرة، للطرد من مرج ابن عامر. وقام نصار بجولات في قرى الجليل ينبّه فيها السكان العرب إلى أخطار الاستيطان اليهودي، وخلقت جواً من الاحتجاجات في أواسط السكان العرب ضد شراء اليهود للأراضي في فلسطين، وتدفق الهجرة اليهودية، فأرسل 150 وجيهاً من قضاء الناصرة برقية احتجاج بهذا الشأن إلى السلطات العثمانية في مارس/ آذار 1913.

ولا بد من التنويه إلى أن بناء معهد “التخنيون” تأخر بضع سنوات بسبب ضغط “الكرمل”، وادّعاء نصار أن الأرض المعدة لا يمكن البناء عليها، فقد تأجل وضع حجر الأساس من مرة لأخرى، ودام التأخر ثلاث سنوات نتيجة مقالات الاحتجاج المكثفة في “الكرمل” ، وهناك عشرات الرسائل التي أرسلها لبلدية حيفا لمنع ترخيص البناء، لكن الحكومة العثمانية أجازت البناء بعد أن تدخلت الحكومة الألمانية لدى السلطة العثمانية.

من مؤلفات نجيب نصار: «الصهيونية، تاريخها، غرضها، وأهميتها»، «نجدة العرب»، «في ذمة العرب»، «الزراعة الجافة» و«رواية مفلح الغساني» و«الرجل، في سيرة الملك عبد العزيز آل سعود».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية