شروط التوسع الإيراني وعيوب المنظومة العربية

شهدت مرحلة التسعينيات تقاربا إيرانيا سودانيا، جعل الخرطوم العاصمة الأقرب إلى إيران في المنطقة العربية، إلا أن العلاقات تعرضت للفتور وصولا إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قبل سنوات، إلى أن عادت من جديد خلال شهر أكتوبر الماضي، لتبدأ إيران بدورها تزويد الجيش السوداني بأسلحة نوعية في صراعه مع ميليشيات الدعم السريع.
لم تتمكن إيران من تحقيق نجاح كبير في تجربتها السودانية، ومن غير المتوقع أن يتحول التقارب إلى استثمار سياسي مجزٍ على النحو الذي يشكله النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، لأن السودان تفتقد لأحد الأركان الجوهرية التي من شأنها أن تفتح الطريق لمشروع إيراني، ولعله الركن الأكثر أهمية المتمثل في وجود طائفة شيعية، يمكن أن تندرج في مفاهيم الثورة الإسلامية بالمعنى والمقاربة الإيرانية. ومع ذلك، فلا ضمانة كافية لأن نشهد تصريفا مشابها لعلاقة إيران مع الحوثيين المعتنقين للمذهب الزيدي، البعيد فكريا عن المذهب الإثني عشري ومبادئه من مدخل تراث بعض الفرق الصوفية في السودان.
الشرط الأول، يتمثل في وجود امتدادات الطائفة الشيعية، وذلك ليس كافيا لوحده، لأن المذهب الديني يبقى في صراع مع الهوية العرقية، ويمكن ترصد بعض الملامح لذلك في علاقات المصاهرة المحدودة، وفي وجود حس عربي ـ شيعي متفرد لا يمتلك الفرصة للتعبير عن قناعته بالتفوق، وأنه الأصل الذي يمثل التشيع في إيران، وغيرها مجرد نسخة منه يفترض أن تقوم على الموالاة والتبعية، ولكن الوجود يصبح مؤثرا عندما يلتحق به الشعور بالمظلومية في صفوف الشيعة، مثلما حدث في لبنان، في مرحلة مبكرة، فالإمام موسى الصدر يؤسس حركته في لبنان، حتى من قبل الثورة الإيرانية، ويتخير لها تسمية (حركة المحرومين)، وتصبح الحركة مقصدا لأبناء الطائفة الشيعية، الذين يعانون من التهميش المزدوج بين طبيعة النظام الطائفي القائم، وتسلط وجاهات الطائفة نفسها وخدمتهم لمصالحهم الذاتية، على حساب تنمية المناطق الشيعية بالصورة اللائقة والمتوازية مع بقية أنحاء لبنان. في البداية حصلت حركة المحرومين على الدعم من المقاومة الفلسطينية، التي كانت خارج بنيتها العلمانية، تتشكل في أغلبيتها من المسلمين السنة، الذين اشتركوا مع الشيعة في فكرة المظلومية، فالمظلومية تتخطى فكرة المذهب لتصبح واقعا ماثلا لا يمكن تجاهله، وفي لبنان، وفي مرحلة مبكرة، كان الركن الثالث المتمثل في تغيب الدولة، يحضر بصورة واضحة، ولذلك تشكل بعد الثورة الإيرانية ليكون أكثر ارتباطا بإيران وتعبيرا عن مصالحها وأولوياتها.

أصبحت إيران أمرا واقعا في المنطقة نتيجة عوامل داخلية لا تتعلق بقدراتها أو تفوقها، كما تمكنت تركيا من التقدم من خلال قوتها الناعمة ومسلسلاتها وصناعاتها الخفيفة

استكمل العراق الركن الثالث، بفتح أبوابه للنفوذ الإيراني مع سقوط بغداد في أبريل 2003، فالشيعة كانوا يعيشون واقع المظلومية، خاصة بعد حرب الخليج الثانية في 1990، وكان تفكك الدولة الركن المهم بالنسبة لوجود إيراني مؤثر وواضح لا يناور ولا يستتر في العراق، ومن الباب نفسه، ومع صعود النزعة المسلحة للجماعات الإسلامية في سوريا، والوجه السلفي المتعصب الذي حملته، المدخل لوجود إيراني في تحالف جزء منه مع طائفة يراها الشيعة أنفسهم خارج أطيافهم بالكامل، ولكنها تبقى في الحالة السياسية قابلة للدخول في تسوية التحالف كما حدث مع الحوثيين في اليمن. كان حسين الحوثي الابن البكر لبدر الدين الحوثي، وقائد الحوثيين في حربهم الأولى مع الدولة اليمنية من الخارجين نسبيا عن تقاليد المذهب الزيدي، بتبنيه للمشروع القرآني، الأمر الذي جعل الكثير من مراجع المذهب يدعون إلى تقويم أفكاره، ومع ذلك، فواقع المظلومية كان دافعا لتجاوز التفاصيل المذهبية، وصولا إلى لحظة الانفجار التي تمثلت في انهيار الدولة اليمنية التي لم يعد فيها شيء يتحمل مناورات علي عبد الله صالح.
بالوصول إلى النقطة الحرجة في أكثر من بلد واستكمال الشروط التي تتيح النفوذ الإيراني، أخذت المنطقة تتشكل من جديد، لينضاف شرط رابع يعزز التمدد الإيراني وهو عدم استجابة بعض الأنظمة العربية لتطلعات شعوبها وتوجهاتها، وإصرارها على قدرتها على صياغة واقع جديد تفرضه وسائل الإعلام، والإلهاء نحو قبول معادلة جديدة تحكم المنطقة، وكأن هذه الشعوب نشأت من غير تاريخ وفقدت قدرتها على استبصار المستقبل. أصبحت إيران أمرا واقعا في المنطقة نتيجة عوامل داخلية لا تتعلق بقدرات إيران أو تفوقها، كما تمكنت تركيا من التقدم من خلال قوتها الناعمة ومسلسلاتها الطويلة وصناعاتها الخفيفة في المنطقة العربية قبل أن ترتطم بمعادلة عسكرية شبه صريحة، لعدم امتلاكها للأدوات نفسها، التي أتيحت للإيرانيين، وفي الحالتين، أتى تغيب المشروع العربي ليكون السبب في وجود المشاريع الأخرى، وربما بعد برهة من الوقت نجد واقعا جديدا تفرضه إثيوبيا، التي دخلت إلى الساحة مؤخرا وبخطوات قلقة ولكنها جريئة، فأديس أبابا تقرر أن تتيح تدريس اللغة العربية في المرحلة الثانوية، وكأنها تبحث عن تأثير ثقافي يتجاور مع محاولاتها للوصول إلى مياه البحر الأحمر، وفرض نفسها على كعكته التي أصبحت المركز الجديد للمنافسة بعد انغلاق الخليج بوصفه ساحة مزدحمة بالصراعات الساكنة والمؤجلة.
لم تكن المشكلة يوما في طهران التي وجدت جميع فضاءاتها مغلقة أمام تنافس الأتراك والصينيين والروس في آسيا الوسطى وباكستان، لتجد في المنطقة فرصة في ظل تغيب جميع المشروعات الحقيقية، وحالة الإحباط والتربص المتبادل التي أصبحت تخيم على سمائها، خاصة بعد حرب الخليج الثانية التي أطلقت رصاصة الرحمة على المشروع القومي العربي لتترك العرب من غير أي مشروع يستطيع أن يوفر الحد الأدنى من التماسك والترابط المطلوبين، في وقت أصبحت فيه المنطقة أرضا لصراعات الجميع المباشرة وغير المباشرة، مع استمرار الفشل في تأسيس الحدود الدنيا من ثالوث العيش والحرية والعدالة الاجتماعية في الدول العربية، حتى لو أتى ذلك جزئيا أو حتى شكليا.
كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية