شجرة الصمت

حجم الخط
0

يَصلُح هذا العنوان اسماً لأميرة عربية من زمن المماليك.
لكنه يَصلُح أيضاً اسما لزمننا المملوكي الذي تخترقه صيحات الحرية في يوم الأرض، وصيحات المقاومين في أشهر الدفاع عن الأرض.
الصمت يفترسني لا لأنني لا أجد الكلمات، بل لأن الكلمات تجدني وتتركني مرمياً في الشارع. فالصمت ليس عنوان غياب الكلام، بل قد يكون عنوان حضوره.
أستطيع أن أتخيل الصمت كشجرة وارفة الأغصان، وفي كل غصن أجد نوعاً من الصمت الذي يضمني إليه.
في الغصن الأول وجدت صمت الهزائم الذي يأخذنا إلى بُكمه الحقيقي وكلامه الكاذب.
أليس هذا هو تاريخنا العربي المعاصر؟ بُكمٌ يقول الحقيقة وكلامٌ يكذب. فتعلمت أن أختار الصمت على الكذب، والمقاومة بالحزن على المقاومة بالوهم.
في الغصن الثاني أجد صمت الألم، وهو صمت لا تملأه فراغات الصراخ والأنين. يبدأ هذا الصمت صراخاً ثم يتلاشى لأنه ينطوي داخل نفسه ويأخذك إلى عالم الأوجاع التي لا اسم لها.
الغصن الثالث هو صمت الذاكرة، حين فجأة تصبح الذاكرة علامة على الغياب بدل أن تكون علامة على الحضور.
هذه اللعبة بين الحضور والغياب تأخذك إلى شعور بضرورة أن تسكت، فالسكوت هنا هو علامتك للمقاومة، مقاومة الانهيار ومقاومة التفكك ومقاومة الحزن.
الغصن الرابع هو الصمت الناطق، وهو صمت تعلمناه من غزة خلال الأشهر الأخيرة حين تحولت المدينة المهدمة إلى موقع لصناعة الحياة.
كان المقاومون يخرجون من تحت الأرض ليقولوا لنا: انظروا قدرتنا على صناعة الحياة وسط الموت، وإرادة الحياة التي تنتشر بين أشلاء الموتى.
الغصن الخامس هو صمت الديكتاتور عن الحقيقة. الدكتاتور لا يصمت أبداً، بل يملأ الدنيا ضجيجاً لكنه ضجيج يخفي الحقائق ويزورها. أليس هذا ما تقوم به إسرائيل منذ تأسيسها وصولاً إلى ذروة الجريمة في غزة؟ أليس هذا ما تقوم به الولايات المتحدة بشأن فلسطين وبشأن العالم العربي في أدائها الإجرامي المتواصل؟
لذا، يبدو لي ضجيج الدكتاتور يشبه صمت القبور؛ فهو لا يبني سوى القبور ولا ينتشي إلا أمام الموت.
شجرة الصمت ليست توأماً لشجرة الحياة. فإذا ضمرت الأولى لا تضمر الثانية بل تتابع حياتها. ومرات يكون ضمور الواحدة شرطاً لانتعاش الثانية.
منذ بداية تشرين ونحن نعيش بين ضمورين وبين حياتين. بدأنا مع لحظة الحياة في طوفان الأقصى، ثم تدرجنا هبوطاً إلى الموت واعتقدنا أن شجرة الموت هي الرابح الأخير. وفجأة خرج الموت من الركام معلناً أن الطوفان لا يضمر بسهولة. فطوفان الأقصى يشبه طوفانات الطبيعة؛ من يستطيع أن يوقف الماء النابع من الأرض أو الهابط من السماء كي تعانق البحر.
عشنا ونعيش وسط طوفان من الماء والدم، وهذا يذكرنا بالشهيد الفلسطيني الأول حين كان معلقاً على الصليب فنزف دماً وماء.
غير أن محمود درويش قادنا إلى اكتشاف البطل في الجماعة. فهذا الدم المسكوب هو دم شعب كنعان الذي لم يتوقف عن دفع دمه ثمناً للحرية والعدالة.
أخبروني، هل رأيتم شعباً يقاتل ستة وسبعين عاماً من دون ملل أو تعب أو يأس أو تراجع؟
«يا شعب كنعان احتفل بربيع أرضك، واشتعل كزهورها
يا شعب كنعان المجرّد من سلاحك، واكتمل!
من حسن ظنك أنك اخترت الزراعة مهنة
من سوء حظك أنك اخترت البساتين القريبة من حدود الله»
من يعرف أين تقع البساتين القريبة من حدود الله؟ وحده الشاعر امتلك السر؛ لأن ما كتبه كان نابعاً من باطن الأرض.
«أولى أغانينا دم الحب الذي سفكته آلهة،
وآخرها دم سفكته آلهة الحديد»
الصراع هو بين آلهة القمح وآلهة الحديد، وهو يبدو سهلاً على آلهة الحديد لأنها تعتقد أن الحديد يستطيع أن يفترس القمح. لكن الحديد يذوي ويصدأ. أما القمح فينبت من جديد كما كان نقياً أسمرَ جميلاً ولا غنى للإنسان عنه.
على الإسرائيليين أن يفهموا أننا ننتمي إلى ثقافة القمح وإلى إيقاع الزيتون ولون شقائق النعمان، وهذا يجعل من مقاومتنا طويلة وصعبة ولكنها نموذج لكيف يقاوم الإنسان العسف مهما كان قاسياً.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية