سينما… وروايات ومباريات!

كتبت بعض الملاحظات التي كانت تخطر ببالي كلما تابعت مباراة من مباريات كأس العالم؛ إنها على أي حال المرة الأولى التي أتورط في حبّ هذه الساحرة؛ ولعلها دون كثير من المبالغة أن تكون أعظم ساحرة على وجه الأرض عرفها البشر من قبل ومن بعد (لعل الموبايل يتفوّق عليها!) وليس أدلّ على ذلك من عدد المسحورين بها، المولعين، الذين يتابعونها عن بعد عشرات الآلاف من الكيلومترات، والذين يقطعون هذه المسافات لكي يكونوا في أقرب نقطة إليها.
صديقي غالب، شرح لي كيف أن أناساً كثراً يدّخرون أموالهم، لا لطارئ صحي أو شراء بيت أو تحسينه، أو تعليم ولد، بل ليكونوا جاهزين للطيران خلف الكرة حيثما تدحرجت وحطتْ في مونديال. بعضهم يلجأون إلى البنوك للحصول على قروض، وبعضهم يبيع بعض ما لديه أو كثيراً مما لديه للحاق بها.
هذا عن الساحرة، وهذا عن تابعيها، أما المباريات نفسها، ففيها بعض ما لا يوجد في أفضل الروايات والأفلام، فما في الروايات والأفلام من أحداثٍ كُتبَ وانتهى، إذ في استطاعة أي قارئ غير صبور، لا يريد أن ينتظر لمعرفة ما سيحدث، أن يقلب مائة صفحة أو أكثر لكي يصل النهاية، ويعرفها، أو يستطيع أن يذهب إلى نهاية الفيلم، إن لم يكن يشاهده في السينما، ليعرف مصير بطله، (دور السينما لم تزل مخلصة لفن التشويق ومسارات الصعود والهبوط)، لكن عاشق كرة القدم لا يستطيع أن يطوي عشب الملعب الأخضر، والملعب نفسه، والزمن المتبقي من عمر المباراة ليعرف النتيجة.
هنا التشويق والترقّب واحتراق الأعصاب وارتفاع الضغط والصوت واليدين والقدمين واتساع العينين، وصعود الرجاء إلى السماء، تبدو شكلاً من أشكال المؤثرات البصرية والسمعية لفيلم التسعين دقيقة هذا، الذي يسمّونه «المباراة».
في كرة القدم الكثير مما في أفضل الأفلام، إنها الأفلام التي تعيشها لحظة بلحظة، وأنت ترى كل ما فيها يخرج على النص، ويتجاوز الخطط والتوقعات وما عمل من أجله اللاعبون والمدرّبون، وما لا يمكن أن يتوقعه أحد من الحكام (الحكام هنا مسألة معقدة، بقدر ما هم جزء من بنية النص الرّياضي، وحكمته، إلا أنهم، بتدخلهم، قادرون في أي لحظة أن يربكوا كل شيء).
كل مباراة فيلم غير متوقع، وهذا سحرها، يبدأ بالحذر أحياناً، وأحياناً بالحركة القوية، كالمعارك في الأفلام التي تُفتتح بهجوم. تبدأ المباراة مثل فيلم درامي، ثم تتحوّل إلى فيلم تشويق، ثم تتحوّل إلى فيلم غموض، ثم في النهاية إلى فيلم رعب (في إمكان قارئ هذه السطور أن يعيد ترتيب ما سبق وأن يضيف ويحذف ما شاء له حبه لهذه السّاحرة).
المباراة النهائية بين الأرجنتين وفرنسا، يمكن أن تكون مساحة استثنائية لتأملها كفيلم استثنائي، فالخطّ الدرامي لها درسٌ غريب في صناعة الدراما، بعدد ذرواته ومفاجآته الصاعقة، ويبدو تقلُّب الأحوال غريباً بين انتصار المنتصرين وهزائم المنتصرين، وانتصار المهزومين، وهزيمة كليهما (التّعادل)، ثم انقلاب أحوالهم مع كل ضربة جزاء بين منتصر، ومهزوم، منتصر ومهزوم، منتصر ومهزوم..
عالم غريب هذا الذي يسمونه كرة القدم.
في روايتي الأخيرة كتبتُ على لسان صديقي الناقد، قاسم، الكثير، الذي كان سيكون أكثر لو أنني كتبته بعد هذا المونديال. يقول قاسم، عاشق كرة القدم عن الكتابة:
الكتابة مسألة معقّدة، النقد أقرب إليّ، يجعلني متأمِّلاً لكلّ ما يدور في رأسك ورؤوس زملائك الكتّاب في هذا العالم، ودعني أعترف؛ إنه متعة أيضاً، حيث يتيح لي النقد، كعاشق لكرة القدم، أن أجلس في مدرّجات كلِّ واحد منكم، وأرى أفكاركم تتصارع:
حين يحقق أحدكم هدفاً أفرح، وحين يُضيِّعه أحزن. بعضكم يقدّم مباراة ولا أجمل، وبعضكم يخذلنا. بعضكم يفاجئنا بما لم يخطر ببالنا، وبعضكم يلعب مباراة مثل مبارياته السابقة. بعضكم يفاجئنا بلاعبين كنّا نحسّ أنهم سيبقون خارج الملعب، مُهمَلين، فيُخْرِجُ المدربون، أي أنتم، أهم اللاعبين في فرقهم، ويدفعون بهؤلاء الثانويين إلى بؤرة الحدث فيُغيِّروا مسار اللعبة. بعضكم يغيّر أساليبه، وبعضكم يقلّد نفسه، وبعضكم يقلّد أسلوب الفريق الخصم في الملعب نفسه، أو خارجه. بعضكم يتسلل في اللحظة الخطأ خارج نصِّه، فيخسر هدفاً، بعضكم يبدأ رائعاً، ثم يأخذه التّعب في آخر الكتاب. بعضكم يرتبك في البداية، فيواصل ارتباكه حتى النهاية. بعضكم يدخل الملعب مغروراً، واثقاً بإنجازاته السابقة، فيتحطّم. بعضكم جاء ليكسب، ويكسب إلى حين فعلاً. بعضكم يلعب بسلاسة ساحرة، وبعضكم يلعب بتبسيط قاتل. بعضكم يلعب بحنكة مركّبة، ولكنها ممتعة، وبعضكم يحاول أن يفعل ذلك فيبدو مُلفّقاً.
هل أنتقل إلى لاعبيكم؟ أعني شخصيات كتاباتكم: بعضهم تكون العلاقات بينهم وبين «زملائهم» في الملعب، أعني النصّ، مفككة، وغالباً ما يكون هؤلاء مفككين على مستوى بنيتهم الفكّرية والنفسية. بعضهم يتسلل للعب دوْرٍ غير مُعَدٍّ له، فيتسبب بكارثة. بعضهم يتحلّى بحسّ عميق بالمسؤولية، يتألق، ولكن يترك الآخرين يتألقون. بعضهم أنانيّ، وبعضهم كريم معطاء. بعضهم متهوّر، وبعضهم يعرف أين يضع قدمه تماماً. بعضهم تناحُري مع نفسه ومع الآخرين، من هم بجانبه، ومن هم في الجهة الأخرى من الملعب. بعضهم ثأري، عنيف حيث لا يستوجب العنف، وبعضهم دموي حقّاً، يلعب ليسحق. بعضهم يلعب ليسمو. بعضهم لا يعترف بجمال خصمه، لأنه يحسّ أن هذا الجمال كاشف لمواطن قبحه. بعضهم يلعب بشرف، وبعضهم يختلس كلّ فرصة سانحة ليحقق النصر بأي ثمن. بعضهم يدافع عن مستوى المحيطين به، وحقهم في النصر، وبعضهم يريد النصر كله له. بعضهم يعمل بجهد لأنه مؤمن بالعمل، وبعضهم لا يفكر في شيء مثلما يفكر في تحويل جهده إلى سلعة. بعضهم يلعب ليحصد ما أمامه، وبعضهم يتعلّم من كلّ نجاح يحققه منافسه. بعضهم يسعده أنه يسعدنا، نحن الذين نتابع أدقّ التفاصيل من خارج الملعب، وبعضهم يرى أنه أكبر من الملعب نفسه. بعضهم يعطيك طاقة إيجابية، وبعضهم يعطيك طاقة سلبية. بعضهم يعلّمك أن تكون إنساناً، وبعضهم يوقظ أسوأ ما فيك من غرائز متوحشة. بعضهم يُبكيك فرحاً لفرط رقَّته، وبعضهم يبكيك ألماً لفرط قسوته…
وهكذا أنتم، أعني الكتّاب، بعضكم ينسى أن الكتابة فن، كما هي كرة القدم فنّ، وبعضكم لا ينتبه إلى حقيقة أن الكرة ليست مجرّد شيء يتدحرج على أرضية الملعب. لذا، لا ينتبه إلى أن الكتابة ليست مجرّد كلمات تتوالى فوق الصفحات البيضاء. ويصمت قليلاً، ويسألني: هل أواصل؟
بصراحة، أحسّ بأنني أستمتع أكثر حين أتفرّج عليكم، أكثر بكثير مما لو كنت منكم.
وبعـــد:
انتهى المونديال، اختفت التجمعات، اختفى المُشتَرك، اختفت الصيحات من المدرجات، من الساحات والشوارع والمقاهي والبيوت.. وعاد الناس إلى صمت هواتفهم النّقالة لأربع سنوات قادمة!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    لنقف مليًّا؛ ففي سحر كرة القدم والصراع عليها لتحقيق الغلبة؛ نزوع عميق للصراع الأوّل بين قابيل وهابيل…في قصّة
    هابيل وقابيل كان الحَكم إبليس؛ وفي كرة القدم اليوم الحكم أحد { النّاس } لهذا الصراخ الجمعيّ للجمهور ينتمي إلى صراخ الذات المكنون لتخرج ما فيها من زلزال التغالب للعلن.إنما السؤال الذي شغلني مع مونديال قطر: هل نسبة العدوان البشريّ الذي تمّ تفريغه في ( الكرة )؛ انخفضت نسبته بعد انتهاء المونديال في { الكرة الأرضيّة }؛ ليعقبة شيء من السّلام للعالمين؟ أتمنى ذلك أنْ يكون.

إشترك في قائمتنا البريدية