سينما ‘أوتوبيا’ في فرنسا محتفلةً بعيدها

حجم الخط
0

هنالك ما يُعرف في فرنسا بالسينمات البديلة، غير تلك التجارية. قد نسميها بديلة أو مستقلّة أو سينما فنون، والأخيرة هي التسمية الأنسب لأنها، السينمات، تتعامل مع الفيلم السينمائي كمنتج فنّي له قيمته الفنّية، لا كسلعة تجارية تُقيّم حسب ‘شبّاك التذاكر’.
من بين هذه السينمات، بل من أهمّها هنا في فرنسا هي سينما ‘أوتوبيا’، وفرنسا بالمناسبة تحوي أهم سينمات الفنون في العالم، وذلك لعقلية وذائقة الفرنسيين في استيعابهم للفنون إجمالاً والسينما تحديداً، كواحد من هذه الفنون. هنا في مدينة تولوز يفوق عدد سينمات الفنون عدد السينمات التجارية، ولا يصعب على أي زائر لأي من هذه السينمات التمييز بينهما.
ستحتفل أواخر هذا الشهر سينما ‘أوتوبيا’ بمرور عشرين عاماً على تأسيس صالاتها في مدينة تولوز وعشرة أعوام في مدينة تورنوفاي. لهذه السينما تاريخ كفاحي في العديد من القضايا الحقوقية من بينها القضية الفلسطينية، وقد أجريتُ حواراً مطوّلاً مع مؤسسيها نشرته في مقالة على صفحات هذه الجريدة في شهر آذار/مارس الماضي، تناولت فيها تاريخ واهتمامات هذه السينما إضافة لمشاكلها مع اللوبي الصهيوني في فرنسا.
في البلاد العربية لم نتعوّد على سينما كهذه، نفتقر لمثيلاتها، ربّما لأنها لن تجد جمهوراً بالأساس، ستقفل أبوابها حالما تفتحها، لعدّة أسباب أهمّها طبيعة وعقليّة الجمهور، وهذه ميزة للجمهور الفرنسي قبل أن تكون عيباً في جمهورنا العربي الذي استهلكته السينما الهوليوودية (والبوليوودية وأفلام المقاولات المصريّة) وبنت ذائقته بشكلها المشوّه. أضيف على ذلك أسباباً أخرى تخصّ السينما ذاتها سأوردها هنا.
أولاً، هنالك مختصّون يشاهدون الفيلم ليقرّروا في شأن عرضه، تُبنى تلك القرارات حسب شكل ومضمون الفيلم، أي أنه لا بدّ أن يكون من الناحية الفنية السينمائية جيّداً بحدٍ أدنى يقرّره المختصّون، ثم لا بدّ أن لا تفوح منه أي رائحة لأي شكل من أشكال العنصرية التي يمكن أن يحويها أي فيلم. وهنالك موقفٌ حاسم تجاه الأفلام ثلاثية الأبعاد ( 3D )، بل على شعار دوريّة السينما الشهرية -سأرجع لهذه الدوريّة- نقرأ عبارة ساخرة هي ‘مضمون’،خالي من الـ 3D’، عدا عن عدم عرضها للسواد الأعظم من أفلام هوليوود أو الأفلام الأميركية إلا ما تشذّ عن القواعد الهوليوودية في صناعة الأفلام، فما تعرضه ‘أوتوبيا’ من أفلام هي أولاً من جميع أنحاء العالم، أي أنها سينما ‘العولمة البديلة’ أي عولمة نتاجات العالم السينمائية ونشرها لا عولمة النتاج السينمائي الأميركي وتعميمه. وثانياً فإنها تعرض أفلاماً تمّ تقييمها جيّداً عبر النقّاد والمهرجانات والصحافة الفرنسية التي تهتمّ بدورها وبشكل استثنائي بالسينما ومهرجاناتها عبر دوريّات عديدة متخصّصة أو صفحات متخصّصة ضمن جرائد ومجلات. على جدران مدخل ‘أوتوبيا’ مثلاً تجد مقالات نقديّة عن الصحافة فرنسية مطبوعة ومعلّقة تتناول أفلاماً تعرضها السينما، إضافة لستاند واسع معبأ ببروشورات لمراكز وأنشطة اجتماعية وسياسية وفنية وثقافية من عروض مسرحية وموسيقية وراقصة وغيرها من الفعاليات التي تحييها هذه المدينة الجنوبية.
أبواب القاعات مثلاً تُغلق حالما يبدأ عرض الفيلم، المتأخر دقيقة لا يستطيع الدخول، أخبروني حين سألتهم عن السبب بأنه الاحترام الذي لا بدّ أن يكنّه المشاهد للفيلم وللمشاهدين الآخرين. ثم لا يمكن إدخال أي نوع من الطعام أو الشراب، الإجابة عينها: احترام الفيلم الذي تشاهده. ولا إعلانات تجارية تسبق الفيلم، سألت وكانت الإجابة نفسها. وإمعاناً في الاحترام -الذي قد نستغربه!- الذي يكنّونه للأفلام المعروضة، في العديد من الحالات يحاولون إحياء نقاش مع أحد المعنيين بعد الانتهاء من عرض الفيلم، قد يكون ناقداً أو مخرج الفيلم أو أحد المعنيين بالقضية التي طرحها الفيلم. وأحياناً يحيون حفلات موسيقية في صالاتها.
بالنسبة للدورية الشهرية التي تصدرها، ‘لا غازيت’، هي أولاً من ورق جرائد بجودة متواضعة، غير ملوّن، يعتمدون لوناً واحداً إضافة للأبيض والأسود بعكس ما نراه في بروشور السينمات التجارية -التي لا تهتمّ بإصدار دوريّة أصلاً- في تولوز حيث جودة الورق والطباعة عالية، تلمع وملوّنة. من ناحية أخرى تنشر ‘أوتوبيا’ في دوريّتها مقالات كاملة تتناول الأفلام التي ستعرضها متيحة للمشاهد قراءة عرض جيد عن الفيلم قبل مشاهدته. أما في بروشور السينمات التجارية السطحيّة -الشبيهة بما في بلادنا العربية- المتأنّقة فلا مقالات ولا تفاصيل إلا نبذة خفيفة عن الفيلم الخفيف كي لا يُجهد المشاهد المفترض ذهنه، هو بروشور ترفيهي كما الأفلام التي يحكي عنها. حتى الإعلانات في كل من الدوريّة والبروشور تختلف، في دوريّة ‘أوتوبيا’ نرى إعلانات لأنشطة ثقافية في المدينة، في بروشور السينمات التجارية كـ ‘غومون’ و ‘أو جي سي’ وغيرها، نجد إعلانات لمنتجات تجارية تتلاءم وهذه السينمات والأفلام المعروضة فيها، وأهواء مرتاديها.
أوّل مرّة حضرت فيها فيلماً في ‘أوتوبيا’، دخلت وجلست وحضرت وانتهى الفيلم، قمت لأخرج فما وجدت غيري قائماً متأهّباً للخروج، أحسست بشيء غلط لم أفهمه، عاودت الجلوس لعلّ الفيلم لم ينته! انتهت موسيقى الجينيريك وتمّ عرض أسماء كافة العاملين في الفيلم، أضيئت القاعة، فهمّ الناس بالخروج. سألت لاحقاً عن الموضوع، فعرفت أن الناس هنا يعتبرون موسيقى الجينيريك جزءاً من الفيلم فيستمعون إليها كأنهم يشاهدونها، كما أنهم يحتاجون وقتاً للخروج من أجواء الفيلم، وأنهم ربّما يودّون قراءة أسماء بعض المشاركين في صناعة للفيلم.
هذا نوع من السينمات التي لن تجد جمهوراً في مجتمعاتنا العربية، وما تحتاجه هذه المجتمعات كي تتقبّل سينما كـ ‘أوتوبيا’ هو تفكيك وإعادة بناء لمفهوم وقيمة الفنون، ومن بينها السينما، بل تفكيك لمعظم المفاهيم الاجتماعية والثقافية لديها. إلى حينه، ولا يبدو أن ذلك بقريب، ستعيث هوليوود فساداً في عقولنا وأذواقنا، وسنهرب منها إلى أفلام نجدها في سينمات كـ ‘أوتوبيا’ التي نعيّدها في عيدها العشرين.

Twitter: @saleemalbeik

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية