سيمفونية «أبو سمبل»: عزيز الشوان والموسيقى الكلاسيكية المصرية

في الثاني والعشرين من الشهر الحالي، أكتوبر/ تشرين الأول، سوف تتعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني، في قدس أقداس معبد أبي سمبل، في أسوان جنوب مصر، وستظل تضيء وجه الملك الفرعوني لمدة عشرين دقيقة، كما تفعل في كل عام، منذ أن تم تشييد المعبد في أحضان الجبل منذ آلاف السنين. لكن ليس هذا الموعد الوحيد للشمس مع رمسيس الثاني، فلديها معه موعد آخر لا تخلفه أبداً، في الثاني والعشرين من شهر فبراير/شباط، وفي هذا اليوم تبقى لمدة عشرين دقيقة أيضاً. ويقال إن تاريخ التعامد في شهر أكتوبر، يعود إلى مناسبة ميلاد رمسيس الثاني، وإن تاريخ التعامد في شهر فبراير، يعود إلى مناسبة جلوس الملك على عرش مصر. يعتبر معبد أبي سمبل من أشهر المعابد المصرية، وأعظمها من حيث إعجاز البناء، فهو يجسد عبقرية المصريين القدماء، في فنون العمارة والنحت والرسم والنقش، وتفوقهم المذهل في علوم الفلك أيضاً، فهذا المعبد تحديداً، تم الاعتماد في بنائه على علم الفلك والرصد الدقيق لحركة الشمس، بالإضافة إلى أنه يكاد يكون متحفاً مفتوحاً، يضم الكثير من اللوحات المرسومة على الجدران، والنقوش المحفورة في الأسقف والأعمدة، والتماثيل العملاقة المهيبة. وهو سجل تاريخي شديد الأهمية، حفظ لنا وأخبرنا عن المعارك الحربية، والعادات والتقاليد الثقافية، وفنون الأجداد ومظاهر مختلفة من حياتهم، وملابسهم وزينتهم وأدواتهم، ونقل إلينا ملامح عن الزراعة والصناعة، وعن المبدع المصري القديم، وكيف كان ينحت التماثيل ويرسم اللوحات على الجدران، وكيف كانت النساء تعزف على الآلات الموسيقية، وتؤدي الحركات الراقصة تعبداً للآلهة.
يسمى معبد أبو سمبل بهذا الاسم، لكنه في حقيقة الأمر معبدان لا معبدا واحدا، المعبد الكبير وهو معبد رمسيس الثاني، والمعبد الصغير وهو معبد الملكة الجميلة نفرتاري، زوجة الملك رمسيس الثاني، ومحبوبته الأثيرة لديه، رغم أنه تزوج الكثير من النساء، وأنجب عدداً هائلاً من الأبناء يزيد عن المئة، حسبما يقال. لكنه خلد زوجته المحبوبة نفرتاري، وشيد لها معبداً خاصاً بها، هو معبد الإلهة هاتور أو حتحور، وجعل رمسيس الثاني تماثيل نفرتاري، بجانب تماثيله الضخمة، لتقف إلى جواره صامدة في وجه الزمن، وتصاحبه في رحلة الخلود. تم بناء المعبد فرحاً بانتصار رمسيس الثاني في معركة قادش، واستغرقت عملية تشييده عشرين عاماً، لذلك تحمل جدرانه رسوماً تصف هذه المعركة، والمجد الذي صنعه رمسيس الثاني، وقوته التي سحقت الأعداء، الذين يدون في هذه الرسوم مهزومين عند قدميه. كل هذا الجمال والإبداع المعجز، وكل هذه العظمة التاريخية والفنية، كان مهدداً بالغرق في الستينيات من القرن الماضي، لولا أن قامت مصر بمساعدة اليونسكو وبعض دول العالم، بأكبر عملية إنقاذ للآثار التاريخية في العالم، تكلفت الكثير من المال والوقت والجهد البشري. وهكذا استطاع هذا المعبد الجليل أن يظل قائماً، وكتبت له الحياة من جديد.
يحظى معبد أبو سمبل بشهرة عالمية هائلة، ويعد حدث تعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني، من الأخبار السنوية التي لا تفقد جاذبيتها أبداً، على الرغم من تكرر حدوثها في كل عام، إذ يطالعها المرء بالقدر ذاته من الدهشة والإعجاب. ويعد موعد التعامد موسماً سياحياً، من أهم المواسم السياحية في مصر، فهناك من يأتي خصيصاً ليرى بعينيه هذا الحدث العظيم، هذا بالإضافة إلى أن المعبد بشكل عام، وطوال فترات السنة، يعد من المحطات الأساسية لكل زائر، يرغب في الوقوف أمام عظمة الحضارة الفرعونية.

معبد أبو سمبل

عزيز الشوان ومعبد أبو سمبل

عاش الموسيقار المصري الراحل عزيز الشوان، في الفترة من سنة 1916 حتى سنة 1993، وهو من أهم أعلام الموسيقى القومية في مصر، إلى جانب كل من أبو بكر خيرت، وجمال عبد الرحيم، وغيرهما. تعلم عزيز الشوان علوم التأليف الموسيقي في مصر، على يد مجموعة من المتخصصين الأجانب، الألمان والإيطاليين والروس، ثم سافر إلى الاتحاد السوفييتي، ليدرس على يد الموسيقار آرام خاتشاتوريان، ويعمل معه لبضع سنوات أيضاً، وكان خاتشاتوريان يستمع إلى مؤلفات عزيز الشوان، ويثني عليها وعلى مشروعه القومي. ولا يخفى تأثر عزيز الشوان بالمدرسة الروسية في الموسيقى، على الرغم من أنه حقق أسلوبه الخاص، وأن موسيقاه موسيقى مصرية في الأساس، لكنها موضوعة في إطار الكلاسيكية السيمفونية، واللغة الأكثر عالمية، والأكثر قدرة على الوصول إلى مختلف الشعوب الأخرى، بعيداً عن لغة الموسيقى المحلية التي تخاطب الشعب المصري فقط، كانت أفكاره الموسيقية رائعة، نابعة من صميم الثقافة المصرية، ومن أعماق التاريخ المصري بفصوله المتنوعة، سواء الفصول الفرعونية، أو الفصول القبطية، أو الفصول العربية.

من وحي معبد أبو سمبل، وبمناسبة عملية إنقاذه التاريخية، ألف عزيز الشوان سيمفونية «أبو سمبل» في حقبة الستينيات، المعزوفة التي يتم تعريفها أيضاً كلوحة سيمفونية، نظراً لأنها سيمفونية قصيرة تتكون من حركة واحدة.

ترك عزيز الشوان منجزاً إبداعياً ضخماً، يملأ حيزاً معتبراً من مكتبة الموسيقى الكلاسيكية المصرية، التي تكتمل بتجارب مبدعين آخرين، ممن درسوا علوم التأليف الموسيقي في الغرب، وتلقنوا قواعده وأصوله السليمة، وعمل كل منهم على أن يكون لمصر موسيقاها العالمية، وصوتها الكلاسيكي والسيمفوني والأوركسترالي، المسموع في شتى أنحاء العالم. ألف عزيز الشوان في مختلف القوالب الموسيقية تقريباً، ويعرف بأنه صاحب أول أوبرا مصرية خالصة، هي أوبرا «أنس الوجود» الناطقة باللغة العربية الفصحى. كما ألف السيمفونيات، وكونشرتو البيانو، والمتتاليات الموسيقية، والقصيد السيمفوني والباليه، كما ألف العديد من المقطوعات لموسيقى الحجرة.
من وحي معبد أبو سمبل، وبمناسبة عملية إنقاذه التاريخية، ألف عزيز الشوان سيمفونية «أبو سمبل» في حقبة الستينيات، المعزوفة التي يتم تعريفها أيضاً كلوحة سيمفونية، نظراً لأنها سيمفونية قصيرة تتكون من حركة واحدة. يستغرق عزف هذه السيمفونية 17 دقيقة تقريباً، وعلى الرغم من أنها تتكون من حركة واحدة، إلا أن المؤلف قسمها إلى أجزاء، وصنع ارتباطات وثيمات وبداية وعودة، تجعلها تبدو كما لو أنه مقسمة إلى حركات. والمقطوعة ثرية موسيقياً، سواء من حيث الأفكار أو الإعداد الأوركسترالي، والألحان المتعددة داخلها، بحيث لا يشعر المستمع بأنها غير كافية أو مبتورة، بل على العكس تماماً، خلق قصرها الزمني واختصارها، نوعاً من التكثيف وتقوية المعنى المراد توصيله. من يستمع إلى هذا العمل، يشعر بأن المعبد منح عزيز الشوان، شحنة هائلة من القوة والعظمة والجلال، فأتت الموسيقى معبرة تماماً عن هذا المعبد المهيب، وانتقلت معه بين وجوه رسومه ونقوشه الحربية، والفنية والاجتماعية، والدينية في المقام الأول بطبيعة الحال.

فالمعبد الذي يضم تماثيل رمسيس الثاني، الملك الفرعون الذي حكم مصر لما يقرب من سبعين عاماً، وتماثيل زوجته الجميلة نفرتاري، يضم كذلك تماثيل للكثير من الآلهة. كتمثال الإلهة حتحور، التي هي إلهة معبد نفرتاري، وفي المعبد الكبير معبد رمسيس الثاني، هناك تماثيل للآلهة رع وآمون وبتاح، الذين يجلسون إلى جوار تمثال رمسيس الثاني في قدس الأقداس. تبدو السيمفونية كجولة داخل المعبد، أو كأن الموسيقار يصف لنا المعبد من خلال الموسيقى والأنغام، ويبوح لنا بمشاعره تجاه هذا الأثر المصري الخالد. تشبه افتتاحية السيمفونية لحظة اللقاء الأول بالمعبد، حين يواجه المرء كل هذا الجلال والبهاء والعظمة، فتبدأ الموسيقى بضربات التيمباني القوية والمضطربة، التي تأخذ السامع إلى أجواء العمل الجادة، وتفرض عليه المزيد من الانتباه وحسن الإصغاء، فكل شيء في هذه الافتتاحية ينبه السامع، إلى أنه بصدد شيء غير عادي، ومكان مهيب جليل. ولم يكتف عزيز هنا بالتأثير الموسيقي فقط، وإنما لجأ إلى الصوت البشري، من خلال الكورال الذي وظفه في هذا العمل إلى جانب الأوركسترا، حيث يردد الكورال في بداية السيمفونية اسم أبو سمبل، ثلاث مرات متتالية بتنغيمات مختلفة، الأول سريع خاطف، والثاني ممتد قليلاً، والثالث يمتد طويلاً مع الكثير من التضخيم، ثم يردد الكورال اسم أبو سمبل في نهاية العمل أيضاً.

ومن حين إلى آخر يدخل الكورال ببعض الآهات والهمهمات، وبشكل عام كان توظيف الكورال رائعاً وملائما لروح العمل، وأضفى عليه المزيد من المهابة. وبما أن معبد أبي سمبل، كان قد تم تشييده احتفالاً بانتصار رمسيس الثاني في معركة قادش، ومشاهد هذه المعركة مرسومة ومصورة على جداريات المعبد، فهناك في السيمفونية المارش الحربي، الذي يصور أمجاد رمسيس الثاني الحربية، لكن من خلال الموسيقى. وهناك الموسيقى الهادئة التي تعبر عن الملكة الجميلة نفرتاري، والموسيقى الراقصة الرشيقة، التي تعبر عن رقص الوصيفات، والحركات التي يؤدينها تعبداً للآلهة. وهناك الألحان الدينية التي قد تبدو قريبة من الموسيقى القبطية، وفيها رنين يشبه رنين الأجراس. تعد هذه السيمفونية من أكثر القطع الموسيقية، الناقلة حقاً للأجواء الفرعونية، التي يحار الكثير من الموسيقيين في التقاط جوهرها ومعرفة كنهها، فقد اقترب عزيز الشوان كثيراً من معبد أبي سمبل، وترك نفسه لتأثيراته القوية، وتلقى نفحاته وعطاياه الروحية والفنية، لذا استطاع أن يسمعنا أنغام هذا المعبد، وأن يعبر بالموسيقى عن كل ما حفره الفراعنة على جدران الزمن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية