سوريا: بين الجماعات وخارجها

حجم الخط
0

رغم أن السؤال عن كيفية إدارة مجتمع متعدد طائفياً واثنيا قوامه الجماعات، مثل المجتمع السوري، سؤال شديد التعقيد، إلا أن محاولة الإجابة، كي تكون قابلة للتطبيق، يمكن أن تسير باتجاهين: العلاقة بين الجماعات، والعلاقات داخل الجماعة نفسها.
بما يخص، الاتجاه الأول، فإن تنظيم العلاقة بين الجماعات، يستلزم طرح أفكار لنظام سياسي مرن واستيعابي، يحافظ على الخصوصيات والثقافات الفرعية، ويضمن عدم غلبة فريق على آخر، وتوزيع اقتصادي عادل للثروات. بديهي أن، النظام المركزي، لا يستجيب لهذه الشروط، لا بل يزيد التحديات احتقاناً وتوتراً ويرفع منسوب العداء بين الجماعات. وعليه، فإن نموذجا يضمن للجماعات حرية التشريع والإدارة والاقتصاد والسياسة، يجب أن لا يستبعد عن طاولة البحث. والنموذج هذا فضفاض إذ يمكن أن يكون فيديرالية أوحكما ذاتياً، ويمكن أن يكون لا مركزية أو لامركزية موسعة. الأمر خاضع للديناميكيات داخل الجماعات وما تفرزه من مخاوف والحاجة الدائمة للضمانات.

في حال شكلت جماعة ما، وعياً سياسياً يشمل حكما خاصا بها، فإن اللامركزية تصبح ضيقة وغير قادرة على استيعاب طموح هذه الجماعة

ففي حال شكلت جماعة ما، وعياً سياسياً يشمل حكما خاصا بها، فإن اللامركزية تصبح ضيقة وغير قادرة على استيعاب طموح هذه الجماعة. وفي الوقت نفسه، قد يكون طموح جماعة أخرى يقتصر على حفظ الخصوصيات الثقافية وضمان دورة اقتصادية تنعش مناطقها، عندها يصبح النقاش أوسع من اللامركزية، دون أن يصل للحكم الذاتي. جماعة ثالثة قد تكون ميّالة بسبب تراكم تاريخي – ثقافي، ورغم كل المآسي التي حلت بها، إلى وحدة البلد، ورابعة لم تفكر أصلا بما تريد وتتخبط بخياراتها، وخامسة لا يبدو أنها مستعدة للتفكير بخياراتها وأحالت هذه المهمة لقوى تستولي عليها وتستثمر بمخاوفها.
بقدر ما إن ربط الصيغة المطلوب إتباعها بخيارات الجماعات، ضروريا، بقدر ما يطرح تحديات، أشدها تعقيداً تلبية مطالب الجميع في ظل تضاربها، إذ كيف يمكن الجمع بين الوحدة واللامركزية والحكم الذاتي؟ الإجابة على هذا السؤال ليس سهلة، لكن، المدخل إليه، يتمثل بالتمييز بين جماعات تفكر لنفسها وجماعات تفكر لنفسها ولسواها، بمعنى أن هناك جماعات بلورت قضايا وتنطلق منها للحصول على ضمانات، فيما ترى أخرى أن الضمانات هي في إخضاع الجماعات الثانية وإسكات هواجسها.
هذا التمييز يمكن أن يُستتبع، بالبحث عن كيفية الانتقال من هاجس الاستيلاء على الآخر، إلى هاجس حاجة الجماعة وفق ما تقررها ديناميكيات من داخلها، وهو ما سينعكس إيجاباً على طبيعة البحث عن صيغة إدارة التنوع السوري، التي لا تقتصر على كونها فصل للصراعات بين الجماعات وتنظيم التعايش بينها، وإنما تكتسب بعداً أقل سلبية، يتعلق بالعلاقات داخل الجماعة نفسها. الأخيرة تصبح أمام تحدي تنظيم التناقضات بين مكوناتها، خصوصا وأن هناك فكرة شائعة مفادها أن الجماعة حين تتفرغ لنفسها، وتتخلص من خطر «العدو»، تتكشف مشاكلها، وقد تنزلق إلى العصبيات العائلية، والديكتاتورية وسوء الإدارة والفساد والقمع، ما يستدعي الحاجة إلى نقل عدوى إدارة التعدد للجماعة نفسها، وتقليل الاعتماد على العناصر التي كانت يوما ما وراء التماسك تجاه الخصوم، من زعمات تقليدية وأمراء حرب وعائلات وعصبيات قبلية. هذه العناصر مع انتفاء الحاجة لاستنفارها في ظل استقرار أوضاع الجماعة وشعورها النسبي بالأمان، تخف حدتها، وتصير أكثر قابلية للذوبان في تجربة جديدة قوامها ليس كراهية الآخر، وإنما الالتفات للذات.
وعليه، فإن هناك تلازماً بين تنظيم العلاقات بين الجماعات وتنظيم العلاقات داخلها، فتفكير جماعة ما بالتفرد بتجربتها، يمكن أن ينطلق من صعوبة العيش مع الآخر فقط ما يؤسس لحرب أهلية باردة. ولكن يمكن كذلك، أن يتوازى مع تطوير تجربة لإدارة التنوع، تتوسع لتشمل الجماعة نفسها، ما يؤسس لتفاعل أكثر إيجابية، باتجاهين، بين الجماعات وداخلها، فنكسب سلاما سياسيا واجتماعيا، وعصبيات أقل.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية