لندخل في هدنة لأيام، تزامناً مع الهدنة المؤقتة، لأني أتوقع للحرب أن تكون أكثر ضراوة بانتهائها، لأنها لم تحقق أهدافها التي قررها رئيس الحكومة الإسرائيلية، وفي البداية قال إن هدف الحرب هو القضاء المبرم على حركة حماس، ثم تواضع قليلاً، وقال بتحرير الرهائن بدون قيد أو شرط، ورفض الهدنة وركب الناقة وشرخ، وهو يقول إنه لن يوافق عليها قبل اخلاء سبيل كل الرهائن!
معيار الانتصار في الحروب يحدده مقدار تحقيقها لأهدافها، والذين يتلمسون هزيمة مصر في حرب عام 1973، والثغرة وما جرى فيها، واستجابة السادات لقرار وقف النار، والاستماع لرأي الفريق الشاذلي صاحب الرؤية المعارضة للرئيس، لا يعلمون أن الهدف من الحرب قد تحقق، ومن هنا تُعتمد عسكرياً وسياسياً بأنها انتصار، فقد أرادها السادات حرب تحريك لا تحرير، لإدراكه أن واشنطن لن تسمح بالسلاح الروسي أن يهزم السلاح الأمريكي، إذا استمرت الحرب، أو ارتفع بسقف الأهداف للسماء!
الحرب الأخيرة، أكدت صحة نظرة السادات للأمر، وبدون السلاح الروسي تحركت الولايات المتحدة الأمريكية، لتمكن إسرائيل من الانتصار، وبررت جريمة استهداف المستشفيات وقتل المرضى، وغزو مجمع الشفاء. ومارس القادة الكذب البواح، لكنهم لن يطربوننا هذه المرة بمحاكمة من يكذب، كما جرى للرئيس كلينتون؛ إنهم يحاكمون رئيس الدولة لمجرد إنه كذب، قبل أن يخبط أحدنا على صدره وهو يهتف: يا إلهي لهذه الدرجة وصل منسوب التحضر لدى القوم؟! ولا مانع من استدعاء مقولة الشيخ محمد عبده واسقاطها قسراً؛ رأيت إسلاماً ولم أر مسلمين!
بلينكن في ساعة لقلبك
أنتوني بلينكن، يتنفس كذباً، ولأنه كذلك فأرشحه لبرنامج في قناة «فوكس» يستلهم فيه تجربة البرنامج الإذاعي المصري القديم «ساعة لقلبك»، والذي كان يقوم على شخصيتين «الخواجة بيجو»، و»أبو لمعة»، وهو يصلح أن يكون «أبو لمعة» الذي كان في البرنامج يطلق الأكاذيب المحلقة في الخيال، والتي يسمع لها «الخواجة»، وهو يشد في شعر رأسه!
الجيم في «الخواجة بيجو»، معطشة عند أهل الحضر وسكان البادية، وفي الصعيد نحن نعطش الجيم على الدوام، و»الجيم» في «الخواجة» و»بيجو»، تشبه جيم «بيجامة»، والقروي عندما يتمدن يعتقد أن جيم «بيجامة» تنطق كجيم العاصمة والبندر، فيتندر عليه القوم، وبعض الأعراب ينطقونها «دال»!
تقول النكتة (ولا بأس بها فنحن في هدنة) إن موجها بالتعليم دخل أحد الفصول في إحدى المدارس في هذه المناطق، وخرج يشيد بمستوى الطلاب غير أنه يأسف لنطقهم الجيم دالاً، فعقب ناظر المدرسة: «هذا ما يدنني»، يقصد «يجنني»!
هذه السطور، التي اقتحمت السياق، للخوف من أن يبدل زميلنا المدقق الجيم إلى غين سيراً على ما يؤخذ به في عموم الصحف الناطقة بلغة الضاد خارج مصر، نتيجة انحسار المدرسة الصحافية المصرية وغياب تأثيرها خارج اقطاعية الشركة المتحدة، زائد قناة «القاهرة والناس»، التي سألنا المجلس الأعلى للإعلام عن اسم مالكها فاستشعر الحرج ولم يرد، وهي تحتفي ببوق لنتنياهو! وقبل أن تشغل بالك بـ»القاهرة والناس» انظر كيف أنني كتبت «الصحافية»، وليس «الصحفية» وهي الصيغة المعتمدة لدى المدرسة المصرية، لكن هذا أهون من كتابة «الغواجة بيغو»!
فبلينكن، أو «أبو لمعة» ذكر في مقابلة مع قناة «أ بي سي» أنه واثق من وجود مركز قيادة وأنفاق تحت مجمع الشفاء في غزة. وبعد أيام استولى الجنود الإسرائيليون على المجمع وتصرفوا فيه تصرف المالك في ما يملك، فهل يحاكم بلينكن وغيره وهم كثر على هذا الغطاء للجريمة، التي ارتكبت؟ لماذا لا يكتبون «الغريمة» بالمرة؟! في مصر نكتب «الجابون» وليس «الغابون»!
أزمة الإعلام الغربي
بلينكن ماكينة كذب، وهو لا يقع ضمن اختصاص هذه الزاوية إلا من حيث حديثه للمحطة التلفزيونية المذكورة، والتي استقبلت منه ما قال دون أن تخضعه للنقاش، ولو كانت الحقيقة هي ما تريد، لاستدعته بعد الاجتياح الإسرائيلي لمجمع الشفاء، وسألته: من أين جئت بتأكيداتك؟ وما هو قولك الآن؟ ليس لأنه كذب، فالساسة جبلوا على الكذب، ولكن لأنه استخدم القناة في تمرير أكاذيبه!
بيد أن الإعلام الغربي في غالبيته جزء من الحرب، ومرر الأكاذيب عامداً متعمداً، وقد سقط في امتحان المهنية، ولم يعد بإمكانهم الآن أن يعطوا دروساً فيها، كما كانوا يفعلون طيلة العقود الماضية، إنهم ليسوا أكثر من أبواق أو أذرع إعلامية!
انظر الى جريمة قناة «فوكس» الأمريكية، المسجلة بالصوت والصورة عندما نقلت إلقاء جنود إسرائيليين القبض على أحد المسلحين، وإذا بالعالم يقف على أنه مشهد مختلق، وفبركة، حيث كان مراسلها جزءاً من هذا الأداء التمثيلي الأرعن، فالمسلح ليس مسلحاً، والواقعة لم تحدث!
الإعلام الغربي، هو الذي قال إن المقاومة الفلسطينية تقطع رؤوس الأطفال وتغتصب النساء، وروج لهذه السردية الإسرائيلية، فهل هذا أداء يليق بإعلام ملتزم أم أنه ليس أكثر من ذراع إعلامية في خدمة السيد؟!
ومع هذا التبني الواسع، فإن العالم عرف الحقيقة، فلم يعد الإعلام الغربي يحتكر المعلومة، فإعلام المقاومة، مع أنه إعلام حربي بالأساس، إلا أنه لم يكذب ولم يتجمل، فضلاً عن أن مراسلي «الجزيرة» على الأرض كانوا ينقلون الحقيقة المجردة، والتي هي وحدها تمثل انتصارا لانحيازاتهم وليست فقط للتأكيد على الالتزام بقيم المهنة، فلم يكونوا بحاجة الى تأليف وادعاء!
أليس غريباً أن الإعلام الغربي، الذي كان جزءاً من أدوات الدعاية الإسرائيلية ضبط متلبساً بالكذب، في الوقت الذي لم يشكك فيه أحد في صحة معلومة ما وردت في بيان لـ»أبي عبيدة»، أو فيديو من القائمين على الإعلام في المقاومة. ناهيك عن أن أحداً لم يشكك في صحة معلومة واحدة وردت من جانب مراسلي «الجزيرة» في غزة أو الأرض المحتلة. فما كل هذا الانضباط المهني؟!
في طوفان الأقصى لم تسقط فقط دعاية الجيش، الذي لا يُقهر، ولم يسقط فقط ادعاء القوم أستاذية العالم في الإعلام، لكن سقطت مع ذلك دعاية استقرت في الوجدان العربي العام، أن الإسرائيليين «شطار في الإعلام»، وها نحن نراهم بآلياتهم الإعلامية الضخمة يسقطون سقوطا مدوياً، ولم يقنعوا أي صريخ ابن يومين بسرديتهم، التي لم تصمد، فلا نتحدث عن أنهم يفترون الكذب، لكن في فشلهم في تقديم كذب يمكنه الصمود لأيام!
فليتنحوا عن موقع استاذية الاعلام طوعاً أو كرهاً.
أرض – جو:
• يستحق المسؤول في قناة «القاهرة الإخبارية» في «وردية» إعلان التوصل لقرار بالهدنة المؤقتة الى التأكيد على أهليته الإدارية، فـ»الجزيرة» أعلنت في هذا الوقت المبكر عن الهدنة، منسوباً لمصدر مختص هو الخارجية القطرية، وهو إعلان له دلالته، وإن لم يتجاهل المصدر الدور المصري والأمريكي، فإن جهة الإعلان هي من تبدو بيدها عقدة الأمر، والقاهرة تزاحم على المواقف، وكدت أقول في عهد نظامها الحالي، لولا أنني تذكرت مقابلة الشيخ حمد بن جاسم مع قناة «القبس»، التي ذكر فيها إن قطر هي من أنهت ملف الأسير الإسرائيلي لدى حماس شاليط، لكن السلطة في عهد مبارك أصرت على أن تستحوذ هي على لقطة التسليم!
لم يكن أمام مسؤول «الوردية» في «القاهرة الإخبارية» أن يتجاهل خبراً مثل هذا، والسلطة في مصر بما تروج له تبدو أنها الوسيط الوحيد لإتمام الاتفاق، وأن دور قطر مساعد، والحال كذلك، فلم يكن من المنطق أن تنسب «القاهرة الإخبارية» الخبر للخارجية القطرية!
ولعله فكر في ماذا يفعل ولا يمكنه الاتصال بأي مسؤول في هذا الوقت المبكر، وتوجد مشكلة الاتصال بالمسؤولين وهم رقود، وظني أنه من تطوع بكتابة الخبر على هذا النحو: «مصدر مسؤول يعلن التوصل لهدنة إنسانية»، فلماذا يخفي المصدر المسؤول اسمه؟ وهل خبر بهذا الحجم يجوز نسبته لمصدر مجهول؟!
بيد أن الحكمة الغالية في عبارة «الجيش يقول لك تصرف»، والعبارة منسوبة لأحد الدروس، التي يتعلمها من يلتحقون بالجيش في مرحلة الجندية. وقد تصرف مسؤول الشفت بما يؤهله أن يكون وزير إعلام مصر القادم! نصفق له يا شباب.
صحافي من مصر