رودولف نورييف: التتري المسلم الهارب من الاتحاد السوفييتي

لم يكن رودولف نورييف راقصاً عادياً، أو مجرد نجم من نجوم هذا الفن الكلاسيكي، فقد أُطلق عليه لقب، أعظم راقص باليه في القرن العشرين. وعلى الرغم من وجود راقصين آخرين، يعدون من العظماء أيضاً، إلا أن نورييف يبدو بحق جديراً بهذا اللقب، فهو مثال بديع لجماليات الرقص الرجالي في فن الباليه، وتجسيد شديد الرقي للكلاسيكية الخالصة، بالإضافة إلى قوة التكنيك لديه، والأداء المذهل، ومهارة رسم الحركة بواسطة الجسد، وصياغة التكوينات الشكلية على خشبة المسرح، والإحساس العميق بالدور الدرامي الذي يؤديه رقصاً.
لكل راقص من راقصي الباليه أسلوبه الخاص، وبصمته الفنية الفريدة التي تميزه عن غيره، فكما أن لكل مطرب على سبيل المثال، صوته وحسه الغنائي، وتفسيره الفني للجملة التي يتغنى بها، كذلك راقص الباليه يتفرد بجسده وطريقته في أداء الحركة، لهذا يستطيع أن يلعب الدور نفسه، الذي يلعبه راقص آخر، وأن يطبعه بطابعه الخاص، رغم الالتزام الكامل بالتصميم الحركي. والمعروف أن الباليه الكلاسيكي من أكثر الفنون جدية وصرامة، فلا مجال للارتجال أو حرية التصرف، ولا مفر من التقيد بشروط المصمم، يبقى للراقص إذن، أن يبدع في كيفية أداء الحركات التي رسمها المصمم، وأن يطوّع جسده إلى أقصى درجة ممكنة، من أجل أن يتحول هذا الجسد، إلى خيال جميل مبهر على المسرح، يخلب ألباب الجماهير ويسحر أعينهم، ويثير دهشتهم وينتزع منهم صيحات الإعجاب والتصفيق الحاد. لا شك في أن مجرد وصول راقص الباليه، إلى أن يكون الراقص الأول، أو الراقص المنفرد الذي يؤدي الأدوار الرئيسية، يعد أمراً غير هيّن وإنجازاً ضخماً، أما أن يحفظ هذا الراقص اسمه في ذاكرة الفن، ويصير علماً ومدرسة ذات منهج وأسلوب، وراقصاً لا يُنسى على مرّ الزمن، فهذا يعد قمة النجاح وذروة المجد.

رحلة الهروب والحرية

قضى رودولف نورييف العمر على خشبة المسرح، ينتقل بين شخصية وأخرى، ويؤدي رقصات هذا الأمير، أو ذلك البطل التاريخي، أو تلك الشخصية الخرافية، في الباليهات الكلاسيكية المعروفة، كباليه «بحيرة البجع» وباليه «كسارة البندق» وباليه «جيزيل» وباليه «الجميلة النائمة» وباليه «ريموندا» وغيرها من العروض. وكأي راقص باليه، كان عليه أن يكرس حياته منذ الطفولة، من أجل هذا الفن، وأن يخضع للتدريبات اليومية الشاقة، وسط أجواء المنافسة القاسية، التي لا تسمح بالوصول إلا لمن يبذل الكثير، ويضحي بالكثير في سبيل فن الباليه. لم تكن حياة رودولف نورييف الفنية، هي فقط الحياة المثيرة، فإن حياته الشخصية كانت مثيرة للغاية أيضاً، وإلى اليوم لا يُذكر فنه، إلا وتُذكر معه تجاربه الحياتية، وعلى رأس هذه التجارب رحلته نحو الحرية، وهروبه من الاتحاد السوفييتي إلى الغرب سنة 1961، الأمر الذي لم يكن سهلاً على الإطلاق في ذلك الزمن، وكان ينطوي على مخاطر كثيرة، قد تصل إلى حد تهديد الحياة، وربما الاختطاف والإخفاء والسجن، وبالفعل عانى نورييف لفترة طويلة، من ملاحقة عناصر المخابرات الروسية «كي جي بي» له، والمحاولات والمناورات والحيل المتعددة، من أجل إعادته إلى روسيا مرة أخرى، أو أن تطأ قدمه أي بقعة، كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفييتي حينذاك، بما في ذلك الضغط على كل من أمه وأبيه، وجعلهما يقومان بكتابة رسائل تناشده بالعودة إلى روسيا، ثم تم منع الأب والأم من السفر، ليحرم نورييف من رؤيتهما لسنوات طويلة.

على الرغم من ذلك كان نورييف، يبدو سعيداً بهروبه وحريته، واثقاً من قراره الذي اتخذه وهو في الثالثة والعشرين من عمره، غير نادم عليه حتى النهاية. فرّ نورييف من الاتحاد السوفييتي، ولم يعد إليه مرة أخرى، يقال إنه زار مدينة كازان مرة واحدة قبل وفاته، لكنه حين مات دفن في فرنسا، ولم يدفن في مسقط رأسه. أثناء رقصه في فرقة ماريينسكي الروسية، وهي من أهم فرق الباليه العريقة، كان نورييف مراقباً ومشكوكاً في أمره، وكان كثيراً ما يتم منعه من السفر إلى الخارج، لأداء عروض الباليه مع فرقته، ثم سُمح له بالسفر إلى فرنسا، وهناك تمت عملية الهروب وطلب اللجوء. مثل هذا الهروب ضربة قاسية للاتحاد السوفييتي، وخسارة رودولف نورييف لم تكن بالخسارة الهينة السهلة، فقد كان رغم شبابه وحداثة سنه في ذلك الوقت، نجماً لامعاً وموهبة عبقرية ثمينة، يمتلكها الاتحاد السوفييتي، وكان ذائع الصيت في الخارج، وتتلهف مسارح أوروبا وأمريكا لرؤيته، ثم إن الحدث خلق ضجة كبيرة في العالم، واستغله الغرب بطبيعة الحال، في إطار كل أنواع الهجوم المادي والمعنوي على العدو السوفييتي، ولا شك في أن نورييف كان مدركاً لهذا الأمر، وحصل على الكثير من التقدير الذي يستحقه بطبيعة الحال، بل إنه حصل على المزيد من التدليل أيضاً، وصار بالإضافة إلى كونه راقصا عظيما، رمزاً لانتصار الغرب على المعسكر الروسي، ونموذجاً من نماذج الحرية، وصار ملهماً للأجيال من بعده، فمنهم من اتبعه وكرر تجربته، كراقص الباليه الفذ ميخائيل باريشنيكوف، الذي فرّ هارباً من الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

لفترة طويلة عاش رودولف نورييف بلا جنسية، وهناك دائماً صعوبة حتى في تعريفه كروسي، فهو كان يقول إنه تتري مسلم، حيث ينتمي إلى أسرة مسلمة من التتار في روسيا، ولعل «رقصة التتار» التي يؤديها في باليه «غايانه» لآرام خاتشاتوريان، تعبر عن ارتباطه بأصوله التترية.

لفترة طويلة عاش رودولف نورييف بلا جنسية، وهناك دائماً صعوبة حتى في تعريفه كروسي، فهو كان يقول إنه تتري مسلم، حيث ينتمي إلى أسرة مسلمة من التتار في روسيا، ولعل «رقصة التتار» التي يؤديها في باليه «غايانه» لآرام خاتشاتوريان، تعبر عن ارتباطه بأصوله التترية. لم يكن نورييف يذكر أي انتماء آخر. ولم يكن يتحدث عن الاتحاد السوفييتي، دون أن ترتسم على وجهه تلك الابتسامة العريضة، التي تعبر عن سعادته بالهروب والنجاة من عناصر المخابرات، كأنه قد هرب للتو ولا يزال فرحاً بالانتصار عليهم. يتحدث نورييف في أحد حواراته التلفزيونية، عن مكالمة هاتفية مع أمه، كانت تتم تحت إشراف عناصر «كي جي بي» كمحاولة للضغط عليه من أجل العودة إلى الاتحاد السوفييتي، ويروي إنه قطع حديث أمه ثم قال لها: أمي سألتيني كل الأسئلة ما عدا هذا السؤال، هل أنت سعيد هناك؟ لكنني سأجيبك على كل حال، أنا سعيد هنا.

موهبة تملأ مسارح العالم

بعد فراره من الاتحاد السوفييتي، عمل رودولف نورييف في فرقة باليه أوبرا باريس، ثم ذهب إلى إنكلترا ليصير الراقص الأول، في فرقة الباليه الملكي البريطانية، قبل أن يعود إلى فرنسا مرة أخرى. وبين بريطانيا وفرنسا أو معهما، كان هناك الكثير من المحطات الأخرى، والأسفار الفنية نحو العواصم الأوروبية، والولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، والعمل مع أهم المصممين العالميين في فن الباليه، كما كانت هناك بعض التجارب السينمائية، وخوض مجال التمثيل، رغم صعوبة التحدث باللغة الإنكليزية، ووجود اللكنة الروسية القوية، إلا أن جاذبية نورييف وما يتمتع به من كاريزما هائلة، جعلته ملائماً لشاشة السينما، خصوصاً أن وجهه معبر درامياً، وتستطيع المشاعر أن تنتقل إلى عينيه، وأن تنطلق عبرهما بكل سهولة. كان نورييف موهوباً للغاية، وراقصاً استثنائياً بمعنى الكلمة، يمتلك الجسد المثالي لراقص الباليه، كان طوله يزيد قليلا عن 170 سم، لكنه كان يبدو أطول من ذلك على المسرح، أما عضلات ساقيه فيقال إنها كانت من أقوى العضلات، التي امتلكها راقص باليه يوما، وربما كانت الأقوى. كل حركات البالية الأساسية وخطواته المعروفة، التي يختص بها الراقصون الرجال، نجدها لدى نورييف مختلفة عن غيره، ومذهلة في أدائها وحرفيتها الشديدة، ودرجة الصعوبة التي تمارس بها، فالدوران مثلاً سواء على الأرض، اعتماداً على الساق الداعمة، أو أثناء القفز في الهواء، نراه عند نورييف سريعاً للغاية، حتى تكاد ملامح وجهه تختلط وتتداخل من فرط السرعة. والقفزات نجدها لديه تبلغ معدلات مذهلة في الارتفاع، تحطم ربما الأرقام القياسية، وكذلك التوازن، سواء في الرقص المنفرد، أو في الرقص مع الباليرينا، التي يكون عليه حملها في بعض الأحيان، والتنسيق والتزامن الحركي معها، كل هذا بالإضافة إلى قدرته على التعبير العاطفي، والانغماس الكامل في الشخصية الخيالية التي يلعبها، حيث يتحول بالفعل إلى سيغفريد مثلاً في باليه بحيرة البجع، أو إلى روميو في باليه روميو وجولييت.

كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية