رواية «الشهر الثالث عشر»: تفكيكٌ لتناقضات الواقع العراقي

حجم الخط
0

بدءاً لا بد من القول إن أحداث رواية» الشهر الثالث عشر» للروائي العراقي أحمد سعداوي، تدور في زمن افتراضي، هو عراق أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، وفي ناحية افتراضية تُدعى» تل الإمجعبزة» لكنّ المجريات الواقعية، تشير إلى انتفاضة تشرين عام 2019. صدرت الرواية عام 2022 عن دار نشر «نابو».
تبدأ أحداث الرواية، بعودة، الشخصية الرئيسية فيها، الطالب الجامعي عايد إلى بيت أبيه الكبير الشيخ ضهد، الذي يمتلك نصف أراضي الناحية، رافق عودته ظهور هدهدٍ غريبٍ في سماء الناحية، يرصده الراوي بضمير الغائب، أينما استقر، وأينما طار، يتبيّن لاحقاً أنّه روح شهيدٍ ثائرٍ، من شهداء انتفاضة (الشهر الثالث عشر) العراقي استعارياً أو انتفاضة تشرين واقعاً.
تتوالى ترسيمات المشهد البانورامي، في الناحية الافتراضية، ومنها البدّالة القديمة، الوظيفة الاتصالية للناحية مع العالم الخارجي، حيث تبدو شخصية (أوحيدة) صانعة المكانس، تطلب من (أبي صلاح) الذي من المفترض أن يكون عامل البدّالة، الكشف عن مصير زوجها العسكري، وهنا يترسّخ في ذهن قارئ الرواية، أنَّ هناك ما هو غامضٌ بشأن هذه البدّالة، حيث يلجأ أهالي الناحية لعرض شكاواهم، التي يدركون بالفطرة أن حلّها يفوق قدرتهم ومداركهم، وإذا كانت السلطة السياسية واضحةً على أرض الواقع في بغداد، فهنا في هذه الناحية الافتراضية، توجد، ما يمكن أن نسمّيه، السلطة الغامضة، مع وجود تمثّلات للسلطة الواقعية هنا، ممثّلةَ بمعاون مدير مركز الشرطة (علي رفش). وهو في طريقه إلى البيت الكبير، يقرع عايد أجراس الأسئلة في دخيلته: هل «الشهر الثالث عشر من السنة انتهى عنده بسرعة» كان الموت قريباً منه، هكذا تتداعى صور ما حدث في رأسه، جهّز حقيبةً كبيرة دسّ فيها حاجياتٍ قليلة. إنّه الهروب وليس له مُسمّى آخر، وظلَّ يتجرع كؤوس الندم على ذلك طوال فصول الرواية، مع أنّه صانع شعارات الانتفاضة، التي يخطّها أعضاء مجموعته على لافتات. هنا يتكشّف لنا، بعض أفراد المجموعة؛ «الاستاذ جليل» و»نسرين» زميلته في الجامعة، التي يحرص على بناء جسور الحب معها.
شخصية أبيه الشيخ ضهد، تمثّل شريحة مُلاك الأراضي، فهي تنظر إلى ما يجري وفق ما تتطلّب مصالحها، ومثلما له صلاتٌ مع متنفذّين في السلطة، له صلاتٌ مع رجالٍ في المعارضة، هذه الوسطية أو الانتهازية، تجعله يبذل كل ما من ِشأنه ألاّ يعود ابنه الوحيد عايد إلى بغداد مرّةً أخرى، مع الوضع المحتدم فيها، بل حينما تهدأ الأمور، وفي منظاره الشخصي النفعي، يترقّب؛ إلى من تؤول إليه سدة الحكم للبلاد، للموالاة، أم للمعارضة.
ومع شعور عايد بالذنب، بأنّهُ خذل رفاقه في بغداد، يعاود الاتصال معهم تلفونياً، وهذا لا يحدث إلاّ عبر البدّالة (السلطة الغامضة) وهنا يصطدم بها، لاسيّما أنّه يحاول ترميم علاقته مع نسرين من ناحيتين: معرفة الأخبار هناك، وجسّ نبض نسرين بشأن العلاقة بينهما، لكن اتّضح لعايد أنَّ ما بينه وبينها يجري وفق اتّصالٍ افتراضي، إذ يعترف أبو صلاح له، بأن ليس هناك من شخصياتٍ في العاصمة اتّصل به، سواءً نسرين أو أستاذ جليل، هو كان يقلّد أصواتهم، بل ينصحه، قبل هذا الاعتراف، بالعدول عن المضي في هذا المسار مسار الانتفاضة، حفاظاً على مصالح ابيه وسمعته. هنا السلطة الغامضة، تلعب دوراً انتفاعياً، حيث إفادة أبي صلاح المزدوجة، من الشيخ ضهد وزوجته أم عايد، عبر تسريب أخبار الشيخ ضهد إلى زوجته، من خلال مكالمات الأول، ويطمئنها ألاّ شيء هناك، مما يدور في ذهنها من خيانة الشيخ ضهد لها، فتبعث له الهدايا، في حين أنّه اطمئنانٌ كاذب، وذلك ليفيد من الشيخ ضهد أيضاَ.
هنا يتيقّن عايد من أنّه ترك المواجهة الحقيقية في بغداد مع سلطةٍ واقعية، ليواجه في هذه الناحية الصغيرة سلطةً غامضةَ، تدير كلَّ شيء هنا، بما فيها شؤون أهل الناحية، واتصالاتهم مع العالم الخارجي. حينما يوقن عايد أنّ كلَّ شيءٍ هراء، وأنه لا عالم واقعيّ في هذه الناحية، تثور ثائرته على أبي صلاح، وكأنها الانتفاضة الثانية له، حتى أنه يتذكّر في طريقه إلى البدالة، لإخراج أبي صلاح من عقر مقره، شعارات الانتفاضة التي ألّفها، وظلّ رفاقه يردّدونها، وها هو يردّدها هو، حاملاً بيده عصا غليظة، أخذ يطرق بها باب البدالة القديم، قاصداً، مع صراخه المحموم، أن يُخرج أبا صلاح، من عالمه الغامض خلف الباب، إلى العالم الواقعي تحت الشمس، سقوط لطخات الحناء التي تدرّجت ألوانها من الأسود الداكن إلى البني الفاتح القريب العهد، يشير إلى هدف عايد إسقاط السلطة الرمزية – أبي صلاح، لكن السلطة الواقعية الممثّلة بمعاون مدير مركز الشرطة علي رفش تتدخل هنا وتبعد عايد بالقوة عن تحقيق مراميه، وحالت دون إسقاط رمزية أبي صلاح، باعتقال عايد، الذي هرب من العاصمة خوفاً من بطش السلطة هناك، ليجدها هنا أيضاً حاضرةً وبقوة، ومعها السلطة الرمزية (الخرافة). فضلاً عن توظيف سعداوي لعناصر السلطة ببعديها السياسي والخرافي، والمكان والزمان ببعديهما الواقعي والافتراضي، يمكن أن نبعث ثنائية الحياة والموت، الماثلة في توظيف سعداوي رمزية الهدهد – الروح اللائبة، وإذا كان المنتفض الحي عايد، قد هرب من بؤرة الانتفاضة بغداد، فإنّ هذا المنتفض الشهيد لاحقهُ بروحه اللائبة، كي تكون هذه الروح شاهدَ عيانٍ على ما يفعلهُ عايد في الناحية الافتراضية، وما حصل هنا من انتفاضٍ فردي، انتهى باعتقال عايد، وهنا يحلّق الهدهد بعيداً، كأنّه أنجز مهمتهُ بحصوله على جوابٍ لسؤال الروح اللائبة، عن استمرار الروح الثورية لدى بطل الرواية عايد، بالانتفاض مجدّداً، ولو على سلطةٍ خرافيّة.
بالإمكان القول إن الشيخ ضهد وابنه عايد، قد مثّلا خطين رئيسيين في هذه الرواية، الجيل الأول يمثّل البورجوازيّة الإقطاعية، التي تحاول الانتفاع من مجريات التغيرات في البلاد، لأجل تقوية مصالحها، ففضلاً عن المكاسب الاقتصادية، لها مطامح سياسية، عبر طموح الشيخ ضهد في أن يحصل على مقعدٍ في مجلس النواب. الخط الثاني، الجيل الجديد، الشباب الثوري الذي قد يصيبه التردد، في الاستمرار بالانتفاض الثوري، فينتكس، بمغادرة بؤرة الانتفاضة، إلى مسقط رأسه – الناحية الخيالية، ليهدف سعداوي من ذلك، إلى استعاضة الانتفاض الثوري، بمقارعة سلطةٍ ميتافيزيقيةٍ، ليثبت سعداوي أنّ الطغيان في كلِّ مكان. هذه الرواية هي عصارة خلطة سعداوي، الفائز بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية عام 2014 عن روايته «فرانكشتاين في بغداد» وتُرجمت إلى 23 لغة، خلطته مزيجٌ من الرمزية والمواجهة المستحيلة مع الواقع العراقي بكلّ تناقضاته وتاريخ المآسي فيه.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية