رسائل من القاهرة… عن الحرب والموسيقى والهوية الممزقة

حجم الخط
0

عندما اندلعت معركة العلمين، عام 1942، جنب الإسكندرية، أصيبت بريجيته شيفر بالسكري. «بسبب هذه الصدمة أصبت بالسكري، الذي لم أتمكن بالطبع من التخلص منه» كما كتبت في واحدة من رسائلها. خشيت أن تقع في يد النازيين، الذين فرت منهم. «يجب الهروب الآن. لكن إلى أين؟». تمكنت من الحصول على تأشيرة إلى إثيوبيا، وسافرت ـ جنوباً ـ إلى أسوان. «كما فعل الكثيرون، كي نقوم في حال تطلب الأمر بقطع الحدود من هناك». لكن الحلفاء حسموا المعركة لصالحهم، وعادت بريجيته شيفر إلى القاهرة، فصارت مديرة للمعهد الفني الذي عملت فيه. أول مديرة ألمانية في مصر. ثم أصيبت بالتهاب الكبد، أغمي عليها وأسعفها الأطباء، فغادرت المستشفى، وكتبت: «الآن فقط أصبح كل شيء من الماضي». تقصد منه ماضيها في مصر، الذي امتد ثلاثة عقود، قبل أن تنتقل في أعوامها الأخيرة إلى لندن. ماذا يحمل ألمانية أن تستقر في مصر بين ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي؟ سوف نعثر على إجابة على السؤال في كتاب «رسائل من القاهرة» (الصادر عن مشروع كلمة/ أبو ظبي وفالشروم/ برلين) ترجمة مصطفى السليمان، الذي يستعرض رسائل هذه المرأة، إلى ثلاثة من أصدقائها، يقيمون في برلين وفيينا، تخبرهم فيها بما يدور في حياتها، وما يدور من حولها، من تحولات سياسية أو اجتماعية. فقد ولدت بريجيته شيفر مطلع القرن الماضي، في عائلة يهودية، وقضت طفولتها في برلين. شعرت بالتمييز إزاء اليهود، فتعمدت في الكنيسة وصارت نصرانية، لكن الآخرين لم ينسوا أصولها، ففصلت من الجامعة، وهي التي قضت شبابها في معاهد الموسيقى، ثم أعيد إدماجها، لكن شبح النازية كان يدنو، فقررت الانتقال إلى مصر، وهناك قضت حياتها في تأليف الموسيقى وإقامة الحفلات، عملت مُدرسة في معهد القاهرة الموسيقي للفتيات، ثم مديرة له، التحقت بوزارة المعارف، كما عملت أيضاً في وزارة الإعلام، لكن حقبة الستينيات شهدت تحولات كبرى في مصر، ووجدت نفسها مضطرة للمغادرة، على غرار زملاء لها، فاستقرت في لندن، وواصلت عملها كناقدة موسيقية، من غير أن تطمر حنينها إلى سنواتها المصرية. في رسائلها بين 1935 و1963 سوف ننظر إلى مصر بأعين مختلفة، نلامس فيها هوامش وزوايا نادراً ما ننتبه إليها.

لغات القاهرة

حال وصولها إلى القاهرة، لم يبدُ على بريجيته شيفر شعور بالاغتراب، فقد كانت مدينة مأهولة بالأجانب. «لا يُمكنكم تصور مدينة صغيرة مثل القاهرة. يمكن القول إن القاهرة تتكون من عدة مدن». فقد كان يسكنها ـ مثلما كتبت في رسالة لها ـ فرنسيون، إنكليز، يونانيون، إيطاليون بالإضافة إلى جنسيات أخرى. وتصف يوماً عادياً، في العام الأول من وصولها، منتصف الثلاثينيات فتكتب: «الشيء الجميل في أيامي في القاهرة هي الصباحات. ففي الصباح الباكر، بعد الساعة 7 بوقت قصير، يتم تناول الإفطار على الشرفة، في إطلالة على الأهرامات، إطلالة على الصحراء والنيل، بينما تحلق النسور فوق رؤوسنا حتى ننتهي من الإفطار، لتخطف بقايا اللحم على الشرفة. حتى الآن اليوم رائع. في الثامنة والنصف يفقد اليوم الكثير من جماله، ففي هذا الوقت يأتي مدرس اللغة العربية مهلهلاً وهذا يعني تعلم القراءة والكتابة باللغة العربية، وبعبارة أخرى: تبدأ جدية الحياة» وتضيف: «عند الظهيرة هناك زيارات… زيارات، هذه مهنة في مصر يجب إدراجها ضمن البرنامج الزمني. يجلس المرء لساعات طويلة، يرتشف القهوة المصرية ويطمئن كل خمس دقائق على صحة الجميع وأحوالهم». تبدو القاهرة مثلما وصفتها بريجيته شيفر في أوج أزمنتها الكوسمبوليتية، مدينة مفتوحة على العالم، تُسمع في شوارعها وميادينها لغات كثيرة، لكنها انتبهت، من البداية، إلى ضرورة أن تتعلم اللغة العربية، التي ستكون عنصراً مهماً في حياتها المهنية، سنوات الحرب العالمية الثانية، وكي تترقى في منصبها في معهد الموسيقى، وكي تتواصل مع الناس. فالحياة المصرية قبل أن تصل إليها نيران الحرب العالمية الثانية كانت صاخبة ومثيرة في حياة بريجيته شيفر. وتذكر في واحدة من رسائلها ليلة زفاف الملك فاروق. «الأمس كان حفل زفاف الملك. والمدينة كلها في صخب الألوان والموسيقى». لكن لم تمض سنوات قليلة وقد صارت حياتها ممزقة جراء الحرب، وتذكر في مراسلات لها هويتها الممزقة، بين أكثر من عقيدة، وبين أكثر من بلد، وهي التي لم تسكن ـ في الحقيقة ـ سوى بلد واحد: هو بلد الموسيقى. تؤلف أعمالاً، بعضها مقتبس من قصائد شعرائها المحببين، على غرار ريلكه.

موسيقى وسياسة

لا بد أن المترجم بذل جهداً معتبراً في ترجمة هذه الرسائل، نظير ما تضمنته من مصطلحات موسيقية دقيقة، فقد كانت كتاباتها موجهة إلى ثلاثة أشخاص من المقربين إليها، ومن العارفين بشؤون الموسيقى كذلك، وهي التي خافت أن تنزلق إلى نهايتها في غضون الحرب العالمية الثانية، لكنها خرجت سالمة منها، وتكتب: «منذ 1943، عملت في المكتب نفسه. كنا نستمع إلى جميع البرامج الإذاعية من ألمانيا. لقد كان عملاً مثيراً للاهتمام. لكنه مرهق للغاية». وجدت نفسه متورطة في شؤون الحرب رغما عنها. وعقب الحرب عادت إلى حياتها في الموسيقى، وتذكر في واحدة من رسائلها أنها كانت ترسل مؤونة غذائية إلى أصدقاء لها في أوروبا. من يتخيل أن شخصاً في مصر كان يزود آخر في أوروبا بالأكل والدواء؟ ذلك ما حصل فعلا في أربعينيات القرن الماضي، وهو موثق في رسائل بريجيته شيفر، التي نشعر بأنها قد ذابت في الحياة المصرية، فتسرد في رسالة أخرى مؤرخة في 11 أبريل/نيسان 1950: «قضيت الأمس في الإسكندرية مع الأصدقاء. عيد الفصح الذي هو يوم الإثنين هو يوم عطلة في مصر، وهو الوحيد الذي تحتفل به جميع الطوائف، ويدعى شم النسيم = شم ريح الربيع، وفي كل عام يصادف مع موجة حر ورياح صحراوية وافتتاح موسم ملابس الصيف. وبالأمس بقيت مع فساتين الصيف، فبدلاً من رياح الصحراء جاءت الرياح من الشمال وانتهى اليوم بشكل غير متوقع بعاصفة أمطار وبرد». وتواصل بريجيته شيفر في رسائلها عرض الحال في مصر، ما عرفته في حرب السويس أو قبلها حين عمت الكوليرا، ودخلت البلاد في حجر صحي، تحكي عن نفسها وتفيد القارئ بما عرفت مما يحصل في البلد، فهي جملة من الرسائل التي تحكي عن مصر في تفاصيل قد نغفل عنها، وتسمح لقارئها بإعادة النظر في التاريخ من وجهة نظر أخرى محايدة، من وجهة نظر مؤلفة موسيقية، عاشت بين هويات متفرقة، بين شرق وغرب، تمزج بينهما من غير مفاضلة، ومن غير نظرة علوية كما ساد الحال مع غربيين آخرين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية