رذاذ الخوف وصَيِّب اللغة

نحن نزعم في هذا المقال أنّ اللغة يمكن أن تصنع الخوف. أو لنقل إنّ اللغة يمكن أن تزيد في قوّته. ومعلوم أنّ الخوف شعور يتلبّس بالنفس حين يعي المرء وجود خطر أو شيء يهدّده، فيستبدّ به الذعر حتى يصبح فريسة لهُ. حين نصبح فريسة للخوف فإنّه ينهشنا بمخالب يغرسها في أضعف مناطقنا، وهي التي تكون أكثر شعورا بالخوف. لا توجد مناطق في النفس للخوف كما للألم مناطق في الجسد إنّما هشاشة النفس هي التي تخلق للخوف منابت يمدّ فيها جذوره. قد يكون الخوف وهما وقد يكون حقيقة تنقلب عبر مضخمات الخيال إلى رُهاب قاتل. وقد يكون الخوف كلمة، وهذا أقلّ ما تحدّث فيه الناس وهو ما يعنينا ههنا.
أكثر الأدوات المسالمة التي تصنع الخوف هي اللغة. اللغة أداة للكلام والكلام في العربية رديف الكَلْم أي الجرح. ونحن باللسان – ومن عجب أنّه يسمّى جارحة – نجرح ونهدّد ونخيف، وأحيانا نصنع عالما من الرعب اللفظي.
نحن البشر كائنات يخيف بعضها باللغة بعضا، قبل العبارة وفوق العبارة وتحت العبارة وأثناءها، بالتصرّف في نبرة الصوت، وبالمنحنى اللحني لكلامنا. كلّ الناس تتعلّم كيف تغيّر نبرتها حين تغضب، وحين تريد، وهي تغضب، أن تخيف غيرها، أن حسبك فإنّي من الضواري.. يمكن أن يشدّد المرء على مقطع من مقاطع الكلام أو على جملة من الجمل بغرض الإخافة. فكلّ كلمة يمكن أن تكون عندئذ حاملة لعبوة من الخوف تنفجر رهبة في أذن من استمع إليها، إن نطقت بنبرة مرعبة.
كلمة (أنا) و كلمة (أنت) وهما ضميران، هما من عبارات يسمّيها الفلاسفة التحليليون والبراغماتيّون مشيرات مقاميّة، بمعنى أنّها كلمات لا تتحدّد بمعناها، بل تتحدّد بالخارج المرجعي الذي تحيل عليه، فلا يمكن أن تعرف من (أنا) إلاّ والكلمة تحيل على ذات من استعملها في مقام معيّن؛ وكذا الشأن مع (أنت)؛ هذان الضميران المبهمان يمكن أن يصبحا محوري رعب وخوف، في كثير من مقامات التهديد، ولا سيّما حين يصبح المتكلم دائرة بطش وإخافة بأقواله وأفعاله. إنّ أكبر ما يصنع الخوف في التاريخ هو (أنا) تريد أن يراها الآخرون محور صلف وتشدّد وتعنيف.
سحيم بن وثيل التميمي (584- 680م) شاعر مخضرم ينسب إليه بيت الشعر: (أنا ابن جَلا وطلاع الثنايا // متى أضع العمامة تعرفوني). قال هذا البيت ضمن مقطوعة في الردّ على من سخر من قدرته الشعريّة، فبيّن كيف أنّه مشهور يجلو الأمور ولا يتخفى في المهمات والصعاب، وأنّه يمكن أن يضع عمامة الشرف ويلبس خوذة الحرب. إلى هذا الحدّ كان الكلام عاديّا لا خوف فيه ولا تهديد ينبع منه. وتبدو (أنا) التي في فاتحة الكلام محيلة مرجعيا على ذات تريد أن تتعرّف بما يحلو لها أن تتعرّف به.
هي ذات غير مرعبة في كلام لا ينضح رعبا. لكنّ هذا البيت خرج من شرعيته الأولى هذه ليكتسب شرعيّة أخرى أدخلته معاريج التخويف، حين قاله الحجاج بن يوسف الثقفي مستشهدا به في أوّل تولّيه الإمارة. واستطاعت الأخبار أن تبني هذا البيت في سياق من الرعب ارتبط بشخصيّة الحجاج أو بـ (أنا) باطشة. تقول الأخبار إنّ الحجاج أوصى جنده في الخارج أنّه حين يضع العمامة بعد الخطبة فعلى السيوف أن تضرب الرقاب دون اختيار. ونحن لا نبحث في واقعيّة الخبر لكن نمثّل على قوّة الأثر اللغوي الذي سيرتبط بـ (أنا) الحجاج.
تصبح اللغة مرهبة إن هي ارتبطت بسياق مرهب، بداية من القائل، وصولا إلى ما يمكن أن يصنعه بذلك القول. فمن الممكن أن يكون الحجاج، وهو والي العراق الجديد، غير مخيف بكلامه ناطقا باللغة كما ينطق بها غيره، سواء أصاح بالكلمة أم همس. ومن الممكن أن يوجد في المسجد من يخشى الوالي لهيبته أو لوظيفته، بقطع النظر عن أيّ فعل مخصوص يصدره، فإنّ خوف ذاك سيكون خوفا بسيطا إن قورن بما سيكون بعد أن يرى الحجاج يقتّل وينكّل ويأمر وينهى؛ ولو عاش هذا الذي يخاف قليلا ونجا من سيوف جند الحجاج فإنّه سيصبح واعيا بالخوف أكثر فأكثر، رابطا بين قوّة الكلمة ووقعها الإرهابي.
إنّ اللغة يمكن أن تكون عاديّة لا تخويف فيها حتى تقرن بشخص أو بموقف يجعلها إرهابية. الأشخاص الذين يخيفون، هم يخيفون بكل شيء بالصمت وبالكلام، في السلم وفي الحرب. واللغة تصبح عندهم أداة من أدوات بناء الإخافة ونسج الرعب.
في الشعر القديم، أتقن الخائفون وصف خوفهم أو خوف من يتصوّرون أنّهم خائفون. وسنكتفي بأن نقدّم في هذا السياق مثالين أحدهما يصف خوفه والثاني يصف خوف الإنسان مطلقا. يقول النابغة الذبياني معتذرا للنعمان بن المنذر بعد أن بلغه تهديده (فبتّ كأنّي سَاوَرَتْني ضَئِيلَةُ// من الرّقش في أنيابها السمُّ ناقِعُ) شبه حالته بمن وثبت عليه حية دقيقة منقّطة بالسواد قاتلة، وسمّها في أنيابها قد اجتمع طيلة شهر من الادّخار، وعليها أن تنفثه لكي تجدّد زادها منه للشهر الجديد؛ فليس لها إلا أن تنفثه، وليس أمامها إلاّ هذا الجسم مجالا وحيدا: فهذا قدر مُحِيق. المخيف هنا ليس صنف الأفعى ولا وثوبها على جسده ولا السمّ القدري المنفوث، بل المخيف هو أن يظلّ الخائف مسكونا بسؤال هاجس: متى يحدث التسميم ويقع الموت؟ إنّه رُهاب الموت.
اللغة تهوّن ما نعتبره في العادة مرعبا، وتجعل ما لم نألفه هو المرعب: الموت المخيف لم يعد مخيفا فهو قدريّ، بل ما يخيف هو متى يحدث. ونحن لا نتحدّث هنا عن سنوات بل عن هنيهات. هذا المعنى يكرره النابغة في بيت لاحق أكثر شهرة بين الناس فيه: (فإنّك لكالليل الذي هو مُدركي // وإنْ خِلْتُ أنّ المُنْتَآى منك واسعُ).
لكن أجمل بيت تَلَعَّبَت فيه اللغة بالنفس الخائفة قول ينسب إلى مجهول فيه: (كأنَّ فجاج الأرض، وهي عريضة /على الخائف المطلوب، كَفّةُ حابل// يُؤَتَّى إليه أنّ كلّ ثَنِيَّاتٍ/ من الأرضِ قد ألقت إليه بقاتل). يَتصوّر الخائف الذي يجري وراءه قدره أنّ عدوّه نائله حتّى لكأنّ الأرض على اتساعها تصبح ككفة الحابل: أي الحفيرة، التي ينصب بها الحابل حبائله ليصطاد بها. بعض المفسّرين يستعملون هذا المعنى في شرح قوله تعالى (ضَاقت عليهم الأرض بما رحبت) (التوبة، 118) ومن هذا جاء معنى الضيق، الذي هو رديف القلق غير المفهوم، أهو خوف من القادم، أم هو توجّس أو اضطراب.
الضيق ليس في تصوّر المكان؛ بل الضيق أيضا في اللغة. فيمكن أن تصبح ألفاظها غير دالة على معانيها، ويصبح الانتقال بين الأضداد ممكنا من الأرض إلى الحُفرة ومن الاتساع والامتداد إلى الغوص والضيق والقضاء غرقا. كلّ المعاني تمرّ عبر إدراكنا لها فلا الأرض واسعة لأنّ معناها ومرجعها كذلك، بل لأنّ إدراكنا السّلميّ لها يراها كذلك: حين نكون في رحابة من أنفسنا نرى الأرض أرحب، وحين تضيق أنفسنا تضيق المعاني. البيت الثاني أوسع دلالة من خلال استعمال عبارة( يُؤتّى إليه) التي تعني يتهيأ له، أو بعبارة أكثر دقة يتراءى له ما لا يراه العالم المختلف، الذي يعيش في عالم ممكن مُسالم لا خوف فيه؛ أمّا عالمه هو الممكن. ففيه يرى أنّ كل الثنايا تلقي إليه بقاتل، وأنّه لو مشى في ثنية منها أصابته المنون. الأرض دائما تخيفنا ليس الزمان الذي نحن فيه بل الفضاء الذي يهددنا بالابتلاع. نحن كائنات فضائية لغوية تأكلنا كل أطرنا في نهاية الحكاية، بعد أن تضيق علينا سبل اللغة. إنّ اتساع اللغة هو جزء من اتساع الفضاء، وضيقها الذي يمكن أن نعشقه في ما نسميه دقة يمكن أن يدق لنا العنق، بعد موجة رهاب لغوي.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية