رحلة مع النقد الأدبي وإليه

منذ بدأت أفكر في الكتابة، أو منذ أدركت أنني منذور لها، وأنا أحب كتابة القصة والرواية، متخليا عن كل ما كان يمكن أن أقوم به من أعمال أخرى مثل الرياضة، وبصفة خاصة كرة القدم، حيث كنت لاعبا ماهرا فيها في الشارع أو المدرسة، وعرض عليّ بعض الكبار، تقديمي لنادي الاتحاد السكندري أو النادي الأوليمبي، ليتم اختباري في فريق الفتيان، تمهيدا لالتحاقي بفريق الكبار في ما بعد. لقد كان العرض وقتها غير مغرٍ لي، وما زلت أتذكر نظراتي لمن يطلب مني ذلك وأنا أبتسم ولا أرد، فلا معنى لنقاش حول موهبة الكتابة وموهبة اللعب. اللعب لن يعطيني فرصة تنمية موهبة الكتابة، سيجعلها عبورا ثانويا. هكذا كنت أفكر، حتى الوظائف عرفت كيف أنجو من مستنقعها.
منذ ذلك الوقت كانت قراءة النقد الأدبي طريقي لفهم معنى الأدب، وما هي المدارس الأدبية وكيف أكون بينها، أو أين أضع قدمي. كانت كتب طه حسين وعباس العقاد، خاصة التي تجمع مقالاتهما مثل «ألوان» و»حديث الأربعاء» لطه حسين أو «ساعات بين الكتب» لعباس العقاد، كذلك كتب محمد مندور ومحمد غنيمي هلال عن الأدب وأدباء العالم، والصراعات الأدبية في العالم، وأفكار الكتاب الكبار، وطبعا غيرهم من الكتاب، هي طريقي للمعرفة التي أتوق إليها. حين وضعت قدمي بين الكتاب، وكانت أول قصة تُنشر لي عام 1969 ثم تتالت القصص القصيرة في السبعينيات على مسافات متباعدة، فلم أكن متعجلا، وأختار المجلات التي أنشر فيها، وكانت هي أهم المجلات في مصر، مثل مجلة «المجلة» ثم مجلة «إبداع» التي كان يشرف عليهما بالتتالي عبد القادر القط، ومجلة «الطليعة» التي كان يشرف عليها لطفي الخولي والمسؤول عن ملحقها الأدبي فاروق عبد القادر، ومجلة «الهلال» التي كان يشرف عليها رجاء النقاش. كان النشر في هذه المجلات له عائد قراءة كبير من الكتاب والنقاد فضلا عن القراء العاديين. كنا عددا قليلا من الكتاب، سمّوهم جيل السبعينيات، وعددا قليلا من الكتاب سمّوهم جيل الستينيات، عدد لا يزيد المتصدرون للمشهد من كل منهما عن عشرة، لكن انتقلت لقراءة كتب ومقالات نقاد كبار، مثل شكري عياد وعلى الراعي وصلاح فضل وغالي شكري ورجاء النقاش وغيرهم، ثم أضيف إليهم نقاد من الخارج مثل محمد برادة وفيصل دراج وغيرهما أيضا. كانت القراءة سهلة وممتعة والزمن يمضي، حتى جاءت مجلة «فصول» في التسعينيات. بدأت أشعر بصعوبة القراءة للنقد في بعض المقالات من كثرة المصطلحات الأدبية الجديدة على الساحة الأدبية متأثرة بالبنيوية وما بعد البنيوية.
رأيت أن كثيرا من الدراسات لا تفرق بين العمل الجيد والمتوسط، فالمهم هو تطبيق النظرية واستخراج الدلائل عليها. ورغم أن معرفتي بالبنيوية كمذهب نقدي وفكري كان مبكرا عام 1979، من خلال كتاب لصلاح فضل هو «نظرية البنائية في النقد الأدبي» وكان هو تقريبا بالنسبة لي أول من أقرأ له في الموضوع. وبالمناسبة يظل هذا الكتاب، هو أسهل ما قرأت في القضية. وأذكر أني كنت وقتها أعمل في المملكة العربية السعودية، وكنت أخذت الكتاب معي من مصر، وكتبت عنه مقالا في مجلة «اليمامة»، لكني كثيرا ما كنت أجد صعوبة في متابعة بعض مقالات مجلة «فصول» باستثناءات قليلة لصلاح فضل نفسه، أو عزالدين إسماعيل. ابتعدت عن القراءة في النقد والتحليل بهذا الشكل، ربما بحكم القدرة على الفهم والاستيعاب، وهو ما علّق عليه نجيب محفوظ يوما «ماكنتش أعرف أن النقد صعب كده»، أو هكذا قيل من بعض الجالسين معه، اكتفيت بقراءة المقالات البسيطة في الصحف اليومية والمجلات الأدبية الأخرى، وهي المقالات التي كانت تُعنى بالأعمال الجديدة للكتاب.
مشى ذلك معي حتى الآن، لكن الآن اختلطت الأمور وصارت لدينا سوشيال ميديا مليئة بالمجاملات، ولا أحب أن أسميها الشللية، رغم أنها كذلك، ومليئة بالصفحات مدفوعة الأجر من أجل اللايكات أو الإعجاب، لكن رغم ذلك وجدت بينها مواقع جميلة كما قلت يوما مثل «نقد 21» التي يشرف عليها محمود الغيطاني، ومثل مكتبة وهبان التي يشرف عليها إسلام وهبان، وأرجو أن لا يتصور أحد، على طريقة كثير من رواد طريقة السوشيال ميديا في البحث عن النيات، أني أغفلت غيرهم عمدا، فأنا أعطي أمثلة لا أكثر. المهم يوجد الجيد وسط الرديء، لكن لم يتوقف النقد ولن يتوقف، وبدأت تظهر كتابات وكتب عن موضوعات متعددة، مثل «المدينة في الرواية»، أو «المرأة في الرواية»، أو «الشخصيات القبطية في الرواية»، أو «الشخصيات الهامشية» أو الزمن أو المكان أو غيره من الموضوعات. تقدم معظم هذه الأعمال، وليست كلها، إلى الجامعات للحصول على درجات الماجستير، أو الدكتوراه، فضلا عن أعمال عن كتاب بعينهم، وبالمناسبة البحث عن هذه الأعمال التي تم تقديمها في الجامعات ونُشرت بعد ذلك، مهم لأن أكثرها غائب عن الأذهان، كما تغيب الكتب الفكرية عموما، لأن الحديث عن الروايات الجديدة يشغل كل الفضاءات، ولأن أصحابها غالبا لا يبذلون جهدا للدعاية على السوشيال ميديا، وربما هذا نصيب النقد دائما لا أدري لماذا، رغم أنه صانع الكتّاب الحقيقي لمن يريد. أعرف من كثير من الدعوات التي أتت إليّ عبر السنين لحضور هذه المناقشات للرسائل الجامعية، أنها رافد كبير وعظيم جدا، وإن ظلت قراءته بين صفوة القراء. كثير ممن يكتبون الآن لا يقرأون في النقد، وبعضهم يقول لماذا يقرأ وهو يكتب أصلا! استمرت قراءتي للنقد لكتاب مرموقين من كل الأجيال، مصريين وعربا. المهم الآن ما أريد أن أعود إليه، وهو أنه بملاحظة عناوين الدراسات الجامعية أو غيرها التي تفاجئنا في كتب، تجعلني أسأل هل بقي شيء لم يتناوله النقد في ما تناولته الرواية.
مدن وبشر وشوارع ورجال ونساء وثورات وحروب وأحداث كبرى، ماذا بقي للكتابة عنه. لا يعني هذا أن تتوقف هذه الكتابات، لكن يعني أن النقد مستمر، رغم مجاملات السوشيال ميديا. بالطبع لا يزال الأمر كما هو قديما من سعي الكاتب المبدع لإيصال عمله للنقاد، فسيل الكتابات لا يجعل ناقدا ولا غيره يمكن أن يتابع كل ما يتم نشره. كنت أفعل ذلك زمان، رغم أننا كنا كتابا قليلين، حتى جاء شهر يونيو/حزيران 1996 وصدرت روايتي «لا أحد ينام في الإسكندرية»، أخذت بعض النسخ إلى جريدتي «الأخبار» و»الأهرام» لأعطيها لبعض الصحافيين. كان الجو حارا جدا فجلست للاستراحة في مقهى في منطقة الإسعاف، أشرب شيئا باردا، ثم فجأة قلت لنفسي ما الذي أفعله في هذا الحر؟ من يريد أن يقرأ ويكتب فليشتر الرواية. عدت إلى البيت، المدهش أن الرواية التي لم أعطها لأحد، حظيت ولا تزال بأكبر قدر من القراءة والقراء، وصارت موضوعا لكثير من الدراسات الجامعية، ناهيك عن مئات المقالات المتناثرة التي لا تنتهي، حدث ذلك رغم أني لم أوزع الرواية، ولم تكن هناك وسائل اتصال هوائية كما هو الآن.
الآن زاد الكتاب إلى المئات، والروايات كل شهر لا تقل عن خمسين رواية، ومن ثم ورطة النقاد كبيرة، وإن ظلت مراجعة الموضوعات التي كتبت عنها عشرات الكتب لعشرات النقاد، تريك كيف لم يعد هناك موضوع طرقته الرواية إلا واحتفى به النقد. لكن يظل الموضوع الغائب وهو طرق الكتابة نفسها، وهل يمكن أن يستخرج النقاد من دراسة لأعداد من الروايات الجديدة، طرق البناء الفني وأين نضعها بين المذاهب الأدبية. ألا توجد مدارس أو مدرسة مبتكرة يمكن أن نستخرجها من الأعمال الأدبية. سؤال صعب لكني دائما أراه مهما، وأكرس له هذا المقال، بعد أن تردد أكثر من مرة في كتاباتي بشكل عابر.

كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية