«رؤوس وتوابل: ميثاق اللهب في مطبخ الأمير السلجوقيّ»: الرواية الـ30 من سليم بركات تعتمد المطبخ كمكانٍ فريد

حجم الخط
0

باريس ـ «القدس العربي»: «رؤوس وتوابل: ميثاق اللهب في مطبخ الأمير السلجوقي» هو عنوان الرواية الـ30 من الشاعر والروائي السوري سليم بركات، وتصدر قريباً عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في 465 صفحة.

يندرج هذا العمل الجديد في قائمة روايات بركات التاريخية، مثل «السماء شاغرة فوق أورشليم» (بجزئيها)، و«زئير الظلال في حدائق زنوبيا»، و«أنقاض الأزل الثاني» عن النهاية المفجعة لانهيار جمهورية مهاباد الكردية.
   الحكاية ذات سرد واضح من حيث ثراء التفاصيل والتفرعات والامتدادات، ما يجعلها عملاً تصويرياًّ دقيقاً جداًّ لِمَا تكون عليه الدول في مراحل انحلالها الأخيرة، ويكون الأشخاص والكيانات المرتبطة بها جزءاً من انعكاس ذلك السقوط. وإذْ يبدأ ظهور علامات الضعف على سلطنة سلاجقة الروم، يتجرأ أميران تركيان من أتراك الأناضول على مطالبة أمير سلجوقي بإعادة بعض الأرض من إمارته إليهما، كونها كانت في القديم مُلكاً لعائلتهما قبل امتداد سلطة الدولة السلجوقية من شرق إيران إلى أرض الأناضول غرباً. يفكر الأمير السلجوقي في طلبهما الذي لا يعتبره مجحفاً. يكتب إليهما عن رغبته في استشارة أهل قصره وأعيانه الحكماء مع إبداء التساهل من قِبله، والرغبة في تسوية طلبهما بسلام.
   يفاتح الأمير أعيان قصره ومستشاريه بأمر المراسلة بينه وبين الأميرين الأخوين ميكائيل، وبميله إلى منحهما قطعة الأرض من شرق إمارته الواقعة بين مدينة حلب وإمارة أنطاكية الصليبية. يفاجأ الأمير برفض شديد تتولاه زوجته تُركان وابنه الأكبر كاميار، ثم يصير التنافر قوياًّ بين رغبته في تسوية الأمر مع الأميرين التركيين ـ ضمن إحساسه بازدياد ضعف السلاجقة ـ وبين رغبة زوجته وابنه في رفض المساومة.
هنا يبدأ الصدام. تلجأ زوجته إلى طبيب القصر بالكثير من الاحتيال والإغراء، فتحصل منه على أدوية ليست سامة لكنها تجعل الشخص غير متزن في سلوكه يوماً بعد يوم. تدسُّ الدواء في شراب زوجها فيبدو مختلاًّ يتصرف بطريقة مستهجنة، وهكذا تجتذب أعيان القصر إلى صفها بوجوب عزل الأمير، فيوافقون ويراسلون سلطان السلاجقة عن حال الأمير سليمان وعدم أهليته لإدارة الإمارة، على أن يتولى ابنه الأكبر إدارتها. يسقط الأمير في الفخ، وحين يطلبون منه اختيار الجهة التي يريد قضاء اعتزاله فيها، يختار مطبخ القصر الواسع، ويصحب معه إلى عزلته قسماً صغيراً من نساء حريمه.
   الرحلة الحقيقية في الرواية تبدأ من مطبخ القصر. سيرة أشخاص المطبخ وما يجري فيه هي العمود الفقري لهذا العمل. ففي حين تصل رسالة جديدة من الأخوين ميكائيل تذكيراً للأمير سليمان بما وعدهما به من إعادة الأرض، تحتار زوجته كيف يكون الرد ومَن سيكتب الرد؟ لكن المأزق ليس هنا فقط. أهل القصر باتوا على علم بالاهتراء الذي أصاب السلطنة، وهو ما يجعلهم يحذرون ويخافون ردود فعل الأخوين التركيين على تباطؤهم في الرد عليهما. لذا يحاولون استمالة الأب المنفي في المطبخ بكتابة رد فيه قبولهم بإعادة الأرض إليهما لكنه يمتنع، وشرطه أن يعود إلى إدارة القصر سيداً عليه. الزوجة وحدها تُبدي فيما بعد قبولها بعودته مستاءة من إدارة ابنها السيئة للإمارة، فيحتال عليها ابنها باغتيالها مسمومةً.
قد يصلح أن تُسمى هذه الرواية واسعة البناء بـ«سيرة مطبخ»: الأمير وحريمه والطاهي وعميد التوابل الأعمى، والعمال والعاملات كلهم شبكة متداخلة من نسيج متين داخل فضاء تفوح منه روائح الطهو والتوابل ودخان الأفران. الأمور معلَّقة إذاً بين رفض ابن الأمير عودة أبيه ليراسل الأميرين التركيين وبين رفض الأب الكتابة إليهما وهو معزول منفي في المطبخ، حيث التفاصيل الطريفة من تأليف الأمير لكتاب طبخ بالحبر على بطانة قفطان أبيض، يقرر أن يهديه إلى الأميرين التركيين فيما بعد، حسب وقائع الرواية قبل ختامها.
في هذه الأثناء يلجأ الأمير المعزول إلى تخطيطٍ مجنون لاستعادة السلطة، فيبدأ بمراسلة الأخوين ميكائيل سراًّ مع رسول يعتمد عليه من أقرباء الطاهي. وهكذا تتوالى الرسائل بينه وبينهما بطريقة مثيرة جداًّ، حيث يضمِّن رسائله وَصْفات للطهو ووصفات لإشباع الرغبات الجنسية وحكايات ظريفة. العنيف هنا أنه أعطى وعداً للأميرين بإعطائهما ما هو أبعد من طلبهما بعض الأرض، وسيعطيهما القصر أيضاً إذا نفَّدا له شرطين: الأول، أن يبقى مقيماً في مطبخ القصر مع حريمه؛ والثاني، أن يتسلَّم منهما رؤوس أولاده ساعة دخولهما القصر.
ويمهد الأمير السلجوقي لدخول الأخوين ميكائيل إلى القصر برسم خريطة لنفق يتصل من مقابر العائلة خارج القصر بموضع داخل حجرة المؤن في المطبخ، والتسلل سيتمّ من هناك فيما بعد، وما يستتبع ذلك من السيطرة عليه. وهكذا، في كل مراحل الرواية تتقابل لحظتان عنيفتان أو تتوازيان: تفاقم رغبة الأب في انتقام لا يُبقي شيئاً لأولاده، وتفاقم تشبث الابن الأكبر بسلطته على القصر، في وضع حرج من مراحل تحلُّل السلطة السلجوقية، وطمع أتراك الأناضول في استعادة أملاكهم.
   الفصل الأكثر إبهاراً هو المشهد المسرحي للأمير جالساً في أحد معاجن المطبخ، مفترِضاً أن المعجن هو قارب يسير به في نهر أورنتس (نهر العاصي في سوريا)، تواكبه نساؤه على ضفتي النهر. لقد دعاهن إلى نزهة «وهمية» خارج المطبخ الذي يقيم فيه لأشهر معزولاً كإقامة جبرية، وهو أقنعهن أنه اختارَ نهراً للنزهة كي يقيم حفلة من شواء اللحم على ضفتيه، لأن شواء اللحوم هو المرغوب في نزهات الناس على ضفاف الأنهار. نساؤه يبادلنه اللعبة الوهمية كأنهن في نزهة حقيقية، وهو يتصرف كراكب زورق يسير على الماء، والحوار بينه وبينهن في كل هذا الفصل شديد الرقة والمرح وتبادل اللعب مثل مسرح اللامعقول. هو فصل طويل، مسرحي بامتياز يعكس صورة الوحشة التي هيمنت على الجميع.
   الحوارات الأكثر قوة وعمقاً هي تلك التي تدور بين الأمير السلجوقي والأعمى يوسف شنديل، المتمتع بموهبة شديدة في خصائص التوابل. إنه الشخص الذي يعتمد عليه الأمير في تأليف كتاب الطهو كهدية للأميرين التركيين اللذين سيمنحهما قصره، برغبة منه في انهيار المعبد عليه وعلى أولاده.
   النهاية عنيفة جداًّ وقاسية بتفاصيل محبوكة من قدرة الروائي على حشد الإثارة بلغته الخاصة الثرية. وما يُبهر في هذه النهاية هو ذلك المشهد عن مصير الأمير الذي يجد نفسه وحيداً في المطبخ. سليم بركات لا يصفه للقارئ، بل يعبِّر عنه بدخول سنونوة إلى المطبخ (نعرف في فصل سابق أنها بنت عشها في إحدى الزوايا). تطير قريباً من رأسي الأمير والجزار، فتلمح صورتها منعكسة، بسرعة خاطفة، على السيف العريض (أو الساطور) في يد الأخير مرفوعة يهوي به.
   هنا فقرات من الرواية خصَّ بها المؤلفُ «القدس العربي الاسبوعي»:

1ـ كان السلاجقة قد أيقظوا غيلانَ الفِتَنِ بينهم بعد مقتل السلطان سليمان شاه الثاني. أمراءُ انحازوا إلى أمراء في مناكفةِ آخرين، وفي التظاهر بعضهم على بعضٍ، وفي التنافس على تمتين الأحلاف. مالَأَ بعضُهم فِرَقاً من الصليبيين يُعينونهم في عبور أرض البيزنطيين إلى ديارِ بيتِ المَقْدِس؛ ونَشَدَ بعضُهم تحالُفاً مع البيزنطيين الذين توسَّلوا الحدَّ من نفوذ كونراد الألماني، ومن نفوذ لويس الرابع عشر.
كان البيزنطيون أصل استقدام الحملات الصليبية ردعاً لتوسُّع السلاجقة غرباً، ثم احتدم التنافسُ على الغَلبة بين الفرنجة فِرقةً على فِرقةٍ، وأميراً على أمير، وعِرْقاً على عِرق، وطموحاً على طموح، وطمعاً على طمع. أمَّا منازَعات الترك السلاجقة فلم تكن بدورها جديدة عليهم، بعد مقتل سليمان شاه. سلاطينُ كُثرٌ منهم ورث أحدُهم عن الآخر الحُكْمَ على جثث. السلطان قلجْ أرسلان ورَّثَ الدولة ابنَه الأصغر. ثار عليه أبناؤه الآخرون. حاربوه وحاربهم. حاصرهم. قتلَ ولدَه محموداً. توفي ابنه ملك شاه. استولى ابنه سليمان على أملاكه، وورَّثَ ابنَه القاصرَ الحُكْمَ. تمردَ على الولد عمُّه كيْخسرو متحالفاً مع البيزنطيين ليفتحوا له طريقاً إلى موانئ بحرِ بُنْطُس، وإلى الاتصال بالصليبيين على موانئ بحر الروم.

2ـ كان مُلفتاً، في تاريخ المعدن المسكوك بروحه السلجوقية للمبادلات والمقايضات، أن الدولة سكَّت دنانيرَ لا تحمل عبارات دينية إسلامية، خُصِّصت للتداول مع البيزنطيين في التجارة، مراعاة للمشاعر المسيحية، واكتفت النقوشُ عليها بالحِكم المأثورة تتجاذبُ بلاغتَها روحُ الإغريق في زرع الحِكمَة، وروحُ الصين في سقاية الحكمةِ بماءٍ لإنباتها.
خَلَتْ كَثرةٌ من دنانير سلاجقة الروم الذهبية من النقوش والرَّقْن. آثروا وضعَ الألقاب والآيات على معادنها. لكنهم أظهروا سخاءً في الرسوم على النقود الفضة حيواناتٍ، ونباتاتٍ. أكثروا من تجسيمات الأُسُود، والغزلان، والأحصنة، والشمس، والقمر، وأوراق عرائش العنب، والغار، وجرائد النخيل، وعثاكيل التمر، وعناقيد العنب.
على نحوٍ مّا من رغبة الإنسان في خلودٍ، سُكَّت أيضاً دنانيرُ ذهبية تذكارية، تمجيداً لوقائعِ مُصاهراتٍ، وتنصيب أمراء، وحِفظ المآثر لنساء مُبجَّلاتٍ أنجبنَ عظمائَهم.
تلك النقودُ السلجوقية لن تُقيم معادنُها طويلاً في عُهْدة النقوش التي ارتضاها خيالُ تاريخهم لنفسه تمجيداً، وافتخاراً، وتسامياً. المغولُ المتهيئون لرسمِ خطوطِ طولٍ، وخطوطِ عرضٍ جديدة على الخرائط، غير المرسومة بعدُ، سيعصفون من الشرق بالمعادن عصفَ ريحٍ على الرمل. سيُذيبونها في قدُور تحت خيامهم، ليسْبُكوا بها ما يخصُّ تاريخَهم، ذهاباً وإياباً في شِعاب الزمن، من رسوم فرسانهم، وأباطرتهم، ومن نقوش الحروف مديحاً لعِرقهم بلا قوافٍ أو أوزان، مثلها كأصوات الرياح.

3ـ كان بحر بُنْطس، والأرض الجنوب منه، الشاسعة تحت اسم بُنْطسَ نفسه، التي شهدت مرافئُه تجارةً واسعة مع السلاجقة، نهْباً في أيامهم آنذاك لسفن القراصنة الروس، والقراصنةِ القِفْجاقِ ـ القبائل التركية المزدهرة أعراقاً في سهول أوراسيا.
لم تكن المُدافعةُ عن شواطئ البحر، وعن سفن التجارة في عُرضه، على قدْر المأمول لردع القراصنة. مراكبُ حماية سفن التجارة بدت ضعيفة في مواكبتها للعبور إلى الموانئ. كانت قليلة الجنود، ضعيفة الأسلحة، لا تبتعد عن الشواطئ.
القراصنةُ كانوا أشدَّ مراساً في التلاعب بالبحر، ذي الأقوام الكُثر على محيطه المنعزل عن البحار المترامية سعةً، إلاَّ بمضائق قليلة فيه. قراصنةٌ شقرٌ، وقراصنة بوجوه مسطحة قليلاً. أفظاظٌ دمويون، يأكلونَ شحمَ إلْياتِ الضأن مملَّحاً، نيئاً، على الإفطار، نشروا الرعبَ في قُلوع السفن وسواريها، وأخشابها، وفي قلوب ملَّاحيها، وطهاة الأطعمة الفقيرة لبحَّارتها. لم تسْلم من رهبتهم الغيومُ فوق بحر بُنطس، والنوارسُ التي أدْرَجوها بين أطعمتهم إذا افتقدوا الحَمامَ، والدجاجَ، أو الفواخِتَ من طيور البرِّ يتصيدها أهل القرى في السهول.
ظهرت على خرائط المِلاحة ـ إلى جوار أسْهُم تحديد الجهات ونجومها، ورسوم الشِّعاب المرجانية، وأرقام العمق والضحالة، ومواعيد المدِّ والجزْر ـ دوائرُ صغيراتٌ للتحذير من عبور الأمكنة المُعْلَمة بها: إنها أوكار القراصنة ومرافئ سفنهم في المضائق، وبين الصخور العالية حِجاباً. وكذلك رُسمت خطوطٌ للمسارات المؤكَّدة تجوبها سفنُهم الجوَّالة في المياه، وللمسارات المحتَمَلَة أيضاً، كي تتلافى عبورَها سفنُ التجارة، وسُفن الأسفار.
البلاد المحيطة ببحر بنطس لم تبذل جهداً لمكافحة وباءِ قُطاع الطرق في مسالك المياه. خلافاتها لم توحِّد جهدَهم للتضامن في مجابهة القراصنة. بعضُها ناسبَه تعطيلُ طرقٍ على تجارة الآخر، أو خضوع الآخر للخطر، مرغَماً على اتخاذ مسارات جديدة لسُفنه. وقد ناسب القراصنةَ ذلك التنافر في مصالح دول شواطئ البحر، فعمدوا إلى توسيع قدراتهم بالتحالف سراًّ مع بعض الشعوب هناك يهادنون سفنهم فيتغاضون عنها، ويروِّعون سفنَ شعوبٍ آخرين لقاء الحصول على فدياتٍ يدفعها حكامُ الموانئ.
في تسلسلٍ انتقل القراصنة بأنشطتهم من الأوكار البحرية يتخذونها ملاجئ لاختباء سفنهم فيها، إلى ظهورٍ مُعلنَ. أقاموا قُرى على شواطئ بنطس يستريحون إليها بعد السلب في الغزوات، طلباً للملذَّاتِ نساءً، وحاناتٍ، ومساكن بسيطة البناء للنوم لا تتمايل بهم الأسِرَّة فيها كتمايل الأسرَّة في سفنهم يخضها الموجُ هائجاً.
تواطؤٌ بين المتحالفين سراًّ مع القراصنة، والخائفين من القراصنة بلا سعيٍ للمجابهة، أحالَ إقليم بنطس وبحرها ملاذاً للتجارة المتقطعة الأوصال.
أطلق الإغريق قديماً اسمَ بنطس على البحر ذي الطوق من الشعوب الروس، والبلغار، والجورجيين، والترك؛ وانسحبَ الاسمُ أيضاً على الهلال الكبير جنوباً بشعبه من «السوريين البيْض»، بحسبِ معنى لفظة «بنطس» تحديداً. «سوريون بيض» جنوب البحر الأقرب إلى الشاطئ، و«سوريون سُمْر» في جنوبه الأبعد. ولو استقرَّ للإغريق وحدهم تسمية الممالك، والبلدان، والأقاليم، ومناهج الحُكْم، والدساتير، وآلهة الأساطير، لابْتكروا وصفاً لظهور القراصنة في بحر بنطس يُعْتَمَد مصطلحاً: «ملوك المياه بتيجانٍ من الحراشف»:

4ـ رفع الأميرُ سليمان الجالسُ وجهه إلى الأخوين ميكائيل الواقفيْنِ. عقَّبَ:
ـ لا تثقا بما يقوله هذا الأعمى. إنه يخبِّئ عني شيئاً.
«لا يبدو من جناب يوسف أنه يخبئ عنك شيئاً، يا سمو الأمير»، قال تيمور.
«لماذا يزعم إذاً أنه لا يرى زوجتي تركان؟»، عقَّب الأمير السلجوقي محتدَّاً.
أدار الأمير تيمور بصره من حوله متسائلاً:
ـ أين زوجتك، يا سمو الأمير؟
شهق الأمير سليمان مستاءً:
ـ اسْألِ الأعمى يوسفَ شنديل.
«إنه أعمى، يا سمو الأمير»، قال تيمور بنبرٍ مستغرب.
ربت الأمير سليمان بيده اليمنى على المنضدة جالساً بظهره إليها، وبوجهه إلى الأخوين ميكائيل:
ـ يدَّعي أنه أعمى منذُ ولادته.
رفع الأخوان ميكائيل بصريهما عن وجه الأمير سليمان، محدِّقين إلى بوابة المطبخ الخارجية اجتاز عتبتَها الجزارُ سيدوك، يمسح بخرقةٍ يَطَقَه الشبيهَ بساطورٍ. كان في مشيه بعضُ اختيالٍ، متزلِّفاً بعينيه إلى سيديه أنَّه نفَّذ الأقسى فظاعةً في أنحاء تلك الإمارة وما يجاورها، لم يعلم بحدوث مثلها، أو بما يقاربها ضراوةً. مسح بطرف خماره الأسود، المُنسَلت عن رأسه، عينيه المتراجعتين لا تكادان تُرَيان في محجريهما العميقين. توقف ملتفتاً إلى زوجة الطاهي كيليج. رفع يده اليسرى إلى فمه بحركة كأنه يتناول طعاماً، يُفْهِمها أنه جائع.
ظهرت غولين من وراء الجزار يتبعها الرجلان المرافقان من رجال الأخوين ميكائيل. كانت تحمل الكيسَ الخيشَ تمغَّطَ قاعُه بما فيه من هيئاتٍ كالكُرات، يرشح من مسام نسيجه الدمُ قطراتٍ لزجةً بطيئةَ النزول. مشت بالكيس مفتوحةَ الفم هلَعاً، مرتخيةَ النقاب إلى أسفل فمها، صوب المنضدة التي جلس الأمير سليمان بظهره إليها. وضعته على طرفها.
انهارت غولين مغمى عليها.
هرعت إليها نساءُ الحريم، وزوجة الطاهي كيليج. أجلسْنَها أرضاً. رششنَ وجهَها ببعض الماء من إبريقٍ تناوبت جيجيك على سكْبه في أيدي ثلاث منهن.
شهقت غولين مستفيقةً. عَوَت بصوتٍ خافت، أو بدا نواحُها عواءً من نَخْزِ الفجيعة قلبَها.
أبقى الأمير سليمان بصره على غولين يرى رأسها من حافة المنضدة مذ أنهضتْها النساءُ جالسةً بعد إغماءٍ. لم يكن ينظر إليها، بل إلى جورةٍ في خياله تنقذف من جوفها رؤوسُ أغنامٍ، وماعز، وأبقار، وأرانب، ودجاج، كأنَّ في قاعها بشراً سُكارى يلهون بقذفِ ما في صحونهم من الطعام إلى أعلى.

5ـ دفعَ الأميرُ بيده اليمنى البيادقَ كلها على رقعة الشطرنج، على مهلٍ، فقلَّبها بصوتٍ منتظمِ النَّقْر من ارتطام بيدقٍ بآخر. أبقى نظره على الدمى الخشبية. تساءل:
ـ أعندنا، يا حضرةَ كيليج، دجاجٌ سكران؟
«لا، يا مولاي»، ردَّ الطاهي.
«أَسْكِر الدجاجَ إذاً. أطعمْه حنطةً منقوعة في الخمر»، قال الأمير.
«سأفعل، يا مولاي»، عقَّب الطاهي ممتثلاً.
رفع الأمير بصره عن رقعة الشطرنج المتهاويةِ البيادق إلى وجوه الأعيان:
ـ أتعرفون شيئاً عن سُكْرِ الغزلان؟
لم يردَّ أحد.
استطردَ الأمير:
ـ إن تكدَّسَ التفاحُ متساقطاً بعضُه فوق بعض، أياماً في الشمس، اختمرَ التفاحُ. فإن أكلته غزلانٌ سَكِرت.
همهم الأعيانُ مستظرفين الخبرَ الذي من طرائف ما يُروى.
«صدِّقوني»، عقَّب الأمير على همهماتهم: «رأيتُ في صبايَ، ذئباً سكران يمشي دائخاً بين البيوت، غيرَ آبهٍ لأحد».
«أشَرِبَ الذئبُ خمراً، يا مولاي؟»، سأله أحد الأعيان مبتسماً.
«بل أكلَ لحمَ غزالٍ سكران»، ردَّ الأمير.

6 ـ فهم الأميرُ صمتَ الأعمى. تزاحمت عليه صِورٌ من هواجس الصور: أيأخذ أمراءُ عيالَهم نازحين عن إماراتهم؟ ما الذي يخشونه إلى هذا الحد؟ أهُم حذرون من انقلاب أتراك الأناضول عليهم في انقساماتهم، خرج بعضهم على السلطان، وظلَّ بعضهم على ولاءٍ له؟ ما أمرُ الإمارات جنوباً، وشمالاً، وشرقاً؟ تخيَّلَ نفْسَه نازحاً بدوره على حصانٍ، تتبعه عرباتٌ بحريمه، وبأعوانه من حَرَسِ القصر، وبعيال أولاده، وبشبح زوجته تركان تمشي حافيةً، بلا عمامةٍ أو نِقابٍ أو خمار، وبأولاده الثلاثة محشورين في براميل فوق ظهر عربة واحدة، لا تَبيْنُ منهم إلاَّ الرؤوس عاريةً، مطليةَ الشعور بالدم.
أين كان سيمضي لو نزحَ كبعض من ينزحون عن أرضٍ تتشقَّق من حَمْل السلطنة السلجوقية؟ ماذا عن بناته الخمس في دَساكرهنَّ؟ غصَّ بندمه أنه لا يتذكرهن إلاَّ لِماماً. ماذا عن الطاهي كيليج، والأعمى يوسف؟ ابتسم لنفسه متسائلاً: «أكنتُ صحبتُ في قافلتي دليلَيْ الأعمى الغلامين؟».
لم يكن ليقصد أرضَ بيزنطة لو تخيل نفْسه راحلاً بمن معه. ماذا لو أمكنه أن يقيم على الضفة الشرقية من نهر أورنتس، ضارباً خيامَه هناك، بإذنٍ من الفِرنجة يوطِّد إمارةً صغيرة بلا قصر، أو منازل. ويشهد يوسفَ الأعمى سابحاً من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية، ذهاباً، وإياباً في قميص منتفخ بالماء، يحتشد له أمراءُ غربيون بنسائهم ملوِّحاتٍ له، مهلِّلاتٍ بلغاتٍ من عوالم تحصيلِ الإنسانِ الأصواتَ بحروفٍ تغدو جروحَ كلامٍ، وجروحَ كتابةٍ، وهذيانَ تاريخٍ أيضاً.
لن يرى الأعمى نساءَ الأقوام المسيحيين الكَلِفاتِ بالصخب. ستراهن يايانا السوداء، وقد باتت ـ في خيال الأمير ـ أقربَ أهلِ بطانته إليه ـ بِطانةِ إمارته الجديدة، التي لن يزاحمه عليها أحدٌ، مُذ هي ضفةُ نهر، وخيامٌ، تشاركه يايانا فيها، كلَّ يوم، وجبةً من أسماك النهر مشويةً على نار حطبٍ يُحَوَّش من سَقْطِ الشجر هنا، وهناك.
أُعجِب الأميرُ بإمارته الجديدة لا خصومةَ فيها بين نساء الحريم على التبرُّج ومراهمه، ومساحيقه، وزيوته؛ أو على العطور من مصادر العطَّارين شرقاً وشمالاً، وغرباً من أسواق بيزنطة. أمَّا الطَّهو فبسيطٌ من عطايا النهر، ومن خُضار البرِّ على الضفة، ومن الفُطر على جوانب جذوع أشجار الغَرَبِ المُنحنية، ومن صيد بعض الطيور والأرانب.
الحياةُ بحدود عطاءاتها البسيطة هي إمارةُ سليمان أرسلان في خياله الفقير، الذي صوَّره نازحاً بأهل قصره، وبحرسه، وبخَوَلِهِ وخُدَّامه، من إمارته.

7ـ صناديقُ ثيابٍ مختارةٌ عشواءَ سبقت، على عجلٍ، دخول الأمير إلى المطبخ بإرشادات من تركان، فيها ما يحتاجه الأمير وحريمه من ملْبسٍ. لكن الأقسى في اكتمال خطَّة تركان، الرائحةُ الجائيةُ حركةً، للزجِّ بزوجها معتقلاً في المطبخ، كان إلزامُ الأمير باختيار البعض من نساء حريمه، وليس كلهن البالغات اثنتي عشرة امرأة، وهي توهمه أن الاختيار مؤقتٌ. لقد ألحَّت عليه، بمساوماتٍ مُضمَرةٍ، اصطحابَ خمسٍ منهن، فتبلبلَ الأمير في الاختيار.
استعرض سليمان أرسلان حريمه كلهنَّ، بلوعةٍ في قسوة الخيار. هو جمعهن في جناحٍ من القصر بأناةٍ، صغيراتٍ، كلما جاوزت إحداهن الثانيةَ والعشرين استُبدلت بأخرى جديدة. كلهن ممتلئاتُ الأجساد، عبلاواتٌ بلا إسرافٍ، بيضاوات بغلوٍّ في بياض جلودهنَّ حليبيَّةً، شاحباتٌ على حُمرةٍ، طويلاتٌ، لا يجاوزنَه طولاً إلاَّ إن كان الجمالُ شفيعاً لا تُردُّ شفاعتُه. لكنَّ الجمالَ نفْسَه لم يشفع للقصيرات حتى لو أبْهَرْنَ الأبصارَ حُسْناً. إنه لا يريد النظر إلى وجوه حريمه بخفضِ بصره أسفلَ أفقِ النظرِ المُعادلِ قامتَه طولاً.
تنهَّدَ الأميرُ في استقرائه الوجوهَ الحَسَنةَ يعرفها ضاحكةً، مبتسمةً، عابسةً، مبالِغةً في إرضائهِ بأصواتهنَّ في النكاح، أو بصمتهن يَعْذُرهن عليه مُذ لا يكفي جسدُه أجسادهن أحياناً، أو يتمنَّعنَ عليه تظاهراً بعُذريةٍ أُجليتْ عنهنَّ، لكنه تظاهرٌ يُرضيه التمنُّعُ الخّفِرُ فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية