ذكرى استقلال السودان… وفي الحلق غُصَّة

نكتب اليوم، الأول من يناير/كانون الثاني، في الذكرى الثامنة والستون لاستقلال السودان، وفي الحلق غُصَّة. فلأكثر من ستة عقود ونحن، شعبا ووطنا، ننزف وتثخننا الجراحات، وتتسرب منا الأحلام والآمال، لتتوطد الانتكاسات وعقدة الفشل مثيرة فينا الإحباطات والهموم. والعقدة بدأت بفشل قادتنا الأوائل في التصدي لمهام تأسيس دولة سودان ما بعد الاستقلال الوطنية. ثم ظللنا نحن، النخب السودانية المدنية والعسكرية، في الحكم وفي المعارضة، نتوارث هذا الفشل، جيلا بعد جيل، حتى كدنا أن ندمنه. والفشل في حل المعضلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الملحة، دائما ما يولّد معضلات جديدة أكثر صعوبة وتعقيدا، تُراكم المزيد من الفشل. أما العجز المزمن عن إنجاز مهام تأسيس الدولة المستقلة، فحصدناه فشلا أشد تدميرا وتنكيلا، ويتجلى اليوم في حرب لا تُبقِي ولا تَذَر. صحيح أن تلك المهام التأسيسية معقدة وصعبة جدا في بلد كالسودان، يتميز بتركيبة فسيفسائية من التنوع والتعدد في كل شيء، في الأعراق والإثنيات والقوميات، في الأديان والثقافات واللغات والحضارات، وفي التفاوت الكبير في مستويات التطور الاجتماعي. لكن، السودان ليس استثناء أو نسيجا وحده في هذه السمات والمميزات، بل أن العديد من البلدان المشابهة من حيث التنوع والتعدد، وبعضها نال استقلاله بعد السودان، تصدت بنجاح إلى تلك المهام التأسيسية، وأسرعت الخطى بثبات نحو بناء الدولة الوطنية المستقلة والمستقرة.

أما العجز المزمن عن إنجاز مهام تأسيس الدولة المستقلة، فحصدناه فشلا أشد تدميرا وتنكيلا، ويتجلى اليوم في حرب لا تُبقِي ولا تَذَر

إن فشل النخب السودانية في إنجاز بناء الدولة السودانية، لم يكن بأي حال نتيجة للسمات الخاصة بهذه النخب من حيث الموروث الثقافي، أو المكون البيئي والجغرافي، أو التركيبة الجينية الوراثية. بل هو نتاج التخبط في إدارة الأولويات وعدم الإهتمام بإستكمال وإنجاز فترات الانتقال المناط بها إرساء دعائم التأسيس لبناء الدولة، وذلك بسبب سياسات التسابق نحو كراسي السلطة. ومعروف، كما كتبنا كثيرا، أن الفلسفة وراء فترات الانتقال، هي أنها تتيح للجميع، بمختلف رؤاهم السياسية والفكرية، التوافق على مشروع وطني يعبّد المداخل والطرق الضرورية لوضع السودان على منصة التأسيس وإرساء دعائم بناء دولته الوطنية. وهذه مهمة تاريخية، لا يمكن أن ينجزها حزب أغلبية أو تحالف فصائل دون آخرين، بقدر ما هي مهمة الشعب بأسره. وهى مهمة لا يمكن أن تحقق غاياتها المرجوة إلا في ظل الحرية والديمقراطية، ودون وصاية من أي طرف، محلي أو إقليمي أو من قادة المجتمع الدولي وأركانه من عباقرة العلوم السياسية!
ومن ناحية أخرى، فإن فشل مشروع بناء دولة ما بعد الاستقلال في السودان، إرتبط بتسلط أنظمة الاستبداد والطغيان التي دائما ما يطال سيفها صناع النهضة الحقيقيين من سياسيين وطنيين ومفكرين وعلماء ومثقفين ورجال دين مستنيرين، لتمتلئ مساحاتهم الشاغرة بالعاجزين سياسيا ومهنيا وذهنيا، وبالتيارات الماضوية، وبأنصاف المثقفين الذين يسيطرون على وسائل الإعلام وأدوات التوجيه الثقافي والتربوي، فيفرضون نموذج بؤس المعرفة الذي يقوم على التلقين دونا عن التفكير الناقد، والذي يتحمس للتجهيل والخرافة والدجل ومعاداة العلم، بدرجة أقرب إلى الملهاة المأساوية. وهكذا تقاصرت إرادة القوى الوطنية والنخب السياسية السودانية، المدنية والعسكرية، والتي ظلت على دست الحكم منذ فجر الاستقلال وحتى اليوم، وعجزت عن السير بقطار الاستقلال إلى فضاءات الحرية الحقيقية والديمقراطية والسلام والتنمية والحفاظ على وحدة الوطن، بل وصعد إلى كابينة القاطرة من غيّر المسار إلى وعورة تضاريس الأزمة الوطنية العامة التي أصابت السياسة والاقتصاد والمجتمع والقيم والحياة الروحية في بلادنا، حد ابتزال السياسة ووضع البلاد في حالة اللادولة، قبل الانحدار بها إلى الكارثة، مشعلا حربا انزلقت بنا إلى سقر الكريهة التي تتمدد وتتسع مع كل صباح أو مساء جديد لتحرق وتدمر البلاد في أطرافها ومركزها، وفي حاضرها وإرثها الحضاري، قطعا للرابط بين ذاك الإرث وهذا الحاضر، ومهددا بأن لا يأتي ذلك المستقبل المنتظر منذ ثمان وستين عاما. وهكذا نحن، ومنذ فجر الاستقلال، لا نزال نقبع في حفرة تصادم رؤى النخب السياسية، مما جعل بلادنا في وضع أشبه بلعبة السلم والثعبان، ما أن نبدأ في تسلق سلم الديمقراطية نحو مخرج الأزمة، حتى يلدغنا ثعبان السياسات والممارسات الخاطئة ضيقة الأفق، كالانقلابات والنزاعات الدامية، فيهبط بنا إلى مربع البداية. ومع ذلك، أبدا لم نفقد الأمل، ولن!
ويتضاعف ألم غصَّة الحلق مع دخول الحرب شهرها التاسع دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل في إسكات الرصاص، بينما يواصل سدنة الحرب نفخ كير نيرانها بالدعوة إلى الاستنفار وتجييش المدنيين. صحيح أن المقاومة الشعبية مطلوبة، ولكنها المقاومة الرافضة للحرب، والتي في إمكانها ابتداع عشرات التكتيكات السلمية لوقف الحرب. أما الدعوة للمقاومة الشعبية المسلحة فتعني توسيع نطاق الحرب إلى حرب أهلية شاملة، ودائما ما تكون بوصلتها القتل على أساس الهوية، وغالبا ما تكون نتيجتها تقسيم البلاد وتفتيت وحدتها. ومن ناحية أخرى، صحيح أن لقاء البرهان وحميدتي قد يشكل مدخلا لوقف القتال، ولو مؤقتا، لكنه أبدا لن يوقف الحرب. فالحرب لن تتوقف إلا على أساس رؤية شاملة تجيب على عدد من الأسئلة الجوهرية، منها: طبيعة الحرب وأسباب اندلاعها وآليات وقف إطلاق النار، وكيفية حماية المدنيين وفتح ممرات آمنة لانسياب المساعدات الإنسانية، وكيفية التعامل مع الحرب وما صاحبها من انتهاكات كجريمة تستوجب المساءلة القانونية، وما هو مستقبل قيادة الجيش ومستقبل قوات الدعم السريع، وكيفية إصلاح القطاع الأمني والعسكري، وما هو جوهر العملية السياسية وأهدافها وهل لقيادات الطرفين المتقاتلين أي دور فيها، وهل ستنحصر في قضايا الانتقال أم ستتوسع لتبحث قضايا إعادة تأسيس الدولة السودانية…، وغير ذلك من الأسئلة. وكما كررنا كثيرا، فإن عبء صياغة هذه الرؤية وحشد السودانيين حولها، يقع على عاتق القوى المدنية السودانية، فهل نعشم أن تلهمها ذكرى الاستقلال لتنهض وتنجز هذا الواجب؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية