دور الدبلوماسية في مساندة البندقية

لا يكفي شهداء غزة أقل من دولة فلسطينية مستقلة آمنة قادرة على البقاء، ولا يكفي أطفال غزة وأهلها أقل من الأمل والأمان والحياة الكريمة لهم وللأجيال القادمة. لقد طالت المعاناة إلى نحو قرن من الزمان، وفاضت الخسائر عن أي حد، ويجب أن تكون الجائزة على قدر التضحيات، لا أقل. وقد أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرتها على الصمود، وإلحاق الخسائر البشرية بالعدو، حتى أعلنت إسرائيل أمس أنها تتألم. الحرب الإسرائيلية فشلت في تحقيق أهدافها. ومع زيادة أعداد قتلاها فإن الفشل العسكري يقود الآن إلى مرحلة من التفسخ السياسي في إسرائيل، لن تنتهي إلا بإسقاط حكومة الحرب، فالسؤال الآن ليس عن «اليوم التالي» في غزة، ولكنه عن «اليوم التالي» في إسرائيل. بصمود المقاومة انقلب السحر على الساحر، وأدرك الإسرائيليون أن نتنياهو وأصحابه كانوا يبيعون وهم «استراتيجية الردع» و»الجيش الذي لا يقهر». وقد انكشفت التجارة الفاسدة، وفقدت مصداقيتها.
الآن، وبينما الحرب تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتسرع إسرائيل في الانسحاب على عجل تتزايد أهمية دور «الدبلوماسية في مساندة البندقية»، حتى تنتصر المقاومة في الحرب السياسية، وهي الحرب التي تكتب النتيجة النهائية للحرب؛ فهي أخطر وأشد تعقيدا، حيث تدور فيها المناورات، ويستخدم الكذب والمكر والدهاء، وكثيرا ما يلبس فيها الأعداء ثياب الأصدقاء.

الدولة هدف تاريخي مصيري لحفظ الهوية وتطويرها، والتعبير عن الإرادة وممارستها، يسير الفلسطينيون إليه على طريق محفوف بزهور أرواح الشهداء،

نتنياهو ومواقفه الانتهازية

رغم الصخب الذي خلفته تصريحات نتنياهو برفض إقامة دولة فلسطينية في المحادثة الهاتفية بينه وبين الرئيس الأمريكي بايدن يوم الجمعة الماضي، فإننا لا نستبعد أن يتراجع عن موقفه شكليا في الأسابيع المقبلة، على أمل انتظار حدوث المعطيات التي تمكنه من الانقضاض على المشروع، وتحويله إلى مجرد كلمات يتنصل منها في الأشهر التالية. ويعود احتمال تراجع نتنياهو شكليا عن موقفه المعلن إلى تأثير عامل شهوة السلطة والتمسك بها. وهو قد فعل ذلك من قبل في كلمته الشهيرة في جامعة بار إيلان عام 2009 بقبول فكرة إقامة دولة فلسطينية، مجاراة للرئيس الأمريكي الجديد في ذلك الوقت باراك أوباما، ثم تراجع عنها بعد ذلك، ودخل في خصومة حادة معه عندما طلب أوباما تجميد الاستيطان عام 2016. نتنياهو حتى أيام قليلة كان يعارض بشدة تحويل أية أموال إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، على الرغم من إلحاح بايدن في هذا الشأن، لكنه بعد المكالمة الهاتفية بينهما تراجع عن موقفه، واتفق مع وزير المالية سموتريتش على خطة لتحويل أموال السلطة الفلسطينية عن طريق النرويج، وذلك في محاولة لتهدئة الخلافات مع البيت الأبيض. وقد فتح له بايدن نافذة واسعة لقبول «نمط من أنماط الدولة» للفلسطينيين، لا يتعارض مع المصالح الجوهرية لإسرائيل. نتنياهو ما يزال يؤمن إيمانا راسخا بأن وجود دولة فلسطينية ينفي وجود إسرائيل، وأن بقاء إسرائيل لا يتحقق إلا بعدم إقامة هذه الدولة. في هذا السياق تقع على الدبلوماسية العربية والفلسطينية، مسؤولية تاريخية حتى لا تروح دماء الفلسطينيين وتضحياتهم هدرا، وحتى لا تدخل القضية الفلسطينية إلى متاهات أكثر تعقيدا في السنوات المقبلة تنتهي بتصفيتها تماما، وهو الحلم الذي يحلم به نتنياهو. ومن أجل ترسيخ معادلة السلام والتعايش على أساس الأمن المتبادل والتعاون، من الضروري أن يكون خطاب السلام العربي واضحا لا لبس فيه، لكن من دون أي تنازلات أو مساومات بشأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة آمنة قادرة على البقاء والنمو. وسوف تجد الدبلوماسية العربية في ذلك تأييدا كبيرا حتى من قطاع كبير من المنظمات اليهودية، وعلى رأسها المجلس اليهودي العالمي، الذي تقوم رؤيته للسلام في الشرق الأوسط من الناحية الرسمية على فكرة «حل الدولتين» كما يردد دائما رونالد لاودر رئيس المجلس. هناك رفض متزايد في الكونغرس لموقف نتنياهو، كما أن الموقف الرسمي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والمجتمع الدولي بشكل عام، ممثلا في منظمات الأمم المتحدة وأمينها العام، وحراك الضمير العالمي، يعارض موقف نتنياهو ويرفضه. مهمة الدبلوماسية الآن هي تعبئة هذا الرفض في اتجاه تحقيق الهدف الاستراتيجي للفلسطينيين، وللمنطقة والعالم.

الدولة بين الحقيقة والخديعة

ليست الدولة الفلسطينية شعارا معلقا على الجدران، أو مدفونا في بطون الوثائق السياسية المهملة، ولا هي شعار رومانسي للاستهلاك في أحلام اليقظة السياسية. الدولة هدف تاريخي مصيري لحفظ الهوية وتطويرها، والتعبير عن الإرادة وممارستها، يسير الفلسطينيون إليه على طريق محفوف بزهور أرواح الشهداء، زهور ترويها دماؤهم الزكية. ولنتذكر أن اتفاقيات أوسلو نصت على إقامة الدولة، ورسمت الخرائط، ووضعت برامج التمويل موضع التنفيذ، لكن النتيجة بعد ثلاثين عاما هي ضياع المزيد من الأرض الفلسطينية المحتلة، وتهجير الكثير من أهلها، وتغيير واقع الحياة فيها لمصلحة إسرائيل. ولن تتسع الأرض لدولة فلسطينية قابلة للحياة إذا سيطرت إسرائيل عمليا على حوالي 80 في المئة من الضفة، وقطعت أوصال الـ20 في المئة الباقية بالأسوار والطرق. لقد تضاعف عدد المستوطنين في الضفة بما فيها القدس الشرقية أكثر من ثلاث مرات منذ اتفاقيات أوسلو. ومع ذلك فإننا يجب أن نذكر أن نسبة كبيرة من المستوطنات غير قانونية بمقتضى القانون الإسرائيلي نفسه، إما لأنها أقيمت بغير تصريح حكومي، أو لأنها أقيمت على أرض مملوكة ملكية خاصة لمواطنين فلسطينيين. كذلك فإن السوابق التاريخية منذ انسحاب إسرائيل من سيناء، إلى انسحابها من غزة، تثبت حقيقة أن تفكيك مستوطنات قائمة وترحيل سكانها هو جزء من عملية الانسحاب.

مهمة الدبلوماسية العربية

لقد أثبتت مصر في علاقاتها الرسمية مع إسرائيل منذ توقيع اتفاقية السلام، أنها لم تخسر قدرتها على المناورة، واستمرت قادرة على لعب دور متوازن، كلما تطلبت الظروف، وهي في هذا الدور كانت تستخدم على الدوام ثلاث قنوات دبلوماسية رئيسية، أقامتها وحافظت عليها وطورتها. الأولى هي خلق إطار لجمع الفلسطينيين على كلمة واحدة، من خلال رعاية حوار فلسطيني – فلسطيني والعمل على التقريب بين فتح وحماس، وليس إشعال الصراعات بينهما. الثانية هي العمل على تخفيف المعاناة الإنسانية عن الفلسطينيين في قطاع غزة من خلال استخدام معبر رفح الذي يمثل النافذة الأكبر لغزة على العالم، وكذلك من خلال المشاركة في برامج التنمية والبناء. القناة الثالثة، هي التدخل والوساطة من أجل التهدئة العسكرية ووقف إطلاق النار، وما يتعلق بذلك من ترتيبات في الحروب التي نشبت بين إسرائيل وغزة، منذ فوز حماس وصعودها إلى السلطة في انتخابات 2006. هذا الدور المتوازن الذي ما تزال مصر قادرة على ممارسته يستمد قوته من مبدأ «الأرض مقابل السلام»، الذي صيغت على أساسه نصوص معاهدة السلام 1979 واتفاقيات التطبيع. الخطورة التي تواجهها الدبلوماسية العربية الآن هي السقوط في هاوية مبدأ نتنياهو للتطبيع «السلام مقابل السلام». ومن المؤسف أن دولا عربية قبلت به، هذا المبدأ الذي قامت على أساسه ما تمت تسميته «اتفاقات إبراهيم» يسهم في تصفية القضية الفلسطينية، ويقدم لإسرائيل فرصة تاريخية لـ»الهيمنة» بمقتضى خطة دمجها في المنطقة. ومن الضروري في المرحلة الحالية إعادة توجيه العلاقات مع إسرائيل، لتكون تحت مظلة مبدأ «الأرض مقابل السلام»، الذي تتبناه مبادرة السلام العربية 2002 المقبولة على نطاق واسع. وأن تكون الأرض هي حاضنة دولة مستقلة آمنة قادرة على البقاء والنمو. لقد حان الوقت كي يقول الحكام العرب جميعا بصوت واحد: لا للتطبيع المجاني.. لا لمبدأ نتنياهو.
المهمة الكبيرة للدبلوماسية الآن ذات أهداف متعددة ومتشعبة، تشمل تحقيق وقف القتال، وانسحاب قوات الاحتلال، وإنهاء الحصار، ورفع كل القيود عن المساعدات الإنسانية، وعودة الفلسطينيين في غزة إلى مساكنهم، وإطلاق سراح المحتجزين والأسرى على أساس قاعدة «الكل مقابل الكل»، ووقف الاعتداءات بواسطة المستوطنين والقوات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، وتجميد الاستيطان. هذه هي المرحلة الأولى للدبلوماسية، يتم فيها اتخاذ إجراءات بناء الثقة، وإعادة المنطقة إلى وضع الهدوء من الحرب والتوتر. وبعدها تأتي المرحلة الثانية لنقل المنطقة من وضع التهدئة إلى بناء السلام، حيث ينعقد مؤتمر سلام دولي، بمشاركة الفرقاء والوسطاء، لإقرار مبادئ صريحة للتعايش والسلام، ورسم خريطة طريق ملزمة بشأن إقامة دولة فلسطينية تكون عضوا في الأمم المتحدة وتعترف بها فورا الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن، ووضع نظام يضمن أمن الفلسطينيين من الاعتداءات الإسرائيلية، فأمن الدولة الفلسطينية مسألة مركزية تعلو على أي اعتبار آخر، وأن تتضمن خريطة الطريق نظاما دوليا للمراقبة، وآلية لفض النزاعات بالطرق السلمية، وبرنامجا للتعويضات مقابل ما لحق بالفلسطينيين من أضرار.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية