خالد المعالي في أرض كلكامش: أعشاب الألم والخيبة

حجم الخط
0

ارتفاع منسوب الألم والخيبة في رحلة الشاعر خالد المعالي غدا ارتفاعاً في منسوب النقمة على ملامح أو ظلال الذكرى إذ تبدو ذكرى رحلة الألم والخيبة والوهم في نصوص الشاعر (أنا من أرض كلكامش).
هي مجمل ما لدى الشاعر من تصورات ومعرفة وعلم عن ذاته وعن الطبيعة والكون والعالم، والذكرى تحيل مباشرة إلى الذهن مجال التصور والتذكر والإدراك والكتابة الشعرية وبالتالي الفهم والوعي، والذكرى هنا موجودة في النص الشعري الذي مجاله الذات والموضوع والحياة، أما الألم فهو ما يحيط بالذات الشاعرة المفكرة، المدركة من وجود وأشياء وظروف وملابسات وأزمات وصراعات وأوهام، والكتابة الشعرية عن الذكرى تختلف عما هو موضوعي أي ما يماثل ويقابل الذات، وهذه الأخيرة أشمل مما هو موضوعي وأعقد خصوصاً على مستوى الكتابة الشعرية كما أسلفت، إذ الذات جملة شعرية حية، من الأشياء والكائنات والأفكار، في حالة نشاط دائب لا يهدأ مثلما هي في حالة ضياع لا ينتهي، رغم التظاهر، أحياناً، بالسكينة والاستقرار .
الذات، في هذه المجموعة المسبوقة بضمير المتكلم أنا، جزء من الذكرى متصل وموصول، لأن الذكرى لا تقتصر على ما هو مادي ملموس أو ما يرتبط بالمخيلة الشعرية، فالأفكار الشعرية في هذه المجموعة لها وجودها المستقل ولها حساسيتها المعنوية مثلما لها تأريخها وتأثيرها ودلالاتها، والدلالة الشعرية هنا ليست واضحة دائماً إذ كثيراً ما تلتبس على المعنى أو تتقاطع معه ويصعب التقاطها أو على الأقل التقاط أجزاء منها، ومن هنا تنبع ضرورة البحث عن المعنى الشعري، نقدياً، وبالتالي إجراء المطابقة بينه وبين الدلالة، والمطابقة هنا بمعنى المماثلة أي جعل الذات على صورة الذكرى، أي تعين الدلالة لكي لا يبقى المعنى مجرداً وخيالياً هائماً في الفضاء تفصل بينه وبين الشاعر هوة سحيقة ومع هذا تبقى هناك هوة أخرى أو لنقل مسافة ما بين الذكرى والذات ومهما بذلنا من جهود في القراءة النقدية لردم هذه الهوة أو لتقريب المسافة، بين الشاعر ونصه، نرى أنها تتسع وتضيق وذلك حسبما نبذل حيالها من جهود في القراءة، وقد لا تختفي أبداً داخل المعنى الشعري وذلك لأن الشاعر في نصوصه يدون الحالات والوقائع والأمكنة والتداعيات مثلما يدون الخيبات في أوضاعها القصوى ومهما بلغت من مداها اللغوي الموجز أو المتحرر من البلاغة إلا أن النقد غالباً ما يعجز عن التقاطها، هذا من جهة ومن جهة أخرى نرى أن النص الشعري في هذه المجموعة رغم تدوينه الأشياء بدقة اللفظ وبحساسية التجربة وتراكماتها إلا أنه لا يمكن أن ينتهي بالمطلق والاكتمال، لأنهما، أعني المطلق والاكتمال، عدم مطلق حسب تعبير (هيغل).
الذكرى لها سمات وتحديدات وتوصيفات متعددة، ما يهمنا منها، في هذه القراءة، التوصيفات الشعرية المتعلقة بالكتابة، كأن نقول على هذا النص توصيف تأريخي أو استعادة لموروث شعري غائب أو استحضار لحالة تتماثل مع تجربة الشاعر، وهذه حالات شعرية غنية بحد ذاتها تخصب النص الشعري وتغني المعنى وبالتالي تصلح في تبديد الوهم أو في التماثل، فيلتحم ما أنقطع ما بين الحاضر والماضي ولكنها لا تجبر ما أنكسر أو تصدع وأختفى من التجارب والأمنيات وحتى الأحلام الصغيرة، عندها نتمكن من الوقوف أمام هذا الفعل (ينأى) الذي يكرره الشاعر في هذه الجملة الشعرية المحملة بالكثير من الدلالات: (وكنت الذي أضاعته السنوات/فراح ينأى وينأى/كنت ذكرى).
إن الحوار مع النفس لا يشترط الاعتراف بالآخر ككيان شعري مستقل له خصوصياته وتجاربه ولغته أيضاً، له مثل ما عليه عندما يتم الدخول في الحوار، شعرياً، بعقل الشعر وقلب اللغة، ليس من هدف الحوار، في بعض نصوص المجموعة، أن يصبح أحد المتحاورين نسخة طبق الأصل عن الآخر. إن الاختلاف سيبقى حتى بعد التحاور، ليس المطلوب تصفية كل الاختلافات شعرياً، المطلوب هو الوصول إلى المعنى الشعري وجوهر الدلالة لكي لا يبقى الشاعر محصوراً في زاوية ضيقة لا يمكن الخروج منها إلا عبر لغة شعرية مغايرة تنقله إلى مساحة أخرى يتحايل فيها على الاحلام والاوهام، وهذا ما أورده الشاعر في هذه المقاطع: (كلام الصامت: لمن يكلم الصامت نفسه/في الاحلام سارياً بلا لحن/وكل ما لديه من الاوهام تآلف والصدى/حتى الصدى لم يعد يأتيه طائعاً/فبقي حبيس الانتظار) وكذلك في هذا المقطع: (كانت الذكرى غباراً يعلو في الهواء وكنت كذئب أراوغ الانحدارات لكي أنتهي إلى الظل). التماثل ليس شيئاً عابراً في الكتابة الشعرية، لا يوجد شاعر لا يتماثل مع نصه أو يخضع النص للتجربة وهذه الحالة تقودنا إلى المعنى المشترك واكتشاف بعض حالات التشابه القائم بين تجربة شعرية وأخرى، وتقودنا أيضاً إلى حيرة الشاعر المتواصلة المتصلة وجدانياً ومعرفياً مع حيرة كلكامش ومفقوداته أو طموحاته المبددة خصوصاً وهو يردد على مسامعنا هذا الكلام: (لحن صغير: لا أرض لكي استقر/لا مأوى لكي أعود/لا غصن لكي أحط) وأعني بالمفقودات هنا، (الأرض/المأوى/الغصن) المصحوبة بأفعال غائبة أو لا تتحقق، (استقر/أعود/أحط) وأعني بالغائبة هنا هو عدم حدوث هذه الأفعال أو تلمسها لا في الماضي والحاضر وربما المستقبل أيضاً، من هنا يتأكد الفقد ويبدأ الشاعر بالبحث في زوايا الذاكرة ودهاليز الذكرى وهذه الأخيرة تجعلنا نقترب من معاني المفردات، (طيف/ريح/رمل/رؤى) الواردة في هذا النص: (كان يعرف أنها ذكرى: طيفاً يمر/تعبر الريح/الرمل يهمي والرؤى التي لا تبين تنتهي إليه) وهذا الاقتراب يجعلنا ندرك همهمة الشاعر المرتبطة بالعديد من الأسباب الخاصة منها والعامة .
يقول تشيخوف: (أنا موجود حيث الألم، لقد صلبت نفسي على أقل دمعة) من خلال بلاغة المعنى الموجود في هذه الجملة يمكن لنا أن نستدرك عنوان المجموعة، أنا من أرض كلكامش، التي جاءت نصوصها محددة ومتسلسلة، بقصدية تامة، في الزمان والمكان، ثمة تجسيد لاستفاقة الألم بعد سبات عميق لمعنى الملحمة ومعنى البحث المضني لكلكامش، لعل هذا الألم هو أقرب فصول الشاعر خالد المعالي إلى أرضه، ولعله أن يكون كذلك بالنسبة للقارئ العراقي، بشكل خاص، فقد صاغ الشاعر نصه في انفعال بالموضوع الشعري والمعنى والجوهر بطريقة لا تخفى على القارئ العراقي منذ الأسطر الأولى التي تأخذ القارئ بدورها إلى رعشة الألم خصوصاً وهو يقرأ هذه السطور الشعرية المثقلة بألم التجربة: (ودمعي شربته لكي أبكيه من جديد) (كنت وحدي، دائماً كنت وحدي) (لم نكن نريد الحياة هذه المسرة العسيرة) (يضيّقُ الموت حياتنا) (نجر الظلال خلفنا) (كانت أيامنا أوهاما).
يعود إلينا خالد المعالي لا من رحلة الألم فحسب بل من رحلة الخيبة بعد أن أجتاز الكثير من التجارب المعرفية في كتاباته وترجماته الشعرية والنثرية واصداراته المختلفة بدءاً من (لمن أعلن دفتري، في رثاء حنجرة، عيون فكرت بنا، خيال من قصب، الإقامة في العراء) وليس انتهاءً بهذه المجموعة، إنها عودة مغايرة تجسد التواصل المعرفي الذي ربط دوماً الشاعر بالمعنى الشعري، وربط الدلالة بالتجربة، عودة يربط بها أيضاً وقائع هذه التجربة مع تلك الذكرى التي أحاطت بالشاعر واشعلت حرائق الخيبات تشبيهاً واستعارة وإيجازاً، لنتأمل هذه المقاطع الشعرية: (أنا الذي لم يجد حياة ليبكي عليها: سار في الطريق طويلاً/ثم حين مدّ يداً ليطرق الباب/تلاشى كل شيء) أو هذه الجملة الشعرية الموجزة: (لم يعد غير الحصى).
خاتمة: يمكن للقارئ أن يفهم التيمات أو الأعشاب الثلاث التي تحكمت بشعر خالد المعالي في هذه المجموعة وأعني، الألم والخيبة والذكرى، ومع ذلك بدت الكتابة الشعرية عنده لا فعل تعويض فحسب بل فعل استعادة، أي فعلاً يسعى لاستعادة الحياة والجمال ليطرد الألم الحاضر في الحياة .
هامش: أنا من أرض كلكامش/شعر خالد المعالي/منشورات الجمل 2012

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية