خالدة سعيد… ضوء في ظلام النقد

حجم الخط
0

استطاعت الناقدة خالدة سعيد أن تقولَ: إن النقد لا يزال حركة ناشئة، وأغلبه يتكون من انطباعات شخصية أو شخصانية مُشوشة وغامضة دون مبادئ موضوعية ووجهات نظر صريحة وواضحة، كما أنهُ لا يدرس العمل الأدبي ككُل من حيث المضمون وأسلوب التعبير ووقعهُ في النفس، بل يتعامل مع جزء مُعين وينسى الآخر. مثل هذا النقد الانطباعي الجزئي – في رأيي – لا فائدة منهُ في غياب المناهج التحليلية المُتبعة والتقنيات التطبيقية الجادة. إننا نتطلع دائما إلى دراسات قيمة وحديثة حقا تتناول مواد وأساليب تعبير عميقة، فهي تفتح أبوابا مُختلفة ومُحدَثة في النقد الأدبي العاجز اليوم.
تحدثت عن الغموض الجذاب في الأعمال الإبداعية، واصفة إياه بأنه ليسَ عيبا، كما يعتقد مُعظم النقاد، بل إنهُ يستثير خيال القارئ ويكشف في كُل قراءة شيئا مُغايرا عن السابق، يلوح ويترك أثرا كالوميض، ما عدا الغموض المُراوغ الصادم، الذي لا يجد القارئ من خلالهِ صورا وتشبيهات بهية وبارعة، وهو ما لا يعرف النقاد كيف يفرقونه عن الغموض الأول المقبول، حيث الغموض الثاني شوّه الأدب المُعاصر مُؤخرا فدفع النقد إلى الضياع والكذب واجترار ما سبق.
ترى أن القُراء العاديون هُم مَن يهربون إلى العموميات المجهولة، بينما يسمي النقاد الحاذقون الأشياء بأسمائها الحقيقية؛ كونهم الأكثر جرأة وقدرة على تحديد ملامح الإنتاج الأدبي الآني البراق والعارض، مأخوذين بالأفكار السديدة والبصيرة الدقيقة، بما أن عطاء الإنسان الأهم هو الكشف.
تضيء خالدة عدة مستويات في النص وعالمه المدروس، ولا تُعنى بمستوى بارز دون غيره، إنها تخضع ظواهره جميعها إلى التفسير والتحليل الصارم، أُسمي نقدها (النقد الجذري للعمل الإبداعي)؛ نتيجة لبحثها الدؤوب في أعماق البنية النصية وعلاقاتها الداخلية المُرتبطة مع بعضها بعضا، والكامنة وراء مكونات هيكل النص، فضلا عن بحثها في الأنساق وما وراء الألفاظ والسياق، في ضوء المنهج الاجتماعي والنفسي وخطوطهما الإشكالية المُقترنة بالعلوم المشتقة منهما، التي تسير في اتجاهات مُتعمقة وكاشفة.
دعت إلى تحرير النقد من التقاليد، التكرار، والنواسخ والإخوانيات، ثم تطويره استنادا إلى ثقافة واسعة وحياة غنية، كما دعت إلى حُرية الإبداع وتجديده، فالدعوة إلى حُرية الاثنين من وجهةِ نظرها كانت أكثر من مُجرد قضية أدبية، لأنها دعوة لتحرير الطاقات الإنسانية، إذ رفض التقليد في الأدب بشكلٍ عام والنقد بشكلٍ خاص لا ينفصل عن نقد المرجعية والتأمل في الحاضر والمُستقبل، والدعوة إلى التجريب والبحث لا تنفصل عن الإيمان بأن الحقيقة تنكشف دائما لأنها موجودة في التاريخ، على حد تعبيرها.
تظل الاختلافات والتنوعات البعيدة عن ضفة التشابه والترداد، دليلا على اجتهاد المرء وعبقريته وإبداعه العقلاني اللامُتناهي؛ ذلك لأن العمل الأدبي أو النقدي الرائع والذكي يُؤسس مفاهيم سليمة ومعارف صحيحة، تلبي احتياجات الفرد الفكرية والروحية والاجتماعية، بفضلِ قدرتها الحية النافذة وطبيعتها الأصيلة، إلى جوار إلهامها الدائم للقارئ والباحث معا.
عرّفت القراءة النقدية بأنها نشاطٌ فكري رفيع، يستدعي الإجابة والتجاوب والاستحضار، فلا قراءة بلا استيعاب، إدراك، تصور، تفاعل وقبول ورفض، إن القراءة هي استكمالٌ وتأويل وتخيل، أما القراءة الشعرية فهي بمثابة مُغامرة ورحلة استيهام، قراءة الشعر هي بلا شك اختراقٌ لحلم، مع أن كُل قراءة جديدة هي بالضرورة مُغامرة استكشافية جديدة. تعيد خالدة سعيد صياغة النصوص من جديد خلال الكتابة النقدية، بما أنها تؤمن بأن القارئ شريك للمُبدع، تقدم للقارئ عرضا مفصلا بكُل المراحل التي مرّ بها فكرها أو خيالها أثناء القراءة والتحليل والاستنتاج؛ لذلك تميز نقدها بحيويته وابتكاره وغرابته، بعد أن حاول الإشارة إلى مواطن الجمال والتفرد ومواطن الزيف والتناقض في النصوص، ونجحت إلى حد بعيد في ما كانت تنوي فعله من التعري، التمرد والشجاعة، هذا ما يتجلى في كتبها النقدية الطويلة الثرية والمُوجزة في كُل مقالة من مقالاتها – أو بالأحرى في كُل دراسة من دراساتها – في الوقت نفسه!
نلحظ أن كتبها مُفيدة ومُتزنة، وهُنا تكمن أهميتها وسبب استقطابها لنا، لم تخدش المآخذ الفنية والسردية ببعض الهفوات والمساوئ، بل حرصت على تكثيف المعاني أي فاضت اشتغالاتها بمعانٍ لُغوية شديدة وتعبيرات تفكيكية مُدهشة للأعمال المشرحة على أريكة النقد. تغرف لغتها الإيقاعية من نهرٍ صافٍ غير مُلوث بأعواد الكلمات المُتكسرة. لقد كانت خالدة مرآة للوعي النقدي في التقدم الحداثوي وحركته الديناميكية، ذلك الوعي المشروط برؤية التناقض، الرؤية التي تقتضي إسقاط الحجاب وصيغ التمويه، كما أشارت إليه في كتاب «يوتوبيا المدينة المثقفة» سلفا، تحث القُراء المثاليين عندَ قراءة كتاباتها التي تدور حول شُعراء مجلة «شِعر» وإنجازاتهم على طرح تساؤلات جوهرية ومشروعات نقدية كبيرة، تدفع أحدهم نحو مساع ثقافية واقعية، إذ تؤمن بالإبداع والحوار التفاعلي بين الكاتب والقارئ.
شقت طريقها إلى التميز وسط الجهل والغبن والنكران النقدي، وهو تميز ساطع لم يألفه النقد ولم يعتد عليه من قبلُ، تركت وراءها مقدارا كبيرا من الأعمال والتعليقات في مجال النقد خصيصا، أخرجتها بلُغة متينة مُشرقة وصياغة منطقية أنيقة لا تطولها سطحية، مصحوبة بالتعليلات التفصيلية والبراهين الفعلية، بالإضافة إلى شروحات جانبية لها علاقة بالموضوعات الأصلية المطروحة في المتن، بطريقة ناضجة وجريئة منذُ البداية؛ لخلق ميدان نقدي خالص وخالٍ من المُبالغة والاستعراض بالنظريات الفخمة، المُمتدة من القدم وحتى الآن.
خالدة سعيد امرأة مُثلى، كُلها في كُل ما تفعل، كُلها في الكتابة وكُلها في الحياة، وكُلها كانت أفضل ما فينا، هكذا كتب عنها الشاعر أُنسي لويس الحاج. أحبت الشعر وأخضعت العديد من نصوص الشُعراء والشاعرات لمجهر النقد بمصداقية وأمانة عالية ورؤية حداثوية أصيلة، لا تتأثر بمُصطلحات النقد الغربية، نحو: محمود درويش، أُنسي الحاج، أمجد ناصر، وديع سعادة، محمد الماغوط، نادية تويني، سنية صالح ونازك الملائكة وإلى آخره.. آمنت دوما بالمعرفة اكتسابا وعطاء وبحُرية البحث والحوار والتبادل، أدركت أن تجربة الشعر هي تجربة حسية مُهلكة ومُتلفة، يصبح الألم المُعذب فيها نوعا من التطهير النفسي الفعال؛ ولذلك فإن الشعر ليسَ مُجرد تسلية وهواية عابرة قط، بل موضوع رئيس في نقدها الانتقائي غير المُعطر بماء الورد- أي لا يقوم على لون من التصنع والانفعال الغائم- دون شك.
تميل نحو الشاعر الذي يهب نفسه في قصيدة، بدلا من تقديم قصيدة فقط، وتستنبط أن القصيدة تنام ألف سنة ولا تتجدد، أو لا تتفتح إلا إذا وجدت قارئا حقيقيا؛ تبقى تنتظر قارئها الذي يفتحها ويجدد ماءها ودلالاتها، وهذا هو الحال أيضا في النص الإبداعي والإيحائي؛ لذا أكدت أن القصيدة بلا قراءة هي قصيدة نائمة وأحيانا ميتة.
درست في مدارس داخلية خاصة، وتفرغت لقراءة الأدب العربي والإنكليزي والفرنسي في أوائل القرن العشرين، تأثرت بكبار النقاد والشعراء الغربيين من حيث العمل الجاد، التمعن الخلاق والشكل المُسْتَحدَث حتى إنها ترجمت أحد أعمال إدغار آلان بو لأنهُ شاركها إحساسها الفظيع وذكاءها الرهيب وعذوبتها الوادعة، ثم صنعت خطا نقديا بتمهلٍ وتأمل بلا تهور ويقين أعمى، مُركزة على البعد الإنساني والشعر الفلسفي المُهم.
تقول: نكتب لأن الكتابة مرآتُنا، وإن لم تَصدُق في كُل مرة، نكتب لأن الكتابة صوتُ الأعماق الدفينة المُحَجَبَة، نكتب ردا على الزمن الذي ينزلق صامِتا ولا يُنذرُنا، الزمن الذي يخون أحلامَنا ويُرغمُنا على هجرِها وإيداعِها بينَ الصفحات.
إن الزمن نفسه هو إحدى مواد الشاعر والناقد على حد سواء، رُبما نقرأ ونكتب لأننا نحتاج إلى تعبيرٍ شِعري قاسٍ عندما نسقط بسبب الزجاج الذي كسرته أيدينا وسط الغرفة الباردة، وعندما لا نحب العالم ولا نكتفي بمشاهد الغدر والخيبات المُتكررة أمامنا. إن الكتابة بعد العلم أكثر صدقا وألما من الكتابة بعد الجهل وإن الرغبة المُلحة في البكاء والاستياء الكبير هي وقود الكتابة النقدية الخالدة، التي نشعر بالرهبة منها بينَ الحين والآخر، هذا هو ما يعنيه تحويل التذمر المُبرح والاطلاع المُكثف إلى عملٍ هائل ودقيق.
إذا كان محمود درويش ضوءا في ظلام العبث، وأُنسي الحاج ضوءا في خليج العواصف، فإن خالدة سعيد حتما ضوء في ظلام النقد ويوتوبيا المدن، بوصفِها قيمة لن تتلاشى أبدا كالبلور الثمين المُحْكَم بينَ الحجر الرخيص الخادع اليوم.

كاتبة عراقية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية