حيوانات تونس في زمن الترويكا

يصف لانزا ديل غاستو في فصل من كتابه’الحجّ إلى الينابيع’ رحلته إلى مدينة أغرا الهنديّة.وممّا جاء فيه أنّه ما أن توغّل في حيّ المسلمين،حتى وقع على نفر يصرخون وهم يهوون ضربا على ظهر حصان،كانوا قد جعلوا مقوده وهو حبل يمرّ تحت فخذه ويكشط بطنه.وكلّما ازدادوا ضربا تراجع الحيوان إلى الوراء وهو يخبط ويرفس. يتذكّر الكاتب وقد اعتراه الغضب،قول غاندي’ ثمّة أوقات تصبح فيها القوّة هي التعبير الوحيد الممكن عن اللاعنف’. يقول:’ انقضضت عندئذ على هؤلاء النزقين ضعيفي العقل،وبغضبة جامحة حوّلت عصيّهم وصراخهم نحوي.ولكن زرقة عينيّ،فاجأتهم لا ريب؛إذ ما لبثوا:حين نظرت إليهم وجها لوجه، أن سقطت أذرعهم إلى جنوبهم.’ ويأخذ لانزا بمقود الحصان الذي كان يزبد ويرتعش.يمسّد عنقه ثمّ يطلقه،ويتركه يواجه قدره

‘ ‘ ‘
عدت إلى كتاب لانزا الذي قرأته أكثر من مرّة، أقلّب صفحاته بحثا عن هذ النصّ الذي كتبه صاحبه عام 1937؛ولا مسوّغ لذلك سوى ما تعوّدنا عليه في زمن الترويكا،في كثير من مدننا وقرانا، من رؤية جزارين لا يتردّدون في ذبح خروف أو جدي أو عجل على قارعة الشارع الرئيسي. أو في الازقّة..بل رأيت من ينحر جملا على الرصيف،في القيروان، قريبا من بيتي؛فيما الجمل يرغي ويزبد..بل يبكي ويعول(تذكّرت حصان نيتشه في تورينو، والحوذيّ الذي كان يلهب ظهره بالسّوط، فيما هو يتلكأ وكأنه يمشي في قيد ينازعه، ولا يكاد ينهز بصدره للسّير؛ ونيتشه الذي يتعلّق برقبة الحصان ليحميه، وهو يجهش باليكاء. ثمّ يدخل على أمّه، ويخبرها بأنّه قد جُنّ لا شكّ.)

‘ ‘ ‘

كتبت منذ سنوات في كتابي’فهرست الحيوان’ عن الصلة التي يمكن أن تنعقد بين الانسان والحيوان،وقلت لعلّها ذكرى ما تقبع في سحيق سابق على وجودنا الاجتماعي، أعني منذ لا نتذكّر،ونحن كائنات هشّة بكماء، قطعة لحم تندلق إلى الأرض، وتتدرّج موكولة إلى هشاشتها في ذلك السّديم الأوّل أو النّعيم الأوّل،نتوسّل بالحركة والإيماءة أو بالضّحك والبكاء
ربّما كان الحيوان ذاكرتنا الأولى المفقودة
الحيوان لا يرزح مثلنا تحت إرث الموتى،فإذا كان له ماض فهو ماضينا نحن البعيد، قبل أن تمتدّ إلينا يد المجتمع، وتحفر صورتها في لحمنا. ربّما جمعنا وإيّاه صباح غابر من أيّام الخليقة حيث كان درب بسيط يوحّد بيننا نحن حيوانات الأرض التي تفكّر لا برؤوسها فقط وإنّما بأيديها ومعدها وجلودها وأقدامها أيضا، وهذه الكائنات البكماء، رغم أنّ هذه القرابة قد نسيت ـ كما كتب طاغورـ منذ عهد سحيق، ولم يبق من ذلك الفردوس السّـالف غير وشم بسيط في لغـتنا: هذه المحاكية الصّوتيّة
..Omnotop’e
الكلمات التي تحاكي أصوات الحيوان والطّبيعة، وبخاصّة في لغة مثل العربيّة تمتلك خصيصة مميّزة في بنيتها الصّوتيّة هي عدم وجود صوت صائت ينفصل عن صوت صامت يلفظ قبله.
في مدن أوروبا وقراها نرى الحمام الذي يتسكّع غير مبال بالنّاس، ولا أحد يزعجه.هو بقر أوروبّا الهنديّ ! كما قال لي الشاعر البرتغالي أجيتوغونسالفاس رحمه الله. كلّ هذه الكائنات التي تعيش في الكون مثل الماء في الماء،ترتبط معـنا بشوابك قرابة كثيرة! ربّما نحن نسمّي الأشياء، أمّا هي فالأشياء تتسمّى لها

‘ ‘ ‘

وحتى لا يذهبنّ في الظنّ، أنّ لانزا ديل غاستو يتحامل على المسلمين في النصّ القصير الذي تمثّلت به؛ فإنّي أختم هذا العمود بشذرات من مديحه وهو يخاطب المسلمين، والعرب تحديدا:’ أيها النبلاء بين الناس قاطبة،يا أخوة الأحصنة وكلاب الصيد،أحبّ الصحراء التي خرجتم منها،وحجر العربيّة السعيدة…يكفيني أن أسمع أربع نغمات من موسيقى العرب ذات الأبعاد المحدودة،وخفوتها المفاجئ ورجعها المؤثّر حتى أقع نشوان من اللذة…أحبّ مآذنكم المرفوعة كأصبع محتضر يشهد بوحدانية الله أحبّ جودكم وثراءكم المتآخي مع الفقر التقي،ويشبهه من ناحيتين: النبل والتقشّف…أحبّ تغزّلكم بالخمرة،يا أكثر شاربي الماء القراح.’ سلاما لحيوانات تونس التي أصبحت تعاني أكثر ممّا يعاني التونسيون..شكرا لشعبنا العظيم ينقلنا بضربة ساحر من زمن بورقيبة وحشاد والمسعدي وجورج عدّة… إلى زمن راشد الغنوشي واللوز والشورو والزيتون.. ولم يعد ينقصنا سوى’التين’ لتكتمل الصورة..سلاما

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فتحي:

    مقال رائع ومعبر .نعم من بركات الثورة ان يحكمنا مشايخ .

إشترك في قائمتنا البريدية