حين يتحرر المترجم من ثنائية الخيانة والأمانة

الترجمة موقف واختيار وذهاب نحو ما تراه النفس جديدا ومختلفا، ويشبهها في تحولاتها وتجلياتها، فالمترجم يختار ما يراه ينفع الناس ويمكث في أرض الكتب طويلا. هذا ما يقوله الشاعر أحمد الشهاوي في مقدمته للكتاب الذي حرره وقدم له «ثقب المفتاح لا يرى»، بعد أن أنجزت ترجمته سارة حامد حواس، جامعة فيه قصائد لعشرين شاعرة أمريكية، حصلن على جائزتيْ نوبل وبوليتزر، مضيفا في مقدمته، التي يثني فيها على ما قامت به المترجمة، واصفا لغتها بالجميلة البعيدة عن التقعر، معتمدة على الإبداع والحس اللغوي، إن الترجمة ليست نقل حروف أو مفردات من لغة إلى لغة أخرى، لكنها نقل للحضارة والثقافة والفكر، ومعرفة بأسرار اللغتين المنقول عنها وإليها، كما يرى أن الترجمة فن، مؤكدا أن ترجمة الشعر هي تحدٍّ خاص أمام من يقوم بالترجمة، حيث هناك فروق دلالية وثقافية كثيرة، ولا يكفي أن يكون المترجم أستاذا جامعيّا، أو عارفا باللغة الإنكليزية وأسرارها، بل لا بد أن تكون لديه حساسية شعرية عالية، ومحبة خاصة نحو الشعر، هذا إن لم يكن شاعرا في الأصل.

نصوص سلسة

أحمد الشهاوي الذي يقول إننا بتنا في وقت ازدادت فيه الحاجة إلى ترجمة شعر المرأة، الذي يراه مثالا مهمّا للكتابة الشعرية، التي تتسم بالجدة والجدية، يقول كذلك إذا كانت ترجمة الشعر أمرا معقدا وصعبا ومحفوفا بالمخاطر، ويتطلب من صاحبه مهارة خاصة وذكاء وحسن تصرف، يرى أن المترجمة هنا استطاعت أن تقدم نصوصا سلسة خالية من التعقيد، ومنحتها الكثير من دمها وبصمتها، إضافة إلى تقديم سيرة شعرية وحياتية لكل شاعرة.
ومتحدثا عن ترجمة سارة حواس هنا يكتب الشهاوي قائلا، إن الشعر لم يضِع في الترجمة، ولم تنقل المعنى فقط، بل أولت شعرية النص المكانة الأولى، وألمت بمختلف السياقات المعرفية، وحمت النص الشعري من خطر التشويه أو الضياع، ومن ثم حافظت على جوهر النص الأصلي، فكانت «أمينة» في نقل النص بمعناه وبنيته، من دون أن تُخل أو تُحرّف، مؤكدا أنها تحررت من ثنائية الخيانة والأمانة، وتخلت عن الفهم التقليدي للشعر، وكسرت القول المتوارث: لا يستطيع الشعر التنفس في المناخ الأكاديمي، على حد قول الشاعر الأمريكي هنري ديفيد ثورو. هنا اختارت سارة حواس أن تترجم لشاعرات فقط، ينتمين إلى الجغرافيا الأمريكية، منهن من انحدرن من بلدان أخرى، لكنهن عشن في الثقافة الأمريكية طويلا، حتى صرن أمريكيات أو تأمركْنَ روحا ولغة، وقد حصل بعضهن على جائزة نوبل في الآداب، وبعضهن على جائزة بوليتزر في الشعر، وهي الجائزة الأمريكية الأرفع والأقدم في الشعر، ومن يحصل عليها يظل طوال حياته حاضرا وحيّا في المشهد الشعري الأمريكي ومن ثم العالمي.
في مقدمته يورد أحمد الشهاوي هنا ما قالته إنعام بيّوض: يكمن أساس ترجمة الشعر، في أن تكون القصيدة مكافئة للأصل من حيث الدلالة والصور، وكل ما يمكن نقله، وفي الوقت نفسه يكون إبداعا جديدا يتقبله قارئ لغة الوصل بشكل لا يتنافر مع معاييره الجمالية واللسانية، ظانّا أن إلمام سارة حواس بالفنون جعلها قريبة من الحس الموسيقي وهي تترجم، كما أن لديها طاقة لغوية فطرية إضافة إلى ما اكتسبته من دراستها المستمرة منذ المرحلة الجامعية، واصفا ترجمتها بأنها ليست توصيلية، بل فيها من النحت والخلق والابتكار الكثير، وهي صادقة في توصيل المعنى، مقرّا بأنه ليس هناك مترجم كامل، وليست هناك ترجمة كاملة، غير أن عمل سارة حواس، كما يرى، يظل ملهما وثريّا، ويفتح طريقا جديدة أمام الشعر والشعراء ومحبي القصيدة.

كتاب أم رحلة؟

أما المترجمة التي لا تدري من أين تبدأ كتابة مقدمة الكتاب الذي صدر عن مجموعة بيت الحكمة للصناعات الثقافية، ولا تدري أهو مجرد كتاب، أم رحلة أم مسيرة قطعتها بحب وشغف كبيرين، فتقول إن ترجمة الشعر أعمق بكثير من مجرد قواعد أو التزام بوزن أو قافية، أو نقل معنى كلمة أو جملة من لغة إلى أخرى، مشيرة إلى أنها بدأت الترجمة بروح طفلة تحبو في عامها الأول، فرِحة بقدرتها على المشي لأول مرة، ذاكرة أن الترجمة فعل حب وفن وشعور، والمترجم إنسان وليس آلة، يتخلله شعور إنسان آخر في عالم آخر يتقمصه ويتوحد فيه، مؤكدة أن المترجم الحق هو من ينقل روح وحرف الشاعر بأمانة حتى في الشعور، ذاكرة أنها وجدت أن معاناة الشاعرات ذوات الأصول الافريقية تكمن في التفرقة العنصرية والمضايقات التي يتعرضن لها بسبب أصولهن، وكانت قصائدهن تنبض بإحساسهن بعدم الانتماء إلى وطن، وإحساسهن الدائم بالغربة وفقد الهوية، راصدة اختلافات عديدة بين كل الشاعرات اللاتي ينتمين إلى جغرافيات مختلفة وأصول متعددة، حتى إن توحدن في أمريكيتهن، لكن الخلفية الثقافية والاجتماعية الأولى لها البصمة السائدة في قصائد الشاعرات الأمريكيات. ومشيرة إلى قلة عدد الشاعرات الحاصلات على جائزتيْ نوبل وبوليتزر تسأل المترجمة أليس هذا إجحافا صريحا في حق المرأة في الفوز بجوائز عالمية عريقة في عالم الأدب؟ أليس هذا ظلما وتعدّيا مجحفا في حق المرأة في التكريم والتقدير في مجال الأدب؟ هل الجوائز جزء من السياسة، أم هي مصادفة، أم محض خيال بأن العالم سيصبح عادلا في يوم ما؟ مختتمة مقدمتها قائلة إن عوالم وثقافات مختلفة وخلفيات اجتماعية جعلتها تتعلم وتعرف وتؤكد حقيقة واحدة وهي، أن الألم وقود النجاح والتميز والاختلاف، كما أن الحزن يشعل فتيل الإرادة في قلب وروح الإنسان ويجعل منه رمزا ونهرا يعطي ويفيض.

المغامرة المتمردة

سارة حواس التي تقول أيضا في مقدمتها إن الكلمة الواحدة في النص الشعري لها وزن الذهب، لثقلها وتأثيرها على النص بأكمله، خاصة أن الشاعر يحسبها بالكلمة الواحدة والشعور الواحد، ورغم تقيّده في نص مكثف، فإن الشاعر الحر لا تُقيده تحكمات أو قواعد، بل نجد روحه تتخطى الكلمات والجمل إلى مناطق وعوالم بعيدة، لا أحد يستطيع أن يصل إليها إلا شاعر بروح وثابة قادرة على التحليق والطيران، تترجم هنا لإيمي لويل، سارة تيسديل، ماريان مور، ليسيل مولر، كارولين كايزر، شارون أولدز، سيلفيا بلاث، لويز جلوك، ريتا دوف، ماري أوليفر، وغيرهن. تقول الشاعرة الأمريكية سارة تيسديل في قصيدتها الحب الخفي:
أخفيتُ الحب في قلبي
أضأتُ الضحكة في عينيّ
قد لا يعرف حين نلتقي
أن حبي لن يموت.
أما الشاعرة الأمريكية إدنا سانت فينسنت ميلاي، التي تصفها المترجمة بالمغامِرة المتمردة التي تتخطى السقوط وتنجح، فتقول في قصيدتها على تل بعد الظهر:
سأكون أسعد شيء
تحت الشمس
سألمس مئة وردة
ولن أقطف واحدة
سأنظر إلى المنحدرات والسحب
بعينين هادئتين
راقب الريح وهي تنحني على العشب
والعشب يرتفع
وعندما تبدأ الأضواء كشفها
في المدينة
سأحدد ما يجب أن يكون ملكي
وسأبدأ.
وفي قصيدتها ما بعد الأذى تقول الشاعرة الأمريكية شارون أولدز:
بعد وفاة أبي بأسبوع
أيقنت فجأة
أن حبه كان أمانا لي
لا شيء يضاهيه.
وهكذا نقرأ في « ثقب المفتاح لا يرى» مقدمتيْ المحرر والمترجمة المفيدتين لاحتوائهما على معظم الأدوات التي على كل مترجم أن يحملها في حقيبته، مع تفاصيل أخرى لمن يهتم بأمر الترجمة وما يتعلق بجودتها أو عدمها، كما نقرأ قصائدَ عذبة لشاعرات، يحمل بعضها ألما موجعا ومبكيا، وبعضها يحمل أملا غضّا لا يموت.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية