حين كذّبت غزة شعار «معا سننتصر» واحترقت وحدها

حجم الخط
0

شهدت شوارع المدن الإسرائيلية، بعد الإعلان عن تشكيل حكومة نتنياهو الأخيرة، موجات من المظاهرات التي بدأت بحضور شعبي متواضع مدفوع بتوجس بعض شرائح المجتمع الإسرائيلي من هدف الحكومة في تنفيذ مشروع «الإصلاح القضائي»، كما أعلنت عنه حكومة نتنياهو، وقناعة المتظاهرين بأن مخطط أحزاب الحكومة أكبر من ذلك، وسيفضي عمليا، في حالة إنجازه، إلى هدم مؤسسات الدولة السيادية، والإجهاز على سلطة القانون، واستقلالية المنظومة القضائية، بجميع فروعها، وتحييد دور هيئات الرقابة «الدستورية» في تأمين التوازنات الضرورية بين سلطات الحكم الثلاث: الشرعية والتنفيذية والقضائية؛ وحماية حقوق المواطنين الأساسية.
ركزت شعارات المتظاهرين على ضرورة حماية الديمقراطية الإسرائيلية، وحصرت أهدافها، في البدايات، بالتصدي لمخططات التيارات السياسية القومية العنصرية والدينية المتزمتة، لاسيما بعد أن حظيت أحزابها بأكثرية مطلقة داخل الكنيست/ السلطة التشريعية، وباشر قادتها بتنفيذ مخططهم بالاستيلاء على جميع مفاصل الحكم استعدادا لتشييد الدولة اليهودية الجديدة، أو بالحري مملكتهم وفق المفاهيم التوراتية التي تربّوا عليها وآمنوا بها ونالوا من ناخبيهم الثقة والتكليف لتحقيقها.

كان السابع من أكتوبر يوم اتحد كل أفراد الشعب اليهودي داخل إسرائيل، واتفقوا أن يقضوا بسببه على أهل غزة، لكن غزة بقيت وستبقى لأهلها النازحين ولجثث أبنائها وحجارتها المشبعة بالدم وبالدموع

ومع مرور الوقت بدأت بعض النخب القيادية اليهودية الجديدة تنتبه إلى أن المطالبة بحماية الديمقراطية الإسرائيلية والدفاع عن المنظومة القضائية لن يتحققا إلا إذا تم التعاطي مع المسببات، التي أعطبت ديمقراطيتهم عبر العقود الماضية، وأفضت إلى ولادة التيارات السياسية والدينية المتعصبة والفاشية، وتعاظم قوتها كما حصل؛ فكيف يمكن لديمقراطية حقيقية أن تثبت في عرى احتلال شعب آخر وقمعه؟ وكذلك كيف لها أن تكون حقيقية إذا لم تضمن المساواة لأكثر من خمس مواطني الدولة العرب؟
أذكّر اليوم بهذه التفاصيل لعلاقتها بما يجري داخل إسرائيل في هذه الأيام، وربما لأن البعض قد نسي تداعيات المشهد الإسرائيلي الذي كان، ونسينا كيف تحوّلت مظاهرات الاحتجاج الصغيرة إلى مظاهرات ضخمة تضم مئات الآلاف من المواطنين، وتغزو شوارع المدن الإسرائيلية وميادينها، حتى أصبحت حركة تتمتع بقوة شعبية مؤثرة نجحت بفرض موقفها على حكومة نتنياهو وأجبرته على الإعلان عن تجميد مخطط «الإصلاح القضائي»، تحت شعار رأب الصدع داخل المجتمع اليهودي والتفتيش عن قواسم مشتركة بينهم حيال شكل الدولة اليهودية ونظام الحكم فيها. وقبل مناورة حكومة نتنياهو المذكورة وإعلانها عن تجميد خطتها في الإصلاح، من الجدير أن نتذكر كيف بعد أن كان شعار المحافظة على الديمقراطية يرفع في المظاهرات «عاريا» من أي مضمون حقيقي، أو وهو مقرون بضرورة حماية المنظومتين القضائية والرقابية وحسب، صرنا نسمعه من بعض الخطباء وهو مقرون بتأكيدهم على ضرورة التخلص من الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين، وتأكيدهم، في الوقت نفسه، على أن لا ديمقراطية دون تأمين مساواة كاملة لمواطني الدولة العرب. لقد بدأ الشعار ثلاثي الأضلاع يبرعم، وينطلق وإن كان في حقول من شوك. لن أدّعي اليوم أننا كنا قاب قوس من إقناع المجتمع الإسرائيلي بأن لا ديمقراطية في دولة تشرعن فوقية الجنس اليهودي على سائر مواطنيها غير اليهود؛ أو أن لا ديمقراطية مع احتلال ومع سياسات قمع واضطهاد وعنصرية؛ لكننا، رغم ذلك، كنا نشهد مخاضات تتداعى في سيرورة سياسية اجتماعية متدافعة وجديدة، لو قيض لها أن تستمر لنقلتنا، ربما، إلى فضاءات هي آمن لنا، بالتأكيد، من التي فاضت علينا بعد السابع من أكتوبر. ففي ذلك اليوم «السابع» لم تسترح السماء، كما علمتنا الكتب، بل صبت جام غضبها وحممها على العباد؛ فكان ليل وكان نهار، وزال عصر وحل طوفان، وشنت إسرائيل حرباً فسال دم وساد دمار.
ستة شهور مرت، تغيرت فيها قواميس اللغة وأدوات بديعها وبيانها؛ فكتبَ الرصاص أحرف الديمقراطية طلقة طلقة، وصار الاحتلال كنايات مغروسة في الأجساد، والمساواة تحولت إلى استعارة عن خنجر يتربص بفريسته القادمة؛ أما إسرائيل فلم تعد «دولتنا» التي «تحترمنا وتشك فينا»، بل سجاننا المتأهب بسوطه وبحافلاته. كل ما كان عندنا ولنا قبل السابع من أكتوبر صار أصداء لأحلام وأنات «لبنات جبال» بعيدة. في السابع من أكتوبر رفعت صهيون شعار ربها وأعلنت: «معاً سننتصر» على أعدائنا؛ فكلنا بعد اليوم أبناء صهيون واحد ولا فرق بين نتنياهو وجولان، ولا بين لابيد وابن جبير، وجئولا هي اخت لمايا. ونمنا كالفَراش حول القناديل وسكتنا نعدّ خاءات خيباتنا وننظر نحو غزة وقد كانت فتاة لا تعرف النوم، تطير «وتغطي صدرها العاري بأغنية الوداع وتعد كفيها وتخطئ حين لا تجد الذراع»، ولا تبكي؛ فكيف يبكي من يعيش بين موتين وبحر؟ مرت شهور الذبح حتى سمع المدى صهيل الذباب، وطفح الدم وصار ريقا في حلوق الناس. بعد ستة «دهور» تفوق فيها الوجع على هرم الينابيع، فبدأت قلة من الناس تستعير ضمائرها، وتعيد تفاصيل المشهد قطرة قطرة، وبدأت تعي أن غزة هي الضحية، ويجب على حكومة نتنياهو أن توقف حربها عليها، وتتوقف عن قتل نسائها وأطفالها وأبريائها «فثلثا الاشخاص الذين قتلوا (أكثر من 42 ألف شخص قتلوا في غزة) هم من النساء والأطفال، وهذا أمر لا يغتفر»، هكذا صرح قبل أيام السناتور الأمريكي برني ساندرز، وهو صوت من آلاف مؤلفة من الناس بدأوا يتهمون حكومة إسرائيل ويطالبونها بوقف الحرب فورا.
لم تقتصر موجة التحولات في الرأي العام على الساحات الدولية وحسب، بل بدأنا نشعر بها أيضا داخل إسرائيل، حيث لم يكتف المعارضون بإطلاق التصريحات وبانتقاد حكومتهم. في الأسابيع الأخيرة بدأت تنتظم موجة جديدة من مظاهرات الاحتجاج التي يشارك فيها آلاف المواطنين، يطالبون بالعمل من أجل إرجاع المخطوفين وبضرورة إجراء انتخابات جديدة للكنيست.
قد تكون تداعيات المظاهرة التي جرت يوم الثلاثاء الماضي أمام بيت نتنياهو في شارع غزة في القدس، مؤشرا على احتدام الوضع بين نتنياهو وحكومته من جهة، وجميع القوى الاجتماعية والسياسية، التي وقفت ضده بعد تشكيل حكومته من جهة اخرى. وقد يكون الصدام بين المتظاهرين ورجال الشرطة، الذي جرى على مقربة من منزل رئيس الحكومة، واستدعى حضور رئيس جهاز المخابرات العامة بنفسه إلى الموقع، دليلا على ما سيحصل في القريب العاجل، سواء على مستقبل أواصر الوحدة اليهودية اليهودية التي فرضتها بشكل مصطنع وديماغوجي أحداث السابع من أكتوبر، أو على طريقة تعامل الشرطة مع من سيعارضون حكومتهم.
ما يحدث في الأيام الأخيرة داخل إسرائيل، لاسيما عودة ظاهرة الاحتجاجات إلى الشوارع، هو تطور مهم ولافت؛ وقد يتحول في ظروف مواتية إلى حركة شعبية معارضة شبيهة لتلك التي تراجعت تحت وطأة طوفان السابع من أكتوبر. أعي أن ما يحرك المتظاهرين في الاحتجاجات الأخيرة هي مسألة المخطوفين الإسرائيليين والمطالبة بإعادتهم، واتهام حكومة نتنياهو بهدر أرواحهم على مذبح مصلحته الشخصية وغريزته للبقاء في الحكم، وأعرف أن دوافع بعض القوى المبادرة والمشاركة في تلك الاحتجاجات سياسية، ورغبتهم في إجراء انتخابات جديدة للكنيست هي إسقاط حكومة نتنياهو، ومع ذلك علينا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وفلسطين بشكل عام، ان نتابع هذه التطورات لا كمتفرجين لنا مصلحة بتوسيع الشقاق الذي نجح نتنياهو بطمره تحت شعار «معا سننتصر» فحسب؛ بل كأصحاب مصلحة مباشرة في إعادة الشارع الإسرائيلي إلى مواجهة الأسئلة المصيرية الصحيحة والتوصل إلى الأجوبة الصحيحة المصيرية، من أجلهم ومن أجلنا.
لقد كان السابع من أكتوبر يوم اتحد كل افراد الشعب اليهودي داخل إسرائيل، واتفقوا أن يقضوا بسببه على أهل غزة .. لكن غزة بقيت وستبقى لأهلها النازحين ولجثث أبنائها وحجارتها المشبعة بالدم وبالدموع وباحلام البائسين الباقين. فهل كما كانت غزة «الفريسة» سببا للوفاق التام داخل اسرائيل ستكون غزة الحياة سببا في صحوة الاسرائيلي من خرافاته؟
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية