حقيقة وأصل الصراع في لبنان وأسبابه

حجم الخط
1

الصراع الذي يعصف بلبنان للأسبوع الثاني على التوالي، كان أكثر من متوقع، وتوصيفه العام، إنه صراع بين غالبية اللبنانيين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم وإثنياتهم، بعيدا عن الانتماءات الحزبية للمشاركين في انتفاضته، ضد الطغمة الرأسمالية السياسية الحاكمة، التي تحوز، وفقا للإحصائيات، على 80% من ثروات لبنان، في الوقت الذي توزع فيه نسبة 20% من الميزانية العامة على الخدمات المقدّمة لـ6 ملايين لبناني.
الثروات موزعة بين رجالات الإقطاع السياسي والديني، وتحول بمجموعه إلى طبقي متوارث أبا عن جد، ومن ذلك تشكّلت شريحة كمبرادورية واسعة، مرتبطة حكما كلّ منها بحزب أو مجموعة، الأمر الذي أدّى من جهة، إلى زيادة التعارضات اللبنانية اللبنانية القائمة أصلا، والكامنة في تشكيل أسس ومرتكزات النظام.
أريد للنظام السياسي اللبناني أن يكون هكذا، ويخطئ من يطلق عليه صفة «صيغة تعايش» فهو منخور بالتناقضات، ومن زاوية ثانية، فإن الصيغة التعايشية، صعّبت من وصول عموم القوى السياسية اللبنانية إلى اتفاق، حتى إن وصلت إليه مضطرة بضغوطات خارجية، فهو يحمل بين طيّاته ألغاماً كثيرة، وأسبابا للإنفكاك منه بدواع متعددة، فهو أولا بين رجالات المال وزعماء الطوائف والإقطاع السياسي، وليس بين الجماهير الشعبية، وهو يضاعف ثروات هؤلاء بمجموعهم، إضافة إلى أنه يعزز سيطرة كلّ منهم على جماعته/ حزبه/ طائفته. بالطبع في الحالة هذه فإن الميزانية السنوية ستعاني عجزا، فيتم سدّه من خلال الاستدانة من الخارج، مديونية لبنان 97 مليار دولار(حتى اللحظة) وسدّ العجز يتم بفرض المزيد من الضرائب على المواطنين، المثقلين أساسا بكثرتها وتنوعها، فيزدادون فقرا على فقر، ويصبحون عاجزين تماما عن سدّ احتياجات قوت عائلاتهم. بالطبع ستنخفض القيمة الشرائية للعملة المحلية في ظل انتعاش الأجنبية، خاصة الدولار، وترتفع نسبة التضخم، وتزداد البطالة، وترتفع أسعار السلع حتى الأساسية منها، كالغذائية، لصالح رأس المال المالي، الوصول إلى هذه الحالة، وفقا للتحليلات الاقتصادية العلمية، سيؤدي إلى انفجار جماهيري، لن تقف أمام امتداده كل وسائل القمع، ولن يستطيع وقفه كل رجالات المال، ولا حتى أجهزة الدولة وآلياتها المختلفة. ما قلناه هو سمة أشبه بالعامة أصابت منطقتنا قبل سنوات.
منذ بداية الاضطرابات التي عصفت بالشرق الأوسط في عام 2011 «الربيع العربي» انهارت بعض دول المنطقة، التي تضم مجتمعات تعددية غير متجانسة، ما أدّى إلى تجدّد الاهتمام بنظم تقاسم السلطة الطائفية، باعتبارها نماذج محتملة لإعادة تأهيل هذه البلدان. لبنان منذ الأساس، كان لديه مثل هذا النظام، حيث تتقاسم الطوائف الدينية السلطة. وعلى الرغم من العيوب التي تعتريه وإمكانية تفكّكه في نواح كثيرة، إلا أنه تمكن من العيش حتى هذه اللحظة، مع العلم أنه مرّ لـ15 عاما بحرب أهلية طاحنة أكلت الأخضر واليابس، وفي «اتفاق الطائف» عام 1989 أعيدت روح الحياة إلى الصيغة السابقة، بتحسينات، راعت التطورات الموضوعية لظروف البلد والمحيط العربي، كما الإقليمي والدولي والتوازنات القائمة لكل منها، وتداعياتها على الواقع اللبناني المتشابك، والمرتبط بالعوامل الخارجية، كما روعيت المستجدات الحزبية والسياسية والطائفية المذهبية في الواقع اللبناني ذاته.

الثروات موزعة بين رجالات الإقطاع السياسي والديني اللبنانيين، وتحول بمجموعه إلى طبقي متوارث أبا عن جد

لعل من السمات الرئيسية في لبنان أنه يجمع الشيء ونقيضه، فقد أنشأ نظاماً غير مألوف في العالم العربي لتقاسم السلطة والحكم، يقوم على تعريف مختلف للهوية عن غيره من البلدان العربية الأخرى. فهو تبنّى تدريجياً نظاماً سياسياً يقوم على التمثيل الطائفي، الذي تأثّر هو نفسه بالتطورات التي جرت خلال فترة الحكم العثماني. وقد تم ذلك حال إنشاء دولة لبنان الكبير رسمياً تحت سلطة الانتداب الفرنسي في الأول من سبتمبر/أيلول 1920.نعم، أدخلت حركة الاستقلال تحسينات على الطائفية السياسية في لبنان، واحتضنتها في نوفمبر/تشرين الثاني 1943، عبر ما أصبح يُعرف بـ»الميثاق الوطني» وهو اتفاق غير مكتوب وضع أسس النظام الطائفي في الجمهورية بعد الاستقلال. إن عناصر هذه القضية الشائكة والغريبة عن العالم العربي، والفريدة على صعيد الدول، والمُعبّر عنها في
بنيوية النظام، كما العوامل المؤثرة فيه، الانتماء، والهوية، وكل هذه تعمل على مراكمة المال لصالح العناصر البورجوازية الكبيرة في المجتمع، الأمر الذي يضاعف من معاناة غالبية المواطنين اللبنانيين، بكلمات اخرى زادت الأغنياء غنى، والفقراء فقراً، وصولا إلى الحد الذي تمثل في ازدياد الهوّة بين طبقات الشعب اللبناني. أما آلية ذلك فتتمثل في تقديس الزعيم الطائفي/المذهبي ووريثه الذي غالبا ما يورث الزعامة والقداسة لابنائه من بعده. وغالبا ما يكون الزعيم المقدّس غنيا احتكاريا بحكم العادات والتقاليد (وكمثل خذوا الزعماء اللبنانيين تاريخيا أبا عن جد).
بالنسبة للهوية، خرجت فئة لا يستهان بها من اللبنانيين تروّج للأصول الفينيقية أو الفرانكوفونية، بما يعنيه ذلك من ازدواجية في الهوية، وهذه تؤثر بالضرورة على الانتماء الطبقي، بحكم ما يصاحب هذا الانتماء الإثني المستورد، المتأصلّ في الذات الإنسانية، لكنه حائر بالنسبة للعديد من اللبنانيين. الانتماء في أحد عوامله مرتبط بطريقة غير مباشرة بالوضع الطبقي للفرد. من هنا يؤثر ويتأثر به وفقا له.
لقد ترسّخت ثقافة الطائفية السياسية شيئاً فشيئاً في الوعي الجمعي، والممارسة السياسية للنخب السياسية والاجتماعية في لبنان.على المستوى الأيديولوجي، أصبحت الطائفية السياسية استجابة غير مباشرة لتحدٍّ انبثق وينبثق من رحم الظروف التي وُلد فيها الكيان اللبناني أولاً، وبدلا من إصلاح الخلل القائم في بنية النظام، تكرّس الأمر. وبالتالي، لا يمكن اعتبار تشكيل لبنان الكبير، سواء من جانب خصومه أو محازبيه، أكثر من تركيب استعماري فرنسي تمت المبادرة إليه بتواطؤ فعّال من النخب الإقطاعية المتنفذة آنذاك من مختلف الطوائف ولصالحها. وفي حين أن أسباباً مختلفة كانت هي الدافع لذلك، فقد هدف الفرنسيون إلى توفير وطن شبه قومي للمسيحيين في الشرق الأوسط، ذي الغالبية المسلمة. وقد اعتبرت بعض النخب المعنية هذه المغامرة تتويجاً لمشروع أمّة لبنانية كانت قيد النضج منذ أمد طويل، لكن ذلك لم يحل مطلقا مشكلة العلاقة الغامضة بين القومية اللبنانية والطائفية السياسية .أما فرنسا، التي كانت في خضم تنافسها المتفاقم مع بريطانيا العظمى، فقد كان دافعها هو تحقيق مصالحها الجيوسياسية. وهي سعت لأن تكون لها طليعة في بلاد الشام، من شأنها أن تسمح لها بطرح أيديولوجيتها، جنباً إلى جنب مع سياسة حماية الأقليات. من هنا، فإن إنشاء لبنان لم يأخذ شكل تطور نشوء الدولة بفعل التداخلات الأجنبية فيه، وخاصة (الأم الرؤوم ـ كما يسميها بعض اللبنانيين) فرنسا.
من زاوية أخرى، فإن تحليل أوضاع ما يجري في بلدان عربية عديدة، كما في لبنان بشكل خاص، يتوجب أن يؤخذ العامل الإسرائيلي فيه بعين الاعتبار. فهرتزل رسم حدود دولته حتى نهر الليطاني في لبنان، وهذا ما أكّده بن غوريون وجابوتنسكي عام 1947، وقُدمت حدود الدولة الصهيونية رسميا إلى مؤتمر باريس للسلام سنة 1922 وجرت الموافقة على ذلك. من المصادر المهمة للمخططات الصهيونية بخصوص لبنان، مذكرات موشي شاريت، وكتاب ليفيا روكاش «إرهاب إسرائيل المقدس» و جاء فيه عن بن غوريون قوله «إن هذا هو الوقت المناسب لدفع المارونيين في لبنان للمطالبة بإنشاء دولة مسيحية». وأخذ يسرد المبررات التاريخية لبناء لبنان خاص، والحصول على المال، إذا لم يكن من الخزينة العامة فمن عند الوكالة اليهودية! لتحقيق مثل هذا المشروع، من الممكن صرف مئة، ألف، نصف مليون أو مليون دولار. وعندما سيتحقق هذا سيحدث تغيير حاسم في الشرق الأوسط، وستنفتح مرحلة جديدة». ويقول موشيه شاريت «من الواضح أن لبنان هو أضعف نقطة في الرابطة العربية، وأن الأقلية المسيحية لا تؤثر بشكل جدي على وحدة العرب السياسية والقومية. المسيحيون يشكلون أغلبية في لبنان التاريخي ولهذه الأغلبية تقاليد وثقافة تختلف عن تقاليد وثقافة باقي مكونات الجوار العربي. ليس المسلمون أحرارا في القيام بما يحلو لهم، إن ما نفعله مسألة طبيعية، لديها جذور تاريخية وسيجد الدعم بين أوسع الدوائر في العالم المسيحي، سواء منه الكاثوليكي أو البروتستانتي». المقصود القول: إن دولة الكيان الصهيوني حريصة على التدخل في لبنان بكافة الوسائل والطرق لتفتيته من الداخل واللعب على تناقضاته، وكم من مرة هاجمته عسكريا، وعملت على إيجاد دولة عميلة لها في جنوب لبنان عبر الخائنين أنطوان لحد وسعد حداد وغيرهما، وهي سبق أن احتلت بيروت عام 1982. لذلك على الرغم من ورقة الحريري الاقتصادية، ومهما ستسفر عنه الأمور، فإن الصراع الأساسي في لبنان هو طبقي بامتياز.. اما الصراعات الأخرى فهي تفرعات على هامشه.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رجا فرنجية:

    ألشكر للدكتور فايز رشيد على شرحه ألكامل لحقيقة واصل ألصراع في لبنان واسبابه. وكما أشار بأن ألمشكلة ألرئيسية لفساد نظام الحكم في هذا البلد هو قيام ألنظام على ناحيتين سلبيتين هي الإقطاع السياسي والديني. أن مشاركة جميع ألطوائف في أنتفاضة عامة ومستمرة بهذه ألقوة هي بادرة أمل بأن لبنان سيعيد تنظيم ألأنتخابات وايجاد نظام حكم بعيداً عن ألطائفية وألأقطاع ألسياسي كباقي دول العالم.

إشترك في قائمتنا البريدية