حروب الرموز

ثورتان شهدتهما مصر في ثلاث سنوات، ألف يوم من الكر والفر، كثير من الدماء الحقيقية جرت، لكن النتائح حتى الآن افتراضية!
انتصارات خيالية يحرزها المنتصرون، أما الخسائر فواقعية، القتلى والمصابون حقيقيون والتدهور حقيقي كذلك.
اختار الشباب 25 يناير 2011 يومًا للاحتجاج على نظام مبارك لضرب الشرطة في رمزها الأعز؛ فهو اليوم الذي قاتلت فيه جيش الاحتلال الانجليزي في مدينة الإسماعيلية عام 1952، أي قبل أشهر من قيام الجيش بانقلابه المبارك الذي سرعان ما صار ثورة بسبب إنجازاته الحقيقية.
اختيار التاريخ كان هجائية بليغة تجرد الشرطة من يوم مجدها وتبعث برسالة محددة: ‘لا نتذكر لكم من الأفضال إلا ذلك اليوم البعيد وسنجردكم منه ونثبت صورة جديدة لشرطة عدوة لشعبها’.
قبل أن يستهدف المحتجون الشرطة في أعز أيامها، كانت هزيمتها في ضمير الناس قد وقعت على يد نظام فاسد ألقى عليها بكل أعباء استقرار النظام عنوة، وكان الاحتفال بيوم الشرطة في سنوات مبارك الأخيرة أشبه بعرض كوميدي لا يضحك أحدًا.
انهارت الشرطة في يناير 2011 بسرعة لم يتصورها أحد، لكنها سرعان ما استعادت قوتها وواصلت سيرتها القمعية الأولى خلال ثلاث سنوات مليئة بالأسرار والمؤامرات. مذابح حقيقية تمت للمتظاهرين، بل ولمشجعي الكرة، وعمليات اغتيال سياسي وموت في معسكرات الاحتجاز. من قتل كل هؤلاء؟
الأمر ظل سرًا، وربما سيبقى كذلك إلى الأبد. تلقى مسؤولية الاغتيالات إلى طرف غامض صار مشهورًا في الأدبيات المصرية بـ ‘الطرف الثالث’ لكن ذلك الطرف ظل سرًا كذلك، وكل سر لا ينجلي تتحمل الشرطة عبئه بالضرورة، إن لم يكن بارتكابه فعلى الأقل بالفشل في كشف الطرف الذي ارتكبه.
لكن الشرطة نالت فرصتها لاسترداد رمزها في الشهور الأخيرة من حكم الجماعة، مع تزايد مظاهرات الاحتجاج بدأت التململات داخلها في شكل حركات تعلن التزامها بتأمين المحتجين بدلاً من ترويعهم، ولم تصل الشرطة إلى الثلاثين من يونيو إلا وقد استردت رمزها مكتملاً.
‘ ‘ ‘
30 حزيران/يونيو لم يكن رمزًا قديمًا للإخوان بل ذكرى مرور عام على تسلمهم السلطة. رمز لم يأخذ فرصته ليتعتق. سنة واحدة كانت كفيلة بمصالحة غالبية المصريين على الشرطة ، على الرغم من أن هذه الشرطة ظلت شرطة السلطة طوال ثلاث سنوات خططها وأدارها المجلس العسكري والإخوان معًا بصرف النظر عمن ظهر على الكرسي أولاً أو تاليًا.
المدهش أن عناصر دولة مبارك في الإعلام (كل الإعلام تقريبًا) لم تكتف بالاطمئنان على استعادة الشرطة لرمزها من ثورة 25 يناير، بل تمادت وقررت مطاردة الثورة ذاتها. هكذا خرج من يفتي بقلب مطمئن أن 25 يناير لم تكن ثورة، بل مؤامرة أوصلت الإخوان إلى الحكم، والثورة الحقيقية هي ثورة 30 يونيو التي أزالتهم، وفي هذا الشأن هناك تنظيرات لا يستسيغها مبارك؛ فالرجل نفسه يعلم أن ما جرى ضده كان ثورة، بل إنه تنبأ بها منذ 2005 ويبدو أنه، بعدمية مطلقة أو بانعدام إرادة، ترك نفسه ينحدر نحو النهاية!
من حق الشرطة الآن أن تنتظر يناير القادم لتحتفل برمزها المستعاد، ولن يعترض أحد على الاحتفالات، لأن الشرطة ليست هدفهم، بل الجيش الذي قال الكلمة الأخيرة في 30 يونيو، رغم أن الكلمة الأخيرة كانت كلمته كذلك عندما خلع مبارك ولم يعترض أحد!
‘ ‘ ‘
وجاءت ذكرى نصر تشرين/اكتوبر، وكان على فصيل الإسلام السياسي المسلح أن يجتهد في الهجاء، وعلى الجيش أن يدافع عن رمزه!
جنبًا إلى جنب مع العمليات الإرهابية ضد ضباط وجنود الجيش في سيناء، واستهداف وحدته بالشائعات، جرى التحضير للحرب الافتراضية حول الرمز الأبهى. يجب أن ينسى المصريون ذكرى اقتحام أقوى مانع مائي على ضفة القناة، لأن اقتحام ميدان التحرير أهم من تحرير بيت المقدس حسب رؤية أحد الدعاة، ذلك لأن احتلال الميدان يعيد محمد مرسي، وتحرير بيت المقدس يمر عبر عودة مرسي وليس العكس.
والجيش في المقابل متمرس على الاحتفال بالنصر لمدة أربعين عامًا، وفي كل عام يستمتع المصريون بيوم عطلة صريحة لا يشعرون فيه بتأنيب الضمير الذي يشعرون به في العطلة المراوغة التي يقضونها يوميًا في مكاتب لا يفعلون فيها شيئًا، وفي كل عام يشاهدون الأوبريتات التي ينحدر مستواها عامًا بعد عام. ولم تمر الذكرى الأربعون على خير. أريقت في حرب الرموز الجديدة دماء جديدة حقيقية، وازدادت البلاد حزنًا في ذكرى نصر أكتوبر ولم تخرج منها إلا إلى ذكريات نوفمبر الأكثر طزاجة والأكثر تعددًا والتباسًا.
نوفمبر 2011، هو شهر الاشتباكات بين التيار الثوري والبلطجية والشرطة تحت أعين الجيش إثر الاعتداء على أهالي الشهداء المعتصمين في التحرير، وقد أنكر مجلس الشعب الإخواني دم الثوار حيث كانت المصاهرة مع المجلس العسكري لم تزل قائمة، ونوفمبر 2012 هو شهر الإعلان الدستوري الذي حصن فيه مرسي قراراته السابقة والآتية في علم الغيب، وهو شهر بدء محاكمته كذلك، فأي رمز سيختار الفرقاء، وبأي نوفمبر سيحتفلون؟!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ahmed:

    مبروك على جيش السيسي انتصاراته فى تشديد الحصار على غزة.

  2. يقول حسين فرنسا:

    ضيع المصريون فرصتهم الذهبية للالتحاق بالدول الديمقراطية مثل السودان في الثمانينات والجزائر في التسعينات نحن شعوب لم نتخلص من عقدة اوديب نبحث عن اب يعطف علينا و يجلدنا لنطيعه و نثني عليه حنانه و محبته لنا

إشترك في قائمتنا البريدية