حرب غزة وفضيحة الديمقراطية الغربية

وسط تطوراتٍ تنذر باتساع نطاق الحرب الوحشية الدائرة على غزة، لتشمل أطرافاً وبلداناً إقليمية أخرى، وأعني هنا بالتحديد القصف الأنكلو-أمريكي لليمن والمناوشات الساخنة بين قوات الكيان المحتل وحزب الله، فثمة تطوراتٌ أخرى، إيجابية على مستوى المساعي، والمبادرات السياسية، والمفاهيم والتساؤلات. أعلم وأقر بأنه من الصعوبة بمكان إيراد كلمة «إيجابي» في خضم هذه المحرقة، إلا أنني أنطلق من قناعةٍ تؤكدها سوابق تاريخية بأن الحروب والمحن العظيمة، غالباً ما أثبتت أنها مخاضاتٌ عظيمة أيضاً، حيث تتحدى القناعات الراسخة وتولد أفكاراً حديثة وتشكل محفزاً لبداياتٍ جديدة.
والشاهد أن الحرب على غزة لم تزل تقوم بدور المحفز والكاشف بصورةٍ مستمرة، ولئن كتبت في ما قبل عن فضحها وإحراجها لأنظمة الصدأ والشواهد الرخامية، أي الأنظمة العربية، فإنها على صعيدٍ آخر، عالمي وإنساني هذه المرة، قد فضحت الديمقراطيات الغربية والنظام العالمي على شكله الحالي، آخذين بعين الاعتبار أن ثمة شواهد عديدة على تآكله وربما إيذان بزواله.

حرب غزة على وحشيتها، ستؤرخ لبداية تغير واسعٍ وعميقٍ على مستوى العالم، يصعب الآن التنبؤ بحجمه وانعكاساته ولعل ذلك ما يفسر مخاوف الأنظمة العربية والغربية على حد سواء

منذ البداية المبكرة للصراع، اصطفت «الديمقراطيات» الغربية مباشرةً، ودون تردد إلى جانب إسرائيل في تعارضٍ صارخ مع حركات الاحتجاج الحاشدة، التي لم تلبث أن انفجرت في عواصم تلك الدول، ولئن خفف بعضها من نبرة دعمه لإسرائيل وحدة إدانته تحت ضغط الشارع والكم المهول من الشهداء والدمار، فإن الأسئلة التي أثارها ذلك الموقف، الذي لا نتردد في وصفه بالضعة والانحطاط عن طبيعة هذه الديمقراطية التي يتشدق بها الغرب، ويزايد ويخول بها لنفسه أن يكون حكماً على الآخرين، كما أنه فضحها أمام العالم، خاصةً شعوب الدول غير الديمقراطية التي ربما كانت تنظر لهم بإكبارٍ وانبهار، حيث لا تستطيع أن توائم بين دعاوى المبادئ وذلك الدعم غير المشروط (على الأقل في البداية) لماكينة القتل والإبادة والدمار.
مع انتصارنا للديمقراطية والتعددية السياسية، وتدوال السلطة من حيث المبدأ، فلا أتردد أيضاً في الترحيب بتلك التساؤلات المحقة تماماً وربما المتأخرة، إذ أنها تعيد الاعتبار إلى الأطروحة القديمة التي تبناها اليسار عن الفارق بين الديمقراطية الشكلية والمضمون الاجتماعي للديمقراطية.
في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم، سادت حالة من النشوى وتعاظم الاحتفاء بالنموذج الأمريكي، حتى نُسي الكلام القديم، إلا أن أزماتٍ، كالحرب الحالية، ومهازل الحياة السياسية الأمريكية المأزومة بعمق (بما يتعدى موضوع المقال) أعادت التركيز على المنحى الرئيسي لهذه الديمقراطية الغربية، وتحديداً الأنكلو- أمريكية: إنها ديمقراطية البورجوازية الحاكمة؛ هي وسيلةٌ لإدارة الصراع بين أجنحة الطبقة الحاكمة ومصالحها المختلفة، ولا نبالغ إذ نقول إن أحد أهدافها الأساسية هي احتواء الطبقة العاملة، وربما تقديم تنازلاتٍ لها من حينٍ لآخر، للحيلولة دون تصاعد حدة الصراع الطبقي والثورات. لا يعني ذلك أنها في سوء ديكتاتوريات العالم الثالث، كالتي تحكم بلداننا، فالموضوع في النهاية نسبي إلا أن الأكيد أنها بعيدة عما تزعمه من الشفافية، وأن سياساتها الخارجية تخدم في الأساس، إن لم يكن حصراً، مصالح الطبقة الحاكمة الاستغلالية. لا أبالغ أيضاً إذ أقول إن ثمة وعياً ناشئاً بين الطبقات العاملة والمستغلة في هذه البلدان نفسها، بدرجاتٍ متفاوتة بالطبع، بحقيقة قصور تلك الديمقراطية الشكلية وتململاً بها، خاصةً على ضوء ألسنة اللهب التي تأكل غزة وشعبها؛ ولا يفوتنا في هذا السياق أن نشير، مشيدين محتفين، بموقف وتحرك جنوب افريقيا الرائع، لدعم القضية الفلسطينية إذ يكشف ويؤكد على ما ذهبنا إليه من بداية انفلات الخيوط من يد أمريكا وتمرد الأطراف عليها.
باختصار، نحن نعيش بدايات مرحلةٍ جديدة في تاريخ العالم والبشرية يتخطى فيها الواقع كل العلاقات والأطر القائمة؛ على صعيد الدول فهناك عمالقة يصعدون ويتحالفون متبرمين رافضين للهيمنة الأمريكية، مطالبين أو سالبين لمواطئ أقدامٍ على الخريطة، وما يتفق مع أوزانهم وثقلهم الحقيقي الاقتصادي والعسكري على الأرض وفي طليعتهم الصين؛ أما على صعيد الغرب فقد بليت الأطر التقليدية، ولم تعد تعبر عن الواقع أو تلبي احتياجاته وتطلعات الشعوب.
لن أسأم من تكرار أن هذه الحرب، على وحشيتها، ستؤرخ لبداية تغير واسعٍ وعميقٍ على مستوى العالم، يصعب الآن التنبؤ بحجمه وانعكاساته ولعل ذلك ما يفسر مخاوف الأنظمة العربية والغربية على حد سواء، إلا أن قناعتي الشخصية أن السهم قد أفلت وبدأت تروس عملية التغيير في الدوران، بحيث بات من الصعوبة إيقافها ومن المستحيل العودة إلى الوراء.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية