حرب العالم المنسية

كانت حرب أوكرانيا ملء السمع والبصر، ثم لم يعد أحد يذكرها اليوم إلا لماما، السبب طبعا في هجوم «طوفان الأقصى» الفريد، وما تبعه من تداعيات حرب الإبادة الجماعية لأهل غزة، ووقائع الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وسط شلال الدماء وزلازل الدمار، والإبداع القتالي المذهل لجماعات المقاومة الفلسطينية في إذلال جيش الاحتلال، كل هذه المآسي والبطولات صارت سيدة المشهد، وأزاحت مستجدات حرب أوكرانيا إلى بعيد، رغم أن حرب العالم المنسية لنحو ثلاثة شهور، شهدت تطورات ساخنة، تكاد تؤذن بنهاية ناطقة، فلم يعد أحد يجادل في حقائق هزيمة الغرب في الميدان الأوكراني، والفشل الذريع لما أسمي بالهجوم المضاد، والإخفاق الكامل لواشنطن وأخواتها، وانقلاب الموازين لصالح روسيا والرئيس فلاديمير بوتين، فيما انزوى الرئيس الأوكراني زيلينسكي على عتبات الذهاب إلى حيث ألقت.

كانت خطة واشنطن، أن تحول أوكرانيا إلى ساحة استنزاف وإنهاك للروس، وإلى «أفغانستان ثانية» لموسكو، قد تقود إلى زعزعة حكم بوتين، وهو ما يحدث عكسه اليوم

وكانت بوادر التحول ظاهرة للعيان، حتى قبل أن تغيب حرب أوكرانيا عن دائرة الضوء الإعلامي منذ السابع من أكتوبر الماضي، كانت موسكو قد أعلنت وقتها عن دحر الهجوم المضاد، وكانت دوائر الغرب لا تزال تتلعثم، وتتحدث عن تعثر الهجوم المضاد لا عن فشله، واليوم تغيرت الصورة، واعترف ينس ستولتنبرغ أمين عام حلف شمال الأطلنطي (الناتو) بالفشل، وقال في كلمات مريرة «علينا أن ننتظر أخبارا سيئة» تأتي من أوكرانيا، وقد عاجلتهم الأخبار الأسوأ، فقد انتهى الهجوم المضاد تماما، وكان قد بدأ أوائل يونيو 2023، بعد تدرج في تسمياته المتلكئة، من هجوم الربيع إلى هجوم الصيف، مصحوبا بأماني غربية روجت لسحق القوات الروسية، واستعادة أوكرانيا لمقاطعات الشرق والجنوب، التي ضمتها روسيا، إضافة إلى شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا بضربة خاطفة عام 2014، وعادت تستأنف الحرب بعد ثماني سنوات، عبر ما سمته موسكو «عملية عسكرية خاصة»، بدأت في 24 فبراير 2022، وكانت الوقائع العسكرية في عام الحرب الأول مغرية للغرب، الذي قدم لأوكرانيا مئات المليارات من الدولارات، ودفع إلى الميدان الحربي بطوفان أسلحة متطورة، وبهدف معلن، هو استنزاف روسيا وربما تفكيكها، مع فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة عالميا، بلغ عددها نحو 15 ألف عقوبة، فيما بدت القوات الروسية على الأرض مأزومة، كانت توالت تراجعاتها من حول العاصمة الأوكرانية كييف في الأسابيع الأولى للحرب، وحتى الضربة المفاجئة للمعسكر الغربي من وراء القناع الأوكراني، التي اضطرت روسيا لانسحاب عشوائي من شرق مقاطعة خاركيف، ثم لانسحاب بدا منظما نسبيا من غرب مقاطعة خيرسون، وربما لم ينقذ ماء وجه روسيا في نهايات العام الأول سوى معركة السيطرة على مدينة باخموت في إقليم الدونباس، وقبلها في مدينة سوليدار الأصغر، وكان البطل في المعركتين الداميتين واحدا، هو «جماعة فاغنر» ورمزها الشهير يفجيني بريغوجين، وبعد «مفارم اللحم» القاسية في المدينتين بأسابيع، لقي زعيم «فاغنر» مصيره المعروف في حادث طائرة بدا مدبرا، بعد أن أغوته النجاحات العسكرية بسعي إلى نفوذ سياسي يناوئ بوتين، الذي أبدى صبرا ودهاء، مع ما قيل إنه انقلاب «فاغنر»، وإلى أن نجح في احتواء مقاتلي «فاغنر»، واستعادة هيبة الجيش الروسي، وكما بدا الجيش في البداية مستهترا بجدية المقاومة الأوكرانية، وبدا بوتين نفسه سيئ التوقع لحدود الدعم الغربي، ولتدفق السلاح بغير حدود، فقد راحت روسيا مع نهايات العام الأول للحرب، تراجع تقديراتها وأوضاع جيشها، فيما ذهب سوء التقدير إلى الجانب الآخر، وسرت في الغرب نزعة استهتار بالجيش الروسي، إلى حد وصفه إعلاميا بالجيش الثاني في ميدان أوكرانيا، ثم بالجيش الثاني في روسيا نفسها، بعد جماعة «فاغنر»، كانت السخرية زاعقة من الجيش الروسي الثاني في الترتيب العالمي، والأول في القوة النووية والصاروخية بعيدة المدى، وكان على بوتين أن يستجمع خلاصة خبرة روسيا في حروبها التاريخية الكبرى، فالروس كانوا ينهزمون في الجولات الأولى، ثم يكون النصر لهم في الدور النهائي، على طريقة ما جرى في حملة نابليون لغزو روسيا أوائل القرن التاسع عشر، وفي عملية «بارباروسا» الهتلرية أوائل أربعينيات القرن العشرين، وكانت الهزيمة الأخيرة من نصيب نابليون وهتلر، ربما لأن استفادة روسيا من دروس الهزائم التكتيكية بدت ظاهرة في الحالين، وبما ظهر أيضا في وقائع حرب أوكرانيا، وهي حرب ذات طابع عالمي، واجهت فيها روسيا حربا من تحالف ضم نحو خمسين دولة، واستشعرت خطرا على وجودها ووحدتها بعد بوادر الانتكاس الحربي المبكر، وراحت تعيد تنظيم قواتها في أوكرانيا، وتبني خطوط دفاع غير مسبوقة في قوة تحصيناتها، عرفت باسم الجنرال الروسي سيرجي سوروفيكين، وثبت مع الهجوم الغربي المضاد أنها لا تقهر ولا تخترق، وجرت إعادة بناء للمشهد العسكري الروسي، وتعاملت القوات مع نهر دنيبرو كمانع طبيعي وخط حدود موقوت، ورغم التدفق الغربي الهائل بأسلحة هجومية متطورة، والدفع بأحدث الدبابات الغربية ـ «ليوبارد» و»تشالنجر» و»أبرامز» وغيرها ـ إلى ساحات القتال، وتزويد أوكرانيا بالصواريخ الباليستية بعيدة المدى «ستورم شادو» و»سكالب» و»أتاكمز» وغيرها، وتعزيز التخطيط العسكري بجنرالات بريطانيا وأمريكا وفرنسا الكبار، إضافة لعشرات الآلاف من العسكريين الغربيين من وراء لافتات «الفيالق الأجنبية» المتطوعة، والخدمات المعلوماتية اللحظية، عبر مئات الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية، وإشهار عمل أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية في الداخل الروسي، رغم كل هذا الحشد المحموم في الهجوم المضاد، فإن النتائج جاءت صادمة لدوائر الغرب كلها، فقد دخلت في سباق سلاح مع روسيا خسرته وتخسره بامتياز، بدت التعبئة الروسية على نحو لا ينافس، وعملت مصانع السلاح الروسي بكامل طاقتها، وبثلاث ورديات في اليوم، وبدا السباق محسوما لصالح روسيا، التي صارت تنتج وحدها سبعة أمثال ما ينتجه الغرب كله من الذخائر والمدرعات، وحتى الصواريخ والطائرات المسيرة، ووسط السباق المرعب، جرى دهس أمل أوكرانيا في التقدم على الأرض، وبلغت خسائر الجيش الأوكراني نحو 400 ألف جندي قتلوا في الحرب إلى اليوم، وراحت القوات الروسية تنصب الفخاخ ومصائد القتل للأوكرانيين، على نحو ما بدا في قرية رابوتيني في مقاطعة زاباروجيا، وفي قرية كرينكي على الشاطئ الشرقي لنهر دنيبرو في مقاطعة خيرسون، ورغم «لسعات نحل» عابرة مؤذية، دفع الغرب أوكرانيا إليها في مطارات وموانئ القرم وبيلغرود وروستوف، وحتى في موسكو وضواحيها، فإن محصلة القتال بدت ظاهرة، فلم يتزحزح الجيش الروسي خطوة فارقة إلى الخلف، وبدت تحصيناته عصية، ثم لجأ بعد استيعاب وامتصاص قوة اندفاع الهجوم المضاد إلى هجمات معاكسة، تداعت عناوينها في القضم شبه الكامل لمدينتي أفدييفكا وماريينكا، مع التحول بالحشد المستعد للهجوم إلى غرب باخموت شمالا وجنوبا، إضافة للتقدم الحثيث على جبهات كريمينايا وكوبيانسك، في ما يبدو أنه تجهيز لهجوم روسي منتظر باتجاه كراماتورسك وسلافيانسك المدينتين الكبريين غرب مقاطعة دونيتسك الباقيتين بيد الأوكران، فيما شارفت على النفاد قدرة كييف على التعبئة والتجنيد، وأصاب الملل الغرب من الإرهاق العسكري والاقتصادي، وضعفت شهية واشنطن لدفع المزيد من مئات مليارات الدولارات، فقد كانت خطة واشنطن المعلنة، أن تحول أوكرانيا إلى ساحة استنزاف وإنهاك للروس، وإلى «أفغانستان ثانية» لموسكو، قد تقود إلى زعزعة حكم بوتين، وهو ما يحدث عكسه بالضبط اليوم، فقد تحولت أوكرانيا وحربها إلى ميدان استنزاف للغرب، ونجح الجلد الروسي في تصدير الهزيمة للغرب، وتكاد أوكرانيا تتحول إلى «أفغانستان ثانية» للأمريكيين لا للروس، وقد ذهب زيلينسكي إلى واشنطن قبل أسبوع، وكان يطمع في الحصول على تمويل إضافي سخي يفوق الستين مليار دولار، واكتفى الرئيس الأمريكي بايدن بمنح أوكرانيا فتاتا عسكريا بقيمة 200 مليون دولار لا غير، فلا أحد في واشنطن عاد يراوده حلم هزيمة روسيا عسكريا، ولا عزلها دوليا، بعد أن نهضت موسكو بتحالف وثيق مع الصين، وبتوسيع جماعة «بريكس» الاقتصادية، وبفتح أسواق جديدة للبترول والغاز الروسيين عوضا عن أسواق أوروبا، التي راحت تشتري البترول الروسى عبر وسطاء كالهند وغيرها، وتدعم الاقتصاد الروسي المنتعش، وتتحول بالاقتصاد الروسي إلى النمو الإيجابي مجددا، وبنسبة معقولة، بلغت 3.5% سنويا، وهو معدل تنمية لا تحلم به اقتصادات الغرب المنهكة، فقد انقلب السحر على الساحر، وانتصر الصبر الاستراتيجي الروسي، وراح يفرض معادلاته الجديدة في شرق آسيا وفي أمريكا اللاتينية وفي قلب افريقيا وعندنا أيضا، فيما تتداعى هيمنة أمريكا في عالم زاحف على خطوط الدم.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية