تنقسم المعرفة إلى ثلاثة أقسام، المعرفة العادية التي يحصل عليها الإنسان من وجوده في مجتمع معين، يستمع لحكايات وتجارب ونصائح من أقرانه، أو من الذين يكبرونه في العمر علاوة على تلقينه أسس الدين والمهن، ولهذا تسمى الحياة الاجتماعية مدرسة حقيقية. وتوجد المعرفة المكتسبة عن طريق التعليم وهي الذهاب إلى المدرسة، حيث يتلقى الإنسان نوعية من المعلومات، وفق برامج مخطط لها، تؤهله للعمل مستقبلا في مهنة معينة، تجعل منه عضوا بارزا في المجتمع، أي من النخبة أو إنسانا عاديا. وتوجد المعرفة التي يكتسبها المواطن من وسائل الإعلام، ولا تقل أهمية عن المدرسة، وإن كانت في بعض الأحيان تتجاوزها عندما ينتهي الإنسان من المرحلة الدراسية وينخرط في العمل، وتصبح وسائل الإعلام مصدرا رئيسيا للمعلومات وبالتالي المعرفة. وتعني كذلك الركيزة الثالثة، وهي اكتساب المعرفة عبر وسائل الإعلام، تشكيل الرأي العام.
وهذه الأنواع الثلاثة من آليات الحصول على المعرفة، تلعب دورا رئيسيا في تكوين شخصية المواطن، وبالتالي ترسم المعالم الحقيقية لشخصية الشعب برمته. ولا يمكن فهم شخصية شعب من دون هذه الركائز الثلاث، إضافة إلى معطيات أخرى مثل الأحداث الكبرى التي تمر منها البلاد مثل الحروب والأزمات الاقتصادية الصعبة وموقعه الجغرافي ونوعية الموارد التي يتوفر عليها.
العالم يعرف تشكل خريطة جيوسياسية جديدة، لهذا أنشأت دول مثل روسيا في صراعها مع الغرب سبوتنيك. وتعمل الصين على تقليدها، بل حتى بعض الدول الصاعدة مثل تركيا بقنواتها الإعلامية المتعددة
من جانب آخر، تتعدد مفاهيم الأمن القومي، منها الغذائي والعسكري – الأمني وكذلك الثقافي – الإعلامي، إذ لا يمكن تأسيس أمن قومي شامل بمعزل عن المعلومات التي يتوصل بها المواطن يوميا، وتجعل مواقفه وآراءه تتشكل حول قضايا وطنية ودولية. ويكفي الاطلاع على نتائج استطلاع الرأي لشعب ما حول قضايا معينة لرسم صورة تقريبية عن شخصية هذا الشعب، ومدى طموحاته وكذلك مستوى مقاومته للأزمات والصدمات. والحديث عن الرأي العام يجر مباشرة إلى الحديث عن وسائل الإعلام، لأنها الآلية الرئيسية لتشكيل آراء المواطنين، ويمكن وصف الإعلام بأنه مدرسة أو جامعة مفتوحة تعطي الدروس يوميا للمواطنين، وهنا الأهمية والخطورة في آن واحد، أي معلومات تنشرها وسائل الإعلام؟ ثم هل وسائل الإعلام المحلية كافية لتلبية حاجيات المواطن في الإعلام؟ أم يلجأ إلى وسائل الإعلام الأجنبية التي تخضع في الكثير من الأحيان لأجندات محدد؟ وعليه، تاريخ الإعلام في معظمه هو تاريخ الإعلام الغربي، إذ أن التفوق العسكري والاقتصادي، وجد انعكاسا له في التفوق الإعلامي. وهذا طبيعي بحكم ظهور المطبعة في الغرب، وظهور الجرائد الأولى في الغرب، ثم إن تطور وسائل التواصل من الصورة والتلغراف والتلكس والهاتف والفاكس والتلفزيون حتى شبكة الإنترنت هي صناعة غربية بامتياز. وحتى الأمس القريب كان الإعلام الغربي هو مصدر معظم أخبار العالم، فهو يتوفر على أكبر الجرائد بشتى اللغات مثل «نيويورك تايمز» و»واشنطن بوست» و»لوموند» و»دير شبيغل»، وعلى أكبر قنوات التلفزيون مثل «سي أن إن»، وأساسا يمتلك أهم أداة إعلامية وهي وكالات الأخبار، المصدر الذي يوزع الأخبار. يعود ظهور وكالات الأنباء إلى الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، وكانت أول وكالة حقيقية هي الفرنسية «هافاس» سنة 1832، بداية التوسع الاستعماري في العالم. ثم ظهرت أسوشيتد برس سنة 1846، وكانت تلبية للحاجيات الإعلامية لوسائل الإعلام الأمريكية وليس لأهداف استعمارية. ولاحقا ظهرت وكالة الأنباء رويترز سنة 1851، ثم ظهرت وكالات أخرى مرتبطة بمختلف الدول الأوروبية الاستعمارية. ورافقت هذه الوكالات عمليات التوسع الكبرى لأنها كانت ضرورية في نقل الأحداث السياسية والاقتصادية أساسا، لأن الاستعمار في آخر المطاف هدفه اقتصادي، استغلال ثروات دول الأخرى والسيطرة على أسواقها لبيع المنتوجات. وكما سيطرت الجامعات الغربية على إنتاج المعرفة وساهمت في تقدم دولها، لعبت وكالات الأنباء دورا رئيسيا في تشكيل الرأي العام العالمي ومساعدة الدول الاستعمارية. وسنقدم مثالا لفهم ما نطرحه بشكا أعمق، وكالة فرانس برس وكذلك رويترز كانتا دائما ما تصفان حركات التحرير قبل منتصف القرن العشرين بأنها حركات إرهابية متوحشة تهاجم الحضارة الغربية، وما زال هذا الخلل نسبيا في التعاطي مع المقاومة الفلسطينية في الوقت الراهن، بوصفها أحيانا بالإرهاب. في الوقت ذاته، تاريخ الوكالات اقتصر في الماضي على إبراز دور الدول الغربية كناقلة للحضارة إلى مناطق أقل حاضرة في آسيا وافريقيا. لقد كانت صوت الدول الاستعمارية، ونتج عن هذه الاستراتيجية الإعلامية أن الرأي العام الغربي لم يكن يتعاطف مع حركات التحرر الراغبة في الحرية والاستقلال، وكانت تصل صورة مشوهة عن بعض حركات التحرير الافريقية إلى مناطق تعتبر نظريا محادية مثل، أمريكا اللاتينية. وكل دراسة علمية تعتمد منهج الكم والكيف والتحليل للأخبار، التي كانت تبثها وكالات الأنباء مثل رويترز وفرانس برس ستبرز هذه الاستراتيجية الاستعمارية.
لقد كانت الدول الغربية دائما واعية بالإعلام كسلاح، وجاء إنشاء القسم العربي إذاعة «بي بي سي» سنة 1939 كرد فعل على إنشاء نظام موسيليني في إيطاليا «صوت روما» وكذلك ألمانيا النازية راديو برلين باللغة العربية، حيث كان موجها إلى العالم العربي. وكانت النازية والفاشية تحظى بترحيب عربي لأن خطاب الإذاعتين كان ضد فرنسا وبريطانيا، القوى الاستعمارية. وكما سعت الدول الغربية إلى الحفاظ على هيمنتها الثقافية من خلال تكوين أطر من المستعمرات السابقة في مختلف المجالات، بقيت مرتبطة بها، سعت إلى السيطرة الإعلامية على الرأي العام في المستعمرات، ونتحدث هنا عن الجنوب. في هذا الصدد، جاء إنشاء الأقسام الإعلامية بمختلف اللغات مثل القسم العربي لمعظم الوكالات الكبرى، حيث أسست وكالات الأنباء مثل فرانس برس ورويترز ودي بي الألمانية وأنسا الإيطالية، وحتى إيفي الإسبانية أقساماً بالعربية، ما زالت هي مصدر نسبة عالية من الأخبار لوسائل الإعلام بما فيها العربية، حتى وقتنا الراهن، ومنها وسائل إعلام ضخمة ذات إمكانيات مثل «الجزيرة»، وبعد وكالات الأنباء ظهرت الأقسام العربية لقنوات التلفزيون مثل فرانس 24.
العالم يعرف تشكل خريطة جيوسياسية جديدة، لهذا أنشأت دول مثل روسيا في صراعها مع الغرب سبوتنيك بعشرات اللغات. وتعمل الصين على تقليدها، بل حتى بعض الدول الصاعدة مثل تركيا بقنواتها الإعلامية المتعددة. وللجنوب ومنهم العرب دور مهم في الخريطة الجيوسياسية المقبلة، لكن لن تكتمل هذه الخريطة من دون تغيير جذري في الإعلام، ونعني إعلام اختيار وبث نوعية خاصة من المعلومات، وليس إعلام المواقف. طالما تستمر دول الجنوب ومنها العرب في الاعتماد بشكل كبير على رويترز وفرانس برس، لا يمكن الحديث عن تغيير عميق.. ونختتم بمثال، تشهد أمريكا اللاتينية تعاطفا كبيرا مع القضية الفلسطينية، هي المنطقة التي تقارن بين إسرائيل والنازية حاليا، ونظرا لقلة الخبراء العرب في هذه المنطقة، لا يصلنا سوى ما تجود به وكالتي فرانس برس ورويترز من أخبار حول مواقف المنطقة بشأن فلسطين. لو كان للعرب وكالة أنباء موحدة ومراسلين في أمريكا اللاتينية، بل حتى افريقيا وباقي مناطق العالم لكانت نوعية الأخبار مختلفة نوعا وكما، مختارة وفق مقاييس، ومصاغة وفق رؤية تخدم التحول الجيوسياسي الجاري.
كاتب مغربي