جنازة للعدل في حيفا

حجم الخط
0

توفي في الخامس عشر من الشهر الجاري قاضي المحكمة العليا الإسرائيلية المتقاعد سليم جبران ابن مدينة حيفا، وهو القاضي العربي الأول الذي شغل هذا المنصب بين السنوات 2004 ولغاية 2017، علما بأن القاضي الراحل عبد الرحمن الزعبي سبقه إلى هذه المحكمة عندما انتدب في عام 1990 كقاض في المحكمة العليا بتعيين مؤقت لمدة عامين، ثم جاء بعدهما القاضي المتقاعد جورج قرا بين السنوات 2017 ولغاية 2022، ثم تلاه القاضي خالد كبوب الذي ما زال يزاول عمله.
شارك في جنازة القاضي سليم جبران، الأحد الفائت في الكنيسة المارونية في حيفا، المئات من المواطنين والشخصيات العامة العربية واليهودية، برز من بينهم حضور لافت من المحامين والقضاة، لاسيما حضور عدد من قضاة المحكمة العليا السابقين والحاليين. وقام القائم بأعمال رئيس المحكمة العليا، القاضي عوزي فوغلمان، بإلقاء كلمة تأبين قصيرة ذكر فيها محطات من سيرة الراحل المهنية والشخصية، مؤكدا دماثة أخلاق الرجل ودوره في الدفاع عن القيم الإنسانية السامية، وحرصه على تثبيت مبدأي «سيادة القانون والمساواة»، خاصة بحق المواطنين العرب في إسرائيل.
كان تشديد القاضي فوغلمان على مبدأي سيادة القانون والمساواة لافتا؛ وأقترحُ قراءته ليس من باب إيفاء القاضي جبران، كقاض عربي حاول بمفرداته، وبما لديه من هوامش ضيقة الدفاع عنهما، وحسب، بل كرسالة مهمة أطلقها فوغلمان في الفضاء الإسرائيلي الراهن وفي خضم ما يجري من متغيّرات سياسية واجتماعية خطيرة تستهدف تقويض هذين المبدأين والقضاء على دورهما في نظم العلاقة بين المواطن، لاسيما العربي، وممارسات السلطة المركزية ومؤسساتها.

أن تكون مواطنا متساويا، وفق المفهوم الإسرائيلي المعدل الجديد، لا يعني بالضرورة أن تكون مواطنا حرا في اختياراتك وقراراتك وآرائك

لقد كان وقع كلام القاضي فوغلمان عليّ في الجنازة، فيما يخص مسألة المساواة، عبثيا؛ فقد عبّر فيه دون أن يقصد عن عناصر الأزمة التي عشناها كمواطنين عرب طيلة العقود الماضية من جهة، ومن جهة أخرى عن الأزمة التي تعيشها في هذه الأيام قطاعات واسعة من المجتمع اليهودي وداخل المنظومة القضائية، ممثلة بالمحكمة العليا التي تدافع عن مكانتها المهددة. فالانقلاب على الجهاز القضائي الذي شرعت به مركبات الحكومة الإسرائيلية الحالية، مبني على أيديولوجيات عنصرية تتبني مبدأ «الفوقية اليهودية» في الدولة اليهودية، وقد استقوت هذه الأيديولوجيات واستقت «شرعيتها» المتنامية بعد الانتخابات الأخيرة خاصة، من قرارات المحكمة العليا نفسها، التي شارك فيها القاضي فوغلمان، وأهمها إجازتهم «لقانون القومية» المنافي لمبدأي العدل في سلطة القانون والمساواة.
لطالما كانت قضية مساواة المواطنين العرب ملتبسة، ليس في قاموس المؤسسة الإسرائيلية وحسب، بل في قاموسنا أيضا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وقد أعاد رحيل القاضي جبران بعض المعقبين والمحللين إلى عالمها الملتبس مرة أخرى، حين تساءلوا حول أهمية التحاق المواطن العربي بسلك القضاء الإسرائيلي ومعنى ومردود ذلك! قد لا يستوعب القارئ العربي العادي مجمل التعقيدات والتحديات التي واجهها الناجون العرب من لعنة التهجير واللجوء، والباقون على أرضهم منذ عام النكبة؛ وقد يجهلون تاريخ نضالات هذه الأقلية ضد سياسات القهر والقمع العنصرية الإسرائيلية، ونجاحها في اجتراح وتكريس مفهوم متوازن لكونها جزءا لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه كمواطنين أصلانيين في إسرائيل. إنها معادلة البقاء العسير، وهي الرؤية التي أجبرت المؤسسات الإسرائيلية على تداول مفاهيم جديدة للمساواة وتعديلها عبر السنين. لن أبالغ في قيمة وحجم هذه التحولات الايجابية؛ فعلى الرغم من أهميتها تبقى محدودة من حيث حجمها، ومسقوفة بما تمليه تلك المساواة، بكونها أمّاً لتلك التحولات ومنقوصة في حالة تطبيقها على المواطنين العرب وعرجاء. فإن تكون مواطنا متساويا، وفق المفهوم الاسرائيلي المعدل الجديد، لا يعني بالضرورة أن تكون مواطنا حرا في اختياراتك وقراراتك وآرائك. لن استرسل في مراجعة هذه القضية ولن أخوض في المعايير التي يجب أن تضبط حدود المتاح والجائز والمسموح والمحظور أمام المواطن العربي، الذي يطالب بحقه في المساواة التامة من إسرائيل. لكنني سأحاول تبسيطها ببعض الأمثلة اليومية من حياة المواطن العادي، فأي طالب يتخرج من كليات التربية، ويبدأ ممارسة مهنة التعليم التي يحبها، يحلم طبعا في أن يصبح أكثر من مجرد معلم، كأن يصير مديرا أو مفتشا أو محاضرا في جامعة. ومثله الطبيب في المستشفى الذي يطمح بأن يتقدم في السلم الوظيفي والمكانة العلمية، وأن يعتلي محاضرا، المنصات في العالم، إذا وافق أن يصل إلى هناك باسم دولة إسرائيل وتحت علمها طبعا؛ كذلك المحامي الذي يحلم بأن يصير قاضيا فيُقبل ويكافح كي يرتفع في السلم القضائي حتى يصل إلى المحكمة العليا. بلغة أخرى يمكننا أن نقول: إذا أردنا المساواة، ونحن نستحقها، قد نحصل عليها كسقف يضمنا تحته وقد تحمينا؛ بيد أن البعض قد يضطر أن «يراقصها» على إيقاع كلمات نشيدها القومي، ربما!
تعتبر سيرة القاضي سليم جبران الذاتية شاهدا على نجاحه الشخصي، وعلى قدراته في تذليل العثرات بعد أن عاد «ذاك الطفل الهارب مع عائلته في قارب متأرجح تتلاطمه الامواج، من عالم اللجوء في لبنان إلى شواطئ عكا ليصير بعد خمسين عاما قاضيا في أعلى هيئة قضائية في إسرائيل»، كما صرّح راضيا في خطبة وداع عمله في المحكمة العليا عام 2017؛ لكنها تبقى من دون شك، حكاية أكبر في أبعادها الأخرى، وشاهدا على سيرة قوم كافح أبناؤهم من أجل بقائهم ونيل حقوقهم في المواطنة وعلى رأسها حقهم في المساواة. كان القاضي جبران واعيا لعبء ذاك السقف الثقيل المرفوع فوق رأسه؛ وحاول في أكثر من مناسبة أن يخرج رأسه من تحته، كما حصل معه في عدة قرارات أصدرها، وعندما رفض أن يردد كلمات النشيد الوطني الإسرائيلي في بيت رئيس الدولة، يومها هاجمه الإعلام الإسرائيلي، لكنه أصر على موقفه ودافع عنه قائلا: «إذا غيروا كلمات النشيد القومي في يوم من الأيام، أظن انه لن تكون لديّ، ساعتها، مشكلة في غنائه.. ولكن إذا كانت الدولة تتوقع أن يحترم جميع مواطنيها، وبضمنهم العرب، نشيدها القومي فعلى كلماته أن تحترمهم وتحترم حقوقهم. لا أستطيع أن أردد نشيدا بين كلماته سنجد «نفس يهودي هائمة». لقد كان وقع هذا الكلام على الشارع الإسرائيلي ساحقا، حتى إن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو اضطر أن يصرح معقبا عليه بالقول «أنا لا أتوقع بأن يقوم مواطن عربي بغناء النشيد القومي». فواجبه كما كان يراه وصرح به أمام زملائه في خطبة وداع الوظيفة هو: «لقد رأيت في وظيفتي كقاض مسؤولية مضاعفة: أن احكم بالعدل بين الاطراف المتخاصمة أمامي؛ وان أسخّر كل طاقاتي لأكون جسرا يقرّب اليهود والعرب في دولة إسرائيل». لم يكتف القاضي سليم بهذا البوح أمام زملائه القضاة، بل واجههم بهاجسه الأهم والأوجع وقال: «إن الادعاءات المتعلقة بمكانة الأقلية العربية في الدولة اختزلها المجتمع العربي بمشاعر من الظلم الشامل. المتوقع من الدولة أن تعمل الكثير كي نصل إلى مساواة المجتمع العربي بشكل حقيقي». قالها وكان مؤمنا بدوره من داخل خانة المواطنة ومنها حاول واجتهد كي يحمي أبناء جلدته من طوفان العنصرية الزاحف، لكنه رحل وهو يشهد طغيان العتمة وانهيار قصور الحكمة والعدل.
كنت مؤمنا في الماضي بضرورة استمرارنا في المطالبة بتعيين قضاة عرب في جهاز محاكم الدولة، مع انني كنت أعي محدودية ما قد يفيدون به مجتمعاتهم، حتى إنني تساءلت قبل سنوات عن معنى أن تكون قاضيا عربيا في إسرائيل، فهل هو عسر أم استحالة؟ أما اليوم، وأنا عائد من الجنازة، وبعد أن سمعت القاضي فوغلمان يؤكد قدسية مديح العدل والقانون والمساواة كما آمن بها زميله سليم جبران، تيقنت بأننا كنا وسنبقى ضحايا لعنصرية الدولة ومحكمتها العليا وبأنهم يريدوننا شهودا على ريائهم وجبنهم. فاليوم في عصر ما بعد العنصرية الناعمة وبعد أن هزم أصحاب الحق أشعر بان ما كان عسيرا صار عجزا ومستحيلا. اشعر واتمنى أن أكون مخطئا.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية