ثقافة الاعتداء: هل «كراهية الذات» مشكلة نفسية؟

أثارت مسألة «الكاره لذاته» على الدوام إشكاليات كبيرة في الثقافة المعاصرة، خاصة بين التيارات «التحررية» فبعيداً عن طرح، يوصف بشكل غير دقيق عادةً بـ»الليبرالي» ويقوم على تعريف البشر بوصفهم وحدات فردية، تحقّ لها نظرياً، وبشكل لا يمكن نزعه واستلابه، الملكية الفردية، وحرية الضمير والتعبير، وتقرير المصير الذاتي، فإن كل التيارات الفكرية الأخرى، التي تُعنى بالذات الجمعية، وطرق تشكيلها وإعادة إنتاجها، صوّبت نقدها بشكلٍ قاس لأفراد، تنكّروا، قولاً أو فعلاً، لما يفترض أنه مكوّنات أساسية في هويتهم، وفضّلوا «جَلدَها» والتماهي مع خطاب عدو، أو «آخر» عنصري وقمعي.
حرب غزة الحالية مثال جيد عن ذلك، فهي جمعت تحالفاً، غريباً بعض الشيء، من قوميين وإسلاميين و»يساريين» ومتعاملين أو متأثّرين بـ»منظمات غير حكومية» يحاولون إسكات أي صوت مخالف، بحجة أنه «كاره لذاته» ومُكرّر لـ«خطاب العدو» دون أن ينشغلوا كثيراً بتعريف تلك الذات وذاك العدو. يبدو أن المعركة واضحة جداً، ومن لا يستطيع التماهي معها، يعاني بكل بساطة من مشكلة نفسية أو ثقافية.
إلا أن مسألة الأصوات، التي لا تبدو معيارية في تعاملها مع مفاهيم «الذات الجمعية» تبدو أعقد من هذا بكثير. لا نتحدّث هنا بالضرورة عن أشخاص تنكّروا لتلك الذات، بهدف التماهي مع خطاب خارجي، ونيل مكاسب معنوية أو مادية؛ أو للاندماج في نظام اضطهاد اجتماعي، مرتبط باحتلال أو هيمنة أجنبية، بل عن فئات كثيرة، في بلدان عربية متعددة، لم تعد تستطيع التعرّف على نفسها أصلاً في كل الخطابات الجماعية السائدة، فلم تعد هي «الذات» بالنسبة لها. ومن تلك الفئات مثلاً مئات الآلاف، وربما الملايين، من مواطني دول «محور المقاومة» أو التي تسيطر عليها ميليشيات ذلك المحور؛ وكذلك ضحايا حروب عبثية، خيضت باسم «الأمة»؛ وأبناء أقليات عرقية ودينية وطائفية؛ ونساء يتعرّضن لانتهاك شامل في الحيزين العام والخاص، بغطاء قانوني وثقافي وسياسي؛ وأفراد كثر، يرون أن البنية الاجتماعية والسياسية القائمة، تسلبهم الحد الأدنى من حرياتهم في السلوك والتعبير، الضرورية لاستمرارهم وإطلاق طاقاتهم. كل هؤلاء، وهم كُتل سكّانية لا يُستهان بها، عليهم ممارسة عنف شديد تجاه أنفسهم، إذا أرادوا التماهي مع خطاب «الذات الجماعية» المفروض عليهم.
يمكن طرح أسئلة كثيرة عن تلك «الذات» وهل هي العروبة، أم الإسلام، أم العالمثالية المضطهدة من الغرب مثلاً؟ إلا أن هذا الجدل الثقافي والهوياتي الطويل قد يكون غير مجدٍ، خاصة أن أنصار «الذات» لم تعد لديهم قدرة فكرية وأيديولوجية على تقديمها بشكل مقنع، وربما الأجدى طرح أسئلة من نوع آخر: لماذا بات من الصعب على كثيرين التعرّف على أنفسهم في خطابات الأيديولوجيات العربية المعاصرة؟ ومَنْ يستطيع بالفعل التماهي مع «ذات» بكل تلك الإشكالية؟ وكيف يستطيع ذلك فعلاً؟

جنين المقاومة

يمكن تقديم فرضية سياسية/اجتماعية، قابلة للنقد والتكذيب، في ما يتعلّق بـ»الذات الجماعية» خاصة بارتباطها بمسألة حركات المقاومة المعاصرة في العالم العربي: تدّعي تلك الحركات أنها في مواجهة دائمة لا تنتهي، باسم «الأمة» (عربية أو إسلامية) وضد نظام دولي واستعماري ظالم، وبالتالي فهي تسعى إلى تحقيق نمط من «التحرير» باسم كتلة سكانية، يجب أن تكون الأغلبية، وهي الجماعة السياسية التي تستقي شرعيتها منها. يتطلّب هذا الادعاء، لتصديقه والتعاطي معه بجديّة، تحديد تلك الجماعة السياسية/الكتلة البشرية، والأنظمة الأساسية لوجودها الاجتماعي، ومعاييرها في ممارسة العنف ضد أعدائها الداخليين والخارجيين، فكل هذا قد يعطي إشارة حول جنين المجتمع، الذي تريد المقاومة «التحرير» لأجل ولادته، وهو، بالضرورة، يجب أن يكون أكثر عدالة من عوالم الهيمنة الاستعمارية، وإلا فما جدوى المقاومة؟
تجارب حركات المقاومة المعاصرة، التي نعرفها، المنتشرة بين اليمن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، وعلى خلاف أمثلة كثيرة لحركات تحرر وطني في القرن الماضي، لا تقدّم لنا أي «جماعة سياسية» يمكن رصدها فعلياً، لا شعبا ولا طبقة ولا حتى بنى محليّة تقليدية متماسكة، بل على العكس من ذلك، تؤدي تلك الحركات دائماً إلى تفتيت سياسي واجتماعي شامل، سواء عبر تحطيم أجهزة ومؤسسات الدول القائمة، التي تعمل ضمن حدودها؛ أو تدمير البنى الاجتماعية، الحديثة والتقليدية، في تلك الدول. يمكن مثلاً الحديث كثيراً عن تحويل المجتمعات في سوريا واليمن إلى مُصدِّر أساسي للنازحين حول العالم؛ والتغيّرات الكثيرة، التي أحدثتها المقاومة، في المجتمعات ذات الخلفية الشيعية في العراق ولبنان، والتي أدت عملياً لتغيير النشاط الاجتماعي والاقتصادي لقطاع من السكان، نحو «اقتصاد الظل» مثل التجنّد في الميليشيات، التهريب، الاتجار في المخدرات، الاعتماد على شبكات المعونات والإغاثة الدولية، التي ينخرها الفساد. أما في الحالة الفلسطينية، فصور النزوح، والاقتتال على المعونات الشحيحة، لا تحتاج لتعليق.

لا يمتلك البشر في المنطقة «نظام تعبير» مغاير، وبالتالي يجد «الكارهون لذاتهم» منهم، صعوبات كبيرة في التفلّت من الخطابات السائدة، ومواجهة العنف اللغوي المحيط بهم في كل مكان. ما يساهم، إلى جانب العنف المحض، في بقائهم غير مرئيين.

قد يمكن بالتأكيد تحميل المسؤولية للعدو الذي تواجهه المقاومة، فهو، نظرياً، الطرف الأكثر قدرة على القصف والحصار والقتل، إلا أن هذا المنظور «كاره لذاته» فعلاً، لسببين: الأول أن وضع المسؤولية كاملة على العدو الخارجي، يجعل الفاعلين السياسيين والعسكريين الداخليين «غير مُكلّفين» بالمعنى الشرعي، أي غير مسؤولين عن خياراتهم، أو محاسبين على تصرفاتهم وجرائمهم، ومعفيين من أدنى واجباتهم تجاه المجتمعات، التي من المفترض أنهم يقاتلون لأجلها، وبالتالي يحمل نظرة أخلاقية دونية تجاه الذات، التي تُقدّم بوصفها غير مطالبة بالتصرف بـ»رشد» نظراً لأن «العالم» ظالم؛ السبب الثاني، والأهم، أن ذلك المنظور انتقائي جداً في تمييز الأجساد والجثث التي يتعاطف معها، خاصة إذا وضعنا بعين الاعتبار أن حركات وأنظمة المقاومة قتلت وهجّرت وجوّعت، بشكل مباشر، أعداداً أكبر بكثير من كل ضحايا الصراع العربي – الإسرائيلي عبر تاريخه، هذا إذا لم نتحدّث عن تأييدها، وبهيمنة السلاح، لكل أشكال العنف الاجتماعي والأسري والذكوري في مجتمعاتها. لا يمكن تخيّل شكل لـ»كراهية الذات» أكثر من اعتبار الأجساد الممزّقة، أو النازحة، أو المعذّبة، لملايين من سكّان المنطقة، مجرّد تفصيل جانبي، يمكن تجاوزه في سبيل معركة «حق» كبرى. مَنْ يقبل فعلاً البقاء ضمن أطر ذات «كارهة لذاتها» إلى هذا الحد؟

جمهور «الذات»

يمكن القول إذن إن ذلك النوع من المقاومة لا يهتم ببناء أي «جماعة سياسية» بقدر ما يسعى إلى خلق «جمهور مقاومة». وهو تعبير غير دقيق، لكن يمكن استخدامه، نظراً لتداوله الواسع في جانب من الإعلام العربي، للإشارة إلى الكتل السكانية، التي من المفترض أنها «البيئة الحاضنة» لتلك الحركات. و»الجمهور» هنا لا يعني فقط المجتمعات المحليّة، المرتبطة، شاءت أم أبت، بهذه الميليشيا أو تلك، لأسباب طائفية أو مناطقية، وإنما جموع المتداخلين في شبكات معقدة من الجماعات المسلّحة؛ العمل الإغاثي و»المدني»؛ أجهزة الدول؛ المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية؛ التي يصنع مجموعها خطاباً عن «الذات».
يختلف «الجمهور» عن «الجماعة السياسية» أساساً بأنه حشد غير مؤسّس ضمن أطر تمثيلية، أو مؤسسات اجتماعية وسيطة، تلحظ تعدده واختلافه؛ ولا يمتلك أي سيادة، حتى نظرياً، فهو ليس أكثر من وقود لحق، أو مظلمة تاريخية، أو مقدّس، أو مفهوم عن «الأمة» الأحادية، لا يحق له أن يحيد عنه، وإلا كان «كارهاً لذاته». «الذات» هنا تحديد أحادي متعالٍ، وقاتل.
من البديهي أن كثيرين، حتى لو كانوا مستفيدين جزئياً من شبكات «الذات» تلك، لن يجدوا أنفسهم فيها، وسيكرهونها، نظراً للألم الشديد، الذي تلحقه بهم على كل المستويات. «كراهية الذات» هنا ليس تعالياً على الثقافة المجتمعية، أو ادعاءً أخلاقياً متسامياً، وإنما محاولة للنجاة من اعتداء شامل، تشنّه تلك «الذات» على أجسادهم وضمائرهم وقدرتهم على التفكير.

سياسات «الكارهين لذاتهم»

يصعب، في حيّز مُفرّغ من الممارسة السياسية، تملأه الميليشيات والدول القمعية، معرفة ميول الناس فعلاً، إذ لا يوجد أي إطار منظّم للفعل والتعبير. يبدو، بالنسبة لكثير من المراقبين، أن المواقف القومية والإسلامية، المتأقلمة مع الميليشياوية والقمع، هي السائدة، نظراً لما يرصدونه من تعبيرات وردّات فعل متعصّبة. إلا أنه لا يمكن الحديث عن «خيار» سياسي أو فكري أو عقائدي، ضمن أطر تقوم بنيوياً على الإلغاء والإقصاء والعقاب، مفرط العنف، لأي شذوذ عن «الذات»؛ وتعجز، في الوقت نفسه، عن تقديم خطاب وممارسة، لا تُشعر فئات واسعة بالاعتداء الشامل على وجودها.
من جهة أخرى، لا يمتلك البشر في المنطقة «نظام تعبير» مغاير، وبالتالي يجد «الكارهون لذاتهم» منهم، صعوبات كبيرة في التفلّت من الخطابات السائدة، ومواجهة العنف اللغوي المحيط بهم في كل مكان. ما يساهم، إلى جانب العنف المحض، في بقائهم غير مرئيين. ربما كانت محاولة بناء «نظام تعبير» مضاد أفضل الممكن في ظرفنا الحالي، وهو، مجدداً، لا يقوم على الاستعلاء على ثقافة اجتماعية ما، أو رفض مقاومة الاحتلال والعدوان، خاصةً أن «الذات» الحالية لم تنتج إلا تدمير التقليد المتحضّر، وتوسيع المساحات المُحتلّة.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية