تشارميان كيتريج لندن: شال أبيض على متحف جدران دافئة

على طاولة مكتبهِ وقبل وفاته بأيام قليلة، ترك جون غريفيث شيني (جاك لندن) ثمانٍ وسبعين صفحةً مكتوبةً بخط يده، كان ينوي طباعتها على آلته الكاتبة Columbia Bar-Lock 10 التي استخدمها عندما عمل مراسلاً حربياً غطّى أخبار الحرب الروسية – اليابانية بين عامي 1904- 1905، حيث سُمح له بالسفر مع الجيش الإمبراطوري الياباني إلى الحدود ومراقبة معركة يالو. خلال تلك الفترة وبعد وقت قصير من انفصاله عن زوجته الأولى إليزابيث ماي ماديرن، كان جاك قد تعرف على تشارميان كيتريج عن طريق عمّتها نيتا إيميس رئيسة تحرير المجلة الشهرية الأمريكية (أوفر لاند) التي كانت تصدر في سان فرانسيسكو، وقتها كان جاك يلتقي بتشارميان من وقت لآخر ونشأت بينهما علاقة غرامية انتهت بزواجهما سنة 1905، أي بعد انتهاء مهمته الإعلامية مع نهاية الحرب الروسية اليابانية، ليعيش زواجهما حياةً قصيرةً لم تتجاوز أحد عشر عاماً، حيث توفي جاك بعد إصابته بالفشل الكلوي.
بعد وفاته كانت شارميان تتصفح كلماته الأخيرة باهتمام كبير، وأرادت إتمام كتابة الرواية التي وضع لها جاك عنوانَ «كرز» فغيَّرتْهُ لتحمل الرواية اسم «عيون آسيا» نظراً لارتباط أحداثها بالمكان وبمهمة عمله هناك، حيث أكملت كتابة فصول الرواية التي تناقشت بها طويلاً مع جاك أثناء كتابته مسوداتها الأولى.
عام 1919 وبعد مرور ثلاث سنوات على وفاته، كان جاك ما يزال موجوداً في كل مكان في المنزل الذي سَمّاهُ Wolf House، والذي بقيت أرملته تشارميان وحيدةً فيه بعد أن شاهدتْهُ يموت هناك. في العام ذاته كتبتْ لصديقتها المُقرَّبة آنا سترونسكي: «كانت جدران بيت المزرعة القديم رقيقةً، وبدا الضباب حزيناً ذاك الصباح، فشعرتُ بالرطوبة المكتظة بالذكريات، وكأنها تسبِّبُ برداً ينبض تحت جلدي أيضاً.. لطالما حلمتُ بإنشاء مكان أشبه بمتحف، حيث يمكن أن أتذكر جاك، ويمكن للعامَّة معرفة المزيد عن حياتنا معاً».
تخيَّلَتْ شارميان أن منزلها الجديد سيكون ليس منزل جاك ولا منزل أي شخص آخر فحسب، بل منزل حياة لا تنتهي فكتبتْ في يومياتها: «إنه لأمر رائع أن أبدأ بعيش ذاتٍ جديدة مؤمنةً أحياناً بأن جاك كان سيُحِبُّ هذا الجديد حقاً». وبما أن فكرة السعادة تكمن في الإنجاز، فقد كانت تشارميان مسكونةً بمقولة جاك لندن: «هناك طريقة واحدة فقط للبدء، وهي أن تبدأ. فابدأ بالعمل الجاد والصبر». باشرتْ شارميان بتحويل تلك الأحلام إلى خطةٍ مُحكَمة، فاستعانت بالمهندس المعماري هاري ميريت لوضع خطط منزلها الجديد بطراز فني مبتكَر، فحددت مكانه على بُعد نصف ميل من Wolf House، وعلى مرمى البصر من بنغالو عائلة شيبرد، حيث عاشت شقيقته إليزا مع زوجها وباقي العائلة المشغولة دائماً بنشاط المزرعة الصاخب. كان منزلها الجديد يجلس على سلسلة من تلال تطل على وادي سونوما، كي لا تصاب بالرعب الذي أصابها عندما التهمت النيران Wolf House أول منزل بَنَتْهُ مع جاك، فحرصتْ على أن يكون التصميم الخارجي للبناء الجديد مجهزاً بنوافذ وجدران فولاذية مصنوعةً من الحجر الميداني، كما يَظهَر في مسودات الملاحظات التي وجَّهتْ بها تشارميان هاري ميريت، عندما بدأ بتصميم المخطط الأساسي للمنزل، ففي وادي سونوما، غالباً ما ترتفع درجات الحرارة في الصيف لتتسبب أغلب الأحيان في حرائق الغابات. كانت النار قد أخذت بالفعل الكثير من تشارميان، ولاسيما حينما تُقارن سعادتها في منزل فندق أمريكا – بيتالوما – حيث عاشت في كنف والديها- مع ما حدث معها لاحقاً!

تشارميان وجاك لندن في وادي سونوما

في كتابها الذي حمل عنوان «تشارميان كيتريج لندن: الرائدة، المؤلفة والمغامِرة» الصادر عن دار نورمان ـ جامعة أوكلاهوما برس 2020، تُسَلّطُ الكاتبة الأمريكية إيريس جمال دنكل الضوء على الإنجازات المهمة التي قامت بها أثناء وبعد وفاة جاك لندن، والتي أعادت من خلالها تحرير سيرة الخُسران بعد استبدال أرشيف الانكسارات بأعمال تبدأ كي لا تنتهي. منذ ولادتها سنة 1871 لكل من ويلارد كيتريج والشاعرة الأمريكية دييل ويللي شهدت حياتها العديد من التقلبات، حيث لم تستطع أمها العناية بطفلتها الوحيدة بسبب مرضها، فقامت بتلك المهمة خالتها نيتا، وكانت في عمر ست سنوات فقط عندما توفيت والدتها لتنشأ «رسمياً» في كنف والديها الجديدين نيتا وروسكو إيميس اللذَين ساعداها على تعلُّم الموسيقى، الأدب والفروسية. تزوجت تشارميان من جاك لندن وخسرت الجنين مرتين، احترق منزلها وتحوَّلَ إلى رماد وأنقاض فَبَنَتْ مع جاك مزرعة الجمال (Beauty Ranch). على عتبة الآلام التي عانتها المرأة العاملة بداية القرن العشرين، قفزت روحها بكل أدرينالين المغامرة، ولم تقف مكتوفة الأيدي أمام النشاطات النسوية الاجتماعية والسياسية، بل ساهمت بشكل فعّال في الدفاع عن حقوق المرأة الأمريكية مطلع القرن العشرين، الأمر الذي قاد إلى حصول المرأة في كاليفورنيا على حق التصويت سنة 1911، وهو ما أدى إلى الحد من المعايير الجنسانية التي تُملي على المرأة ما يجب أن ترتديه، وكيف يمكن لها التصرف في الأماكن العامة، علاوةً على ذلك فقد انضمت إلى الحزب الاشتراكي الذي شجع المرأة على الإدلاء بصوتها أثناء الحملات الانتخابية وعزز فكرة أن تكون المرأة سيدة مصيرها. توفي جاك فصممتْ على أرشفة أعماله الأدبية وطالبت بحقوق ترجمة أعماله التي تُرجٍمتْ إلى ما يربو على 70 لغةً، ما ساعدها على جمع أموال لتأسيس متحف جاك لندن الذي سمَّتْهُ «منزل الجدران الدافئة» وحوَّلَتْهُ إلى تحفة عالمية.

متحف الجدران الدافئة

بحلول يونيو/حزيران 1919 باشرت تشارميان بالإشراف على كل تفاصيل المنزل/المتحف، بعد أن اتفقت مع المهندس الأمريكي هاري ميريت على إنشاء منزل مستطيل من طابقين مع شرفات حجرية وبوابة كبيرة «Porte cochère entry» تقود من خلال قاعة في مدخل الطابق الأرضي إلى غرفة معيشة كبيرة محاطة بتجاويف نافذتين، حيث يمكن لها الجلوس والقراءة بثبات. كما طلبت من المهندس ميريت إنشاء مدفأة حجرية ضخمة مثل تلك التي كانت في منزل Wolf House والتي أعجبتها كثيراً عندما رأتها للمرة الأولى مع جاك لندن في منزل روبرت لويس ستيفنسون في جزيرة أبيا.
في المطبخ وغرفة الطعام التي تقود إلى غرف إقامة الضيوف صممت تشارميان الألوان، كما خصصت مساحةً من غرفة المعيشة للاحتفال بما قدمه جاك لندن من خلال حياته وعمله، فخططت لملء خزائن الكتب المرصوفة من الأرض إلى السقف بالعديد من نُسخ مطبوعة من كتاباته، وكتبه المفضلة إلى جانب تذكارات أخرى مرتبطة بإنجازه الأدبي الثرّ، كما جهَّزت مكتبهُ ليكون مكاناً يُقدِّره الضيوف. أما الطابق العِلوي فهو عبارة عن غرفتين، إحداهما غرفة قُصاصات وألبومات مع مكتب مدمج بخزانة مليئة بالأدراج والصناديق، التي تضمنت صورها مع جاك، كما خصَّصتْ الغرفة الثانية للملابس، حيث عرضت فيها الملابس الفريدة التي كانت تقوم بتجميعها لسنوات، بالإضافة إلى مطبخ صغير للراحة. كانت رؤيتها للإضاءة مختلفةً عمَّا كان رائجاً في ذلك الوقت، فأرادت أن تكون إما خافتة بعد تغطيتها بغطاء كالاباش بطيخي، أو مصنوعة من قذائف منحنية من نوتيلوس لتعكس خصوصية البيت الذي احتوى على الكثير من الأسرار، ولا سيما الوثائق المرتبطة بتغطية الحرب الروسية ـ اليابانية!
فَتَحَتْ شارميان خزانة كتب في غرفة جاك لكشف أسرار كانت تريد الحفاظ عليها، كما أرادت أن تضمن سلامة الخزانة، نظراً لاحتوائها على مسودات نصوص كَتبها جاك بالإضافة إلى رسائل الحب الثمينة الخاصة بهما. في الطابق ذاته يوجد ممر يقود إلى سلم حلزوني سِرّي يربط الطابقين الأول والثاني، بحيث يمكنها إلقاء نظرة خاطفة لمعرفة كل ما يحدث في الطابق السفلي. كانت تعلم أن الغرباء سيصلون وأرادت إدهاش الزوار بمجرد دخول «متحف الجدران الدافئة».

الشابة الجميلة التي أسرت قلب جاك لندن

نظراً لقلة موارد تمويل المنزل/ المتحف والطراز المتكامل الذي أرادته شارميان أن يكون عليه، فقد عرفت أن «متحف الجدران الدافئة» سيستغرق عقداً على الأقل ليفتح أبوابه للزوار. كان ذلك مشروعها، حُلمها وخطوةً مهمةً تعيد من خلالها بناء الحياة التي بدأت لأول مرة بعد وفاة والدتها، لكن هذه المرة كان من المقرر أن تؤسس منزلاً أو متحفاً يعكس الحياة الاستثنائية التي عاشتها، وأكثر من ذلك الحياة غير العادية التي كانت تنوي أن تعيشها للمضي قُدُماً في كتابة مانيفستو حياةِ وحبٍّ تنبض بهما أعمال جاك على الدوام، فقررت السفر إلى أوروبا. كانت تشارميان تتوق للعودة إلى أوروبا، وترغب في رؤيتها مرةً أُخرى، بعد أن زارتها مع عائلة شيلدون عندما كانت في التاسعة والعشرين.
في أوروبا ازدادت مبيعات كتب جاك، فتمكنت مع شقيقته إليزا من بيع حقوق نشر الصور المتحركة للعديد من كتبه، وذلك للحصول على الأموال، بما في ذلك كتاباه الشهيران The Call of the Wild و White Fang، الأمر الذي أتاح لها أخيراً فرصة دفع العمولات اللازمة للاستمرار في بناء منزل/ متحف الجدران الدافئة» وعلى الرغم من المكاسب المالية التي توقَّعَتْها إلا أنها حاولت جاهدةً التقليل من مصاريف السفر، حيث سافرت في 8 ديسمبر/كانون الأول 1922على متن سفينة شحن سويدية من سان فرانسيسكو إلى لوهافر في فرنسا عبر قناة بنما، ومن الطريف في الأمر أنها كانت الراكبة الوحيدة ودفعت أجور سفر قليلة جداً. في طريق عودتها إلى الولايات المتحدة توقفت لنصف يوم في العاصمة النمساوية فيينا، للقاء قصير بالمحلل النفسي الشهير سيغموند فرويد في مكتبه في فيينا، فكتبت في يومياتها لاحقاً: «عندما دخلتُ مكتبه المظلم أحسستُ أنني سأحصل على جائزة مقابل العثور على رجل نحيف يبلغ من العمر 74 عاماً، كان اجتماعنا مثمراً. سألتُهُ عن تلميذه كارل يونغ الذي كنتُ يوماً ما سكرتيرته الذي طالما قرأ بشغفٍ أذهل جاك لندن، لقد تعلمتُ أشياء قليلة من فرويد إلا أنني تعلمتُ الكثير من يونغ لأن يونغ صوفي!».
لم تسعَ تشارميان لجني أي أرباح فعلية من مشروعها الضخم فقد توفيت في الساعة التاسعة وخمس وأربعين دقيقة مساء الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني 1955 عن عمر ناهز أربعة وثمانين عاماً وبلغت قيمة ممتلكاتها 6.810 دولار فقط، بعد أن أكملت ما حلم بتحقيقه جاك لندن، فلم تكُ في كل ما أنجزته خلال الأعوام القصيرة التي عاشتها مع جاك سوى حب حقيقي، حُبّ مستقل بفطرته وسلامِهِ، حبّ يعلِّقُ شاله الأبيض الرقيق على جدران دافئة.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية