«ترندات» الحرب الروسية الأوكرانية

حجم الخط
0

جرى التنقل في الأعوام الماضية من «ترند» إلى آخر فيما يتصل بالحرب الروسية على أوكرانيا.
عشية هذه الحرب، وعند بدء الغزو الروسي لأراضي الجمهورية المجاورة، كانت الغلبة ـ لنقل غربياً ـ للميل الذي يرجّح نجاح روسيا بالتوغل في العمق الأوكراني، على أن يُراهن بعد ذلك على التعقيدات المتصلة بهذا النصر العسكري السريع، بل المتسرّع، سواء من خلال استنزاف المحتل ميدانياً، أو من خلال أثر العقوبات الاقتصادية، بحيث يكتشف الروس أنهم لم يحققوا شيئاً كان يستأهل هذا العزل عن العالم، وأنهم غير قادرين على تثبيت أو تثمير انتصارهم العسكري.
بطبيعة الحال، كانت هناك الطبعة المعاكسة لهذا الموقف، إنما التي كانت تمني النفس، من الموقع الروسي أو المنحاز لموسكو، بالفوز الخاطف والسريع في أسابيع معدودة من القتال، قاصمة لظهر الدفاعات الأوكرانية، على أن يكون الغرب محمولاً بعد ذلك إلى الارتضاء تدريجياً بالأمر الواقع، والتطبّع بضغط من الحاجة إلى الغاز الروسي، مع الحدود الكيانية الجديدة التي سيفرزها الاحتكام إلى الميدان.
لنقل أيضاً، أنه في تلك اللحظة، عند انطلاق الحرب، كانت هناك توقعات، بخاصة عند موسكو وأنصارها عبر العالم، لكن أيضاً ولو بشكل خافت أو مضمر في الغرب، بأن تلاقي الدبابات الروسية استقبالاً إيجابياً لدى فئات ملحوظة من السكّان في الشرق الأوكراني، وبخاصة لدى الأوكران الروس الإثنيين بالدرجة الأولى، ولدى الأوكران الناطقين بالروسية كلغة أولى بالدرجة الثانية.
فهذا على الأقل ظهر شيء منه منذ عام 2014 في منطقة الدونباس، وظهر بشكل أوضح عند الغالبية من سكان شبه جزيرة القرم. لكن ما حصل في شتاء 2022 أظهر بسرعة أن الأمور اختلفت. فقدرة الوطنية الأوكرانية على استيعاب الناطقين بالروسية زادت، ثم أن قسماً متزايداً من الأوكران الناطقين بالروسية تحول سريعاً إلى الاستعاضة عنها بالأوكرانية. زد على أن أداء القوات الروسية، ما بين بطش وتخبّط وتعثر، ما كان ليقنع فئات واسعة من السكان بالسردية الخرافية التي تبناها الرئيس الروسي، والقائمة على أن محرّك الأوكران هو النازية، والتي تحيل كل شيء إلى مقولات نوستالجية. نوستالجيا الروس إلى الإمبراطورية، القيصرية أو السوفياتية، التي تلحق أوكرانيا بروسيا. والنوستالجيا إلى زمن موغل في القدم، سابق على الغزوات المغولية والتتارية، كانت فيه كييف نفسها عاصمة لمملكة روس القديمة. وفي المقابل، النوستالجيا الذي اتهم الأوكران بها، بأنهم يحنون إلى زمن تعامل قومييهم مع الاحتلال الألماني في سني الحرب العالمية الثانية. أُتبع ذلك بهجائية ضد الليبرالية الغربية، من دون أي تحديد جديّ للموقع الذي يصار على أساسه التهديف ضد هذه الليبرالية. انطلاقاً من أي مؤسسات بديلة ناجحة تعمل في روسيا؟ وفي ضوء أي تجربة تطوير اقتصادية بالمقدور التأسيس عليها أو التحجج بها؟ وبالارتكاز على أي حيوية ثقافية روسية معاصرة؟ بدلاً من تقديم أي إجابة روسية فعلية على هذا النوع من الاستفهامات جرى اعتماد «ثلاثة مفردات» تعاد وتلاك كما اللازمة، كما التعويذة: دوستويفسكي، والنووي، والعائلة. بمعنى، تسويغ عظمة روسيا بأدبائها، وبخاصة دوستويفسكي. والتهديد باللجوء إلى النووي عند أي تعثر في الميدان. واختراع فكرة عن المجتمع الروسي الحالي على أنه حصن منيع لقيم العائلة المحافظة، لا مكان فيه لعدمية فردانية أو لمثلية جنسية. بهذه التعويذة استعاضت روسيا البوتينية عن الأيديولوجيا والعلم السياسي معاً. لكنها لم تكن أوفر حظاً في ساح القتال.
فبعد أسابيع، إن لم يكن بعد أيام قليلة على بدء الغزو الروسي للأراضي الأوكراني برز «ترند» مختلف عن الأول. فالجيش الروسي عجّل في إظهار مشكلاته سواء على صعيد هرميته وانتظامه، أو على صعيد خطته الهجومية، إن وجدت فعلاً، أو على صعيد عتاده، ناهيك عن معنويات عديده. انكشف أداؤه بشكل سريع باهتاً، كما لو أنه كان يبني على انهيار خاطف للدفاعات الأوكرانية، وليست لديه أي خطة بديلة في حال لم يتحقق أي سيناريو اكتساحي سريع.

قدرة الوطنية الأوكرانية على استيعاب الناطقين بالروسية زادت، ثم أن قسماً متزايداً من الأوكران الناطقين بالروسية تحول سريعاً إلى الاستعاضة عنها بالأوكرانية

جرى التقدير حينذاك بأن موسكو وقعت في ورطة، عسكرياً كما سياسياً، وبعد أكثر اقتصادياً. بالتالي موسكو لم تعد سوى أمام خيارين. إما التعنت، والمضي قدماً في استنزاف مواردها المادية والبشرية في حرب باتت بلا طائل، وإما الواقعية، بما تمليه من سعي للخروج من هذه الورطة بأقل كلفة ممكنة، وتخفيض سقف المطالب الروسية، وبالتالي إدراج المسعى في إطار «تحسين شروط الخيبة» إن لم يكن الهزيمة. لقد دامت غلبة هذا الاتجاه عند المراقبين ما بين مارس واغسطس 2022.
ثم كانت تسعة أشهر من غلبة «الترند الثالث» من حيث الترتيب الزمني. ما بين الهجوم الأوكراني المضاد، في منطقة خرسون جنوباً، لكن خصوصاً في منطقة خاركوف في الشمال الشرقي، وكلاهما ناطق بالروسية، صارت النظرة أكثر من تفاؤلية غربياً، بالقدرات الأوكرانية، بما يتعدى مجرد حرمان روسيا من نصر عسكري، إلى الفوز على روسيا عسكرياً.
ففي منطقة خاركوف تمكّن الأوكران من تحرير 12 ألف كيلومتر مربع من مساحة بلادهم. وظهر الجيش الروسي في معركة سفاتوفو كريمينا بشكل بائس، يرمي بآلاف من الشبان غير المدربين والمجهزين كفاية في التهلكة. بناء عليه، انتشر توقع انهزام روسيا في أمد منظور، ميدانياً أولا، وليس فقط في السياسة والاقتصاد، وزادت المواكبة الأمريكية والغربية عموماً للجيش الأوكراني، ومدّه بالأسلحة والتقنيات الحربية.
ولم يكن الأداء الروسي في معركة باخموت في الدونيتسك ليعطي انطباعاً بأن الجيش الروسي قادر على استيعاب خيبة البداية، والترنح الذي تبعها، وأخذ يظهر منذ مطلع العام 2023 الشقاق بين «صاحب» مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين وزارة الدفاع الروسية. حصل هذا على محك معركة باخموت، «مفرمة اللحم» كما أسماها بريغوجين، متهماً وزير الدفاع سيرغي شويغو بالتسبب بذلك، لا بل وطعن «فاغنر» في الظهر.
عندما تمكنت القوات الروسية في نهاية شهر مايو 2023 من السيطرة على حطام بريخموت بدا كما لو أن هذا الفوز سيزيد من الانقسام روسياً، لا العكس، سيما وأنه يحصل على خلفية كلفة بشرية عالية للغاية، وتفاوت كبير بين أداء مسلحي «فاغنر» الحيوي، وأداء العسكر النظامي الباهت. بل أن بريغوجين حسبها هكذا، فزاد من نقمته على شويغو، مصطدماً بفلاديمير بوتين نفسه، ثم عامداً إلى التحرك في اتجاه السيطرة على مقر القيادة العسكري على الجانب الروسي من الحدود، في روستوف على الدون، ومن بعدها للزحف السريالي على موسكو. في أواخر يونيو 2023 غلب الرأي القائل بأنه حتى لو كانت حالة بريغوجين نفسها واقعة في مأزق، وذاهبة إلى أجل محتوم، لكنها مؤشر إلى حجم التصدّع ليس فقط على الجبهة، بل في المجتمع والدولة الروسيين.
الا أن الهجوم الأوكراني المضاد الذي سبق عراضة بريغوجين دفع بالأوضاع إلى تزكية «الترند الرابع». بخلاف الخطط الموضعية، غير الشاملة، للهجمات الأوكرانية المضادة والناجحة في صيف 2022، وما نجحت فيه من استرجاع للأرض وتعزيز الحظوة الغربية، فقد اختارت كييف سقفاً أعلى بكثير لأهدافها مع هذا الهجوم الكبير، الممتد على أكثر من ألف كيلومتر من طول الجبهة. الجانب الأمريكي أظهر منذ البداية تردده وقلقه حيال هذا الهجوم، ومغبة أن يزيد الثقل على الحليف الأوكراني بدل أن يريحه. أما الأوكران فاعتبروا أن هجوهاً بهذا الحجم كفيل بأن يخرج من التداول أي طلب غربي منهم في المستقبل بالتنازل لموسكو عن الدونباس أو قسم منه، بل أن في أوكرانيا من اعتبرها فرصة للضغط في اتجاه استعادة شبه جزيرة القرم أيضاً. الترند الرابع انعكس بالنتيجة تضعضعاً على صعيد الهجوم الأوكراني المضاد، وارتفاعاً للصوت المتململ غرباً، بأشكال ولدواع مختلفة، ضد الاستمرار في مدّ أوكرانيا بالسلاح والتكنولوجيا. صار الترند تشاؤمياً حيال الحرب في الغرب. لم يتقلّص فقط التفاؤل بإمكان إلحاق الهزيمة بروسيا عسكرياً (الترند الثالث) ولم يتوقف التشاؤم عند حدود الغرق في استنزاف مضن (الترند الثاني) ولم يعد الانتصار العسكري الروسي في أوكرانيا محكوم بأن يتحول إلى هزيمة سياسية، كما في الترند الأول. صار الخوف بالفعل من هزيمة للأوكران وللغرب معاً في أوكرانيا، وظهر بين شعبويي أوروبا وبين جمهوريي أمريكا من يدعو إلى حصر الهزيمة بالأوكران فقط، وفض الغرب من هذه الحكاية من أساسها. هذا الترند قد يأخذ مدة أطول من سابقيه، ويختلط بالحسابات المتصلة بالحرب في الشرق الأوسط، وروزنامة الانتخابات الأمريكية. لكنه، في كل الحالات، يبقى «ترنداً» يصعب التخيل إلى الآن بأن الحرب ستستقر عليه. الحرب تدخل عامها الثالث. والرابع غير مستبعد. والخامس غير مستحيل.

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية