تركيا واليونان والاتحاد الأوروبي: مناورات… عمليات وتنقيبات

وأنا أفكر في زاوية لمعالجة إشكالية التنقيب التركي المثير للجدل في مياه شرق المتوسط، وأنا استخرج كعادتي في مثل هذه الحالات «كلمات مفاتيح» لرسم العمود الفقري لمقالي (هنا رسم العمود الفقري في موضوع يتناول… ترسيم المياه الحدودية)، انتبهت إلى أن الكلمات المفتاحية المتعلقة بموضوعنا تحتمل مستويين، المستوى التقليدي الأصلي القائم على إدراج المصطلحات في سياقها المعتاد: توتر في المنطقة يراه البعض مرشحا للتصعيد، لكن المصطلحات ذاتها قابلة للتحول إلى سياق تأويلي آخر، سياق المساعي المبذولة لعدم كسر المقاييس الدبلوماسية التقليدية الثابتة، التي تدخل في الحسبان، كون تركيا عضوا في حلف الشمال الأطلسي، وبالتالي ألا يمكن أن يتم التعامل مع تركيا، كما لو لم تنتسب لمنظمة دولية .

فرنسا، في بادرة لا تخلو من خلفية اقتصادية، هبّت للدفاع عن اليونان، في خضم التنافس على المصادر في المنطقة

صحيح أن الوضع بلغ مستوى من التصعيد، يمكن إرجاعه إلى شهر يونيو الماضي، ووفق الرواية الفرنسية للأمور، اعترضت البحرية التركية فرقاطة كوربيه الفرنسية، التي كانت تستعد لتفتيش سفينة تحمل 54 حاوية قبالة الساحل الليبي، ويعتبر أسلوب اعتراض الفرقاطة، أسلوب «الإنارة السابقة للقصف برادارات القيادة»، من أدوات لغة الوعد والوعيد العسكرية، على درجة بالغة من التصعيد. هنا، صحيح، وصل التوتر بين فرنسا وتركيا ذروته.. صحيح أيضا أن فرنسا، في بادرة لا تخلو من خلفية اقتصادية، هبّت للدفاع عن اليونان، في خضم التنافس على المصادر في المنطقة، صحيح أيضا أن اتساع رقعة مساحة التنقيب التركي في المياه الإقليمية من 6 أميال إلى 12 ميلا (الذي حملت تركيا بشأنه تبريرا قانونيا بالعودة إلى المادة الثالثة من قانون البحار) واقعة صعّدت من التوتر ورفعت من حدة مواقف أطراف معنية بالمسألة مباشرة، مثلا في موضوع التنقيب عن الغاز في مناطق تعتبرها اليونان ضمن نطاق منطقتها الاقتصادية (ولا ننسى أن اليونان خطت خطوات في عملية ترسيم الحدود البحرية، بتوقيعها اتفاقية مع مصر). صحيح أيضا أن أكثر من علامة استفهام نجدها بخصوص سلامة وصول فوائد الغاز الاقتصادية وأنابيب النقل والبنى التحتية إلى السوق الأوروبية المهمة، في سياق التنازع على «مناطق تحت البحر».
وصحيح أن علاقات تركيا بالاتحاد الأوروبي تنم عن تاريخ متقلب، على خلفية الجدل القائم حول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، مشكلة قبرص، تصور تركيا في المخيال الجماعي على أنها منصة «العثمانيين الجدد»، في سياق اقتصاد تركي متنام قبل الجائحة،ص تمثل في سياسة حزب العدالة والحرية في مصادر الطاقة، التي حملت عنوان «الوطن الأزرق»، في خدمة مصالحها القومية. صحيح أن تركيا تشعر بأن حلفاءها الغربيين خذلوها، خاصة الولايات المتحدة في سوريا، بهبوط مستوى القوة الأمريكية هناك، وتدني الاهتمام الاستراتيجي لإدارة ترامب بالملف السوري.. بالتالي، لم تعد تركيا ترى غضاضة في قيادة مسارها الخاص بمعية لاعبين آخرين كروسيا وإيران، في تحرك ينخرط في رؤية موسعة، تتمتع تركيا بواسطتها بقدر نسبي من الاستقلال الاستراتيجي، كأن تلقي بثقلها، على سبيل المثال لا الحصر، في الحرب الأهلية الليبية، خلف حكومة الوفاق الوطني بعد أن وقّعت معها اتفاقية بحرية. من هنا تضارب أحداث شؤون الساعة التي نعرفها، ومرة أخرى على سبيل المثال لا الحصر:
ـ مواصلة تركيا جهود استكشاف الغاز بسفن تنقيب محاطة ببحريتها .
– في المقابل، تكتل دول في معارضة مطامح أنقرة الإقليمية، كأن ترسل دولة الإمارات عددا من مقاتلات إف16 إلى جزيرة كريت للمشاركة في مناورات مشتركة مع اليونان.
– إرسال فرنسا سفينتين حربيتين وطائرتين هجوميتين بحريتين كنوع من إظهار التضامن مع أثينا، وسط تصاعد التوترات بين الأخيرة وأنقرة.
فما هي إذن حظوظ تجنب حرب بالوكالة في منطقة شرق المتوسط، يخوضها لاعبون خارجيون يصطفون بعضهم ضد بعض؟
قدر من الجواب نجده في مدى قدرة الاتحاد الأوروبي، الذي بات يتمتع بهامش مناورة غير مسبوق في سياق الانسحاب الأمريكي من ملفات منطقة الشرق الأوسط، على تجريد «المناورات» و»العمليات» و»التنقيبات»، من مدلولها الأصلي الذي يمسكه أطراف النزاع، لتحويلها إلى روافع دبلوماسية تشكل ملامح مشهد جديد يشهد بأن المنظمات الدولية لا تزال تتمتع بقدر من المصداقية.

٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ” صحيح أيضا أن فرنسا، في بادرة لا تخلو من خلفية اقتصادية، هبّت للدفاع عن اليونان،” إهـ
    الخلفية ليست إقتصادية, بل دينية! فرنسا تكره الإسلام والمسلمين!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول مازن ح- الولايات المتحدة:

    صحيح أيضا أن فرنسا، في بادرة لا تخلو من خلفية اقتصادية، هبّت للدفاع عن اليونان..”. مع احترامي للكاتب الذي حاول بشكل ملفت أن يكون موضوعياً إلا أن الحقيقة أن فرنسا لا تزال سياساتها تنشأ من خلفيات استعمارية إسلاموفوبية متعجرفة و غاية في النفاق.. ماكرون كان مخيباً للآمال حقاً .

إشترك في قائمتنا البريدية