بين إنزال وإبحار: سلال تغذية غزّة ونفاق الإشفاق

حجم الخط
0

25 منظمة دولية معنية بشؤون الإغاثة وحقوق الإنسان وقّعت، مؤخراً، على بيان مشترك تحت العنوان التالي: «غزّة: الإنزال الجوي والطرق البحرية لا يمكن أن تكون بديلاً عن إيصال المساعدات عن طريق البرّ». وهذا، بالطبع، منطق بسيط متفق عليه، لأنه خلاصة بديهية لا تقلّ بساطة، ولا تحتاج إلى أخذ وردّ واختلاف وقبول.

ما خلا، بالطبع هنا أيضاً، حين تكون خيارات إنزال سلال التغذية من السماء، أو الإبحار بها من شواطئ قبرص، بمثابة أقصى ما يمكن للنفاق أن يبلغه بصدد الالتفاف على الحقيقة الكبرى، المنطقية والبديهية بدورها: أنّ دولة الاحتلال ترفض فتح المعابر البرية (رفح، كرم أبو سالم، بيت حانون، والمنطار/ كارني) أمام دخول المساعدات إلى 2,4 مليون آدمي غزاوي؛ وأنّ الدول نصيرة الاحتلال، الولايات المتحدة وغالبية دول أوروبا واتحادها الهمام، لا تملك (بافتراض أنها ترغب أصلاً في استخدام) أية وسيلة للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو للسماح باستخدام الطرق البرية.
وفي عداد الجهات الموقعة على البيان هنالك منظمة العفو الدولية، أوكسفام، أطباء بلا حدود، أطباء العالم، الرابطة الدولية لحقوق الإنسان، ومنظمات أخرى أمريكية وفرنسية وإيطالية ونرويجية ودانمركية وسويدية؛ بعضها يختصّ بإغاثة المعوقين، أو بالتعاون بين الجنوب والجنوب، والإغاثة الإسلامية، وتحالف حماية الأطفال، وأنساق الرعاية المختلفة.
وهذا التنوّع يفسّر النبرة الصريحة التي يعتمدها نصّ البيان لإدانة نفاق الدول المنخرطة في عمليات الإنزال الجوي أو الشحن البحري للمساعدات أو حتى تشييد الرصيف العائم، من جهة؛ واستمرار تزويد دولة الاحتلال بالأسلحة الفتاكة كافة، وبمليارات المساعدات المالية، والمساندة السياسية والدبلوماسية والإعلامية، والولايات المتحدة في الصدارة بهذا الصدد، من جهة ثانية.
يقول البيان: «لا يمكن لهذه الدول أن تتلطى خلف عمليات الإنزال الجوي أو الممرات البحرية لخلق وهم بأنها تستجيب على النحو المطلوب لاحتياجات غزّة (…) ويجب منح الأولوية لمطلب وقف إطلاق النار ونقل المساعدات الإنسانية عن طريق البرّ»؛ إلى داخل القطاع الفلسطيني المحاصَر أصلاً، والخاضع لشتى أشكال القصف منذ خمسة أشهر.
صحيح أنّ روحية البيان ليست جديدة، وقد سبق أن تكررت مراراً في بيانات مماثلة صدرت عن منظمات وهيئات نظيرة، بصيغة انفرادية أو جماعية؛ وصحيح، كذلك، أن عدد الموقعين على البيان الأخير لافت من حيث نوعية التخصص الإنساني أو الإغاثي، وتنوّع الجنسيات ومواقع العمل. لا يقلّ صحة، في المقابل، أنّ هذا التحرّك هو الأبرز حتى الساعة ضمن السياقات الراهنة من سيرورة حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ القطاع؛ سواء لجهة التحولات النسبية في مواقف التأييد العشوائي المبكرة لدولة الاحتلال، التي اتخذتها الديمقراطيات الغربية في أعقاب «طوفان الأقصى»؛ أو في الاستعصاء الميداني العسكري، الذي يواصل جيش الاحتلال مغالبته في مختلف مناطق القطاع.
للبيان، إلى هذا، أهمية خاصة في تنبيه الرأي العام، على صعيد عالمي أوّلاً ثمّ أصعدة أخرى محلية أو إقليمية تنشط فيها الجهات الموقّعة، إلى مقادير النفاق في طرائق التحايل على الأوضاع الإنسانية المأساوية المزرية داخل القطاع، وما يقترن بها أو ضمنها من جرائم حرب صريحة شنيعة. وفي الأساس يجوز الافتراض بأنّ لجوء الدول نصيرة الاحتلال إلى خيارات إلقاء سلال الغذاء من الجو أو الرسو بها على شواطئ تحت رقابة الاحتلال، ليس في نهاية المطاف سوى قرار الاضطرار الذي يسعى إلى دغدغة احتجاجات شعبية باتت اليوم تتجاوز الشوارع إلى أروقة الحكومات ومنصات البرلمانات.
وبهذا المعنى فإنّ توقيت البيان يعرّي الكثير من عناصر النفاق التي يتمّ تمويهها خلف صفة الإشفاق، تماماً كما فعلت مشاهد إلقاء طرود المساعدات على رؤوس أهل غزّة، المتلهفين إلى علبة حليب تغذّي رضيعاً أو لقمة تسدّ جوع طفل.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية