بعد مقتل نائل… فرنسا بين عنف الشرطة واندماج المهاجرين

آدم جابر
حجم الخط
0

باريس ـ «القدس العربي»: بعد أن خيم العنف وأعمال الشغب والتخريب النهب على فرنسا الأسبوع الماضي، على خلفية مقتل المراهق نائل البالغ من العمر سبعة عشر عاماً على يد شرطي أثناء رفضه الامتثال لتفتيش مروري في مدينة نانتير بضاحية العاصمة الفرنسية باريس، في مشاهد ذكرت بأحداث الشغب التي اجتاحت فرنسا عام 2005 بعد مقتل زيد وبونا، عادت الأمور إلى طبيعتها تدريجياً هذا الأسبوع، وإن كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدا «شديد الحذر» بشأن العودة التامة إلى الهدوء، قائلاً إن ما وصفها بـ«ذروة العنف الحضري» قد مرت، إلا أنه دعا إلى توخي الحذر في الأيام والأسابيع المقبلة، مُعلناً عن قانون طوارئ لتسريع إصلاح تداعيات الاضطرابات الاقتصادية. غير أن أعمال العنف والتخريب والنهب الليلية هذه التي قوضت صورة فرنسا خارجياً، تركت الباب مفتوحاً أمام سيل من التساؤلات أو النقاشات، بما في ذلك حول سلوك قوات الأمن في فرنسا وموضوع الهجرة واندماج المهاجرين.

فقد أعاد مقتل المُراهق نايل على يد شرطي شرطي يدعى فلوريان ويبلغ من العمر 38 عاما مجدداً الجدل حول «عنف الشرطة» لاسيما أن هذه الواقعة أعادت إلى الأذهان أيضاً وقائع أخرى مماثلة لعبت فيها الصور والفيديوهات دوراً رئيسياً في تفنيد روايات الشرطة حولها. ففي حالة نائل، فإن الرواية الأولى التي قدمتها بعض وسائل الإعلام، من مصادر بالشرطة، فإن المراهق حاول دهس أحد الشرطيين اللذين أوقفاه، وهو ما لا يتوافق مع الفيديو الذي نشره أحد الشهود بعد بضع دقائق من الحادثة والذي انتشر كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي. قبل نائل، تعرض المنتج الموسيقي أسود البشرة ميشيل زيكلير للضرب المبرح على أيدي عدد من أفراد الشرطة، واصفين إياه بـ«الأسود القذر» في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2020 بباريس. وهنا أيضاً فند المشهد الذي تم تصويره بواسطة فيديو المراقبة ومن قبل الجيران رواية الشرطة التي تحدثت عن عدم ارتداء الضحية للكمامة (كانت إجبارية وقتها بسبب كوفيد-19) وتعاطي الحشيش. وقد تمت متابعة فيديو الواقعة من الملايين، وقوبل بموجة غضب عارمة، تم بعدها إيقاف رجال الشرطة المعنيين وتوجيه إليهم تهمة «العنف المتعمد من جانب شخص يتولى سلطة عامة» و«الكذب في وثائق رسمية» تماشياً مع ما طلبته نيابة باريس العامة. تعليقاً على هذه الحادثة وغيرها، أٌقر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوجود «حالات عنف على يد عناصر في الشرطة» لكنّه ندد بعبارة «عنف الشرطة» التي صارت وفقاً له «شعارا لمن لهم مشروع سياسي» مندداً في الوقت نفسه بأعمال عنف يقع ضحيتها عناصر في الشرطة. وأعلن ماكرون وقتها عن إطلاق منصة وطنية من أجل الإبلاغ عن التمييز العنصري، قائلا: «حاليا عندما يكون لون بشرتنا غير أبيض، فإننا نتعرض للتفتيش أكثر بكثير، ويتم تحديدنا كمشكلة وهذا أمر لا يطاق».

مقاطع الفيديو الموثق

قبل حادثة ميشيل زيكلير بأشهر، تحديداً في شهر كانون الثاني/يناير عام 2020 انتشرت مقاطع فيديو سيدريك شوفيات، وهو عامل في توصيل الوجبات السريعة على دراجة سكوتر، والذي أصيب بنوبة قلبية وتوفي بعد يومين، وذلك بعد أن ظهر في أحد مقاطع الفيديو التي تم التقاطها وهو ملقى على الأرض خلال عملية تفتيش للشرطة في باريس، ويقول بأنه يختنق تسع مرات، ما قوض رواية الشرطة التي تدعي أنها لم تسمع ذلك. وبينما أثارت وفاة جورج فلويد في الولايات المتحدة (وهي قضية لها أوجه تشابه مع وفاة سيدريك شوفيات) مظاهرات في فرنسا، أعلن وزير الداخلية الفرنسي وقتها كريستوف كاستانير التخلي عن تقنية «مفتاح الخنق». غير أن هذا القرار أثار انتقادات شديدة من نقابات الشرطة، التي تظاهرت احتجاجاً عليه. ويرى مراقبون أن ذلك ساهم بدرجة كبيرة في إقالة الوزير من منصبه في نهاية شهر تموز/يوليو عام 2020 رغم أنه يعد أحد المقربين من الرئيس إيمانويل ماكرون. وخلال أزمة «السترات الصفراء» عام 2018 تصاعد الجدل حول «عنف الشرطة» في ضوء المواجهات العنيفة التي عاشت البلاد على وقعها لأسابيع بين الشرطة وبعض المتظاهرين الذين يصورون أنفسهم لساعات على فيسبوك ويوثقون عنف الشرطة الذي يتعرضون له.
وبينما كانت البلاد تعيش على وقع احتجاجات «السترات الصفراء» التي تخللتها أعمال عنف ونهب وتكسير من بعض المتظاهرين، واستخدام الشرطة للقوة، وجهت انتقادات لاذعة لأساليب قوات مكافحة الشغب، خاصة لاستخدامهم ما يعرف بـ«LBD» أي الجيل الجديد من مسدّسات الكرات المطاطية التي يطلق عليها «فلاش بول» والتي تسببت في إصابة خطيرة في صفوف عشرات المتظاهرين. وهو ما أدى إلى ارتفاع العديد من الأصوات الحقوقية والسياسية المطالبة بمنع استخدام هذا السلاح، الذي تعتبر وزارة الداخلية ونقابات الشرطة بأنه السلاح الوحيد غير القاتل الذي يتيح لرجال الشرطة مواجهة العنف الذي يتعرضون له من بعض المتظاهرين، خاصة مما يعرف بمجموعات «البلاك-بلوك». قبل هذه الملفات المختلفة، التي يمكن أن نضيف إليها قضية بينالا، عندما تم تصوير هذا المساعد المقرب لإيمانويل ماكرون وهو يضرب أحد المتظاهرين في أيار/مايو عام 2018 لعبت تسجيلات الفيديو لاعتقال تيودور لوهاكا دورًا أيضًا في الصدى المعطى لتاريخها. فقد أصيب هذا الشاب أسود البشرة البالغ من العمر 22 عامًا، بجروح خطيرة في فتحة الشرج بواسطة عصا تلسكوبيه في الثاني شباط/فبراير 2017 أثناء اعتقاله في ضاحية سين سان دوني الباريسية. وقد التقطت كاميرات المراقبة المشهد.

معالجة مشاكل العنصرية والتمييز

تفاعلت الأمم المتحدة مع مقتل المراهق نائل داعية السلطات الفرنسية إلى «معالجة مشاكل العنصرية والتمييز المتجذرة في صفوف قوات الأمن». وهي دعوة أزعجت وزارة الخارجية الفرنسية، التي أوضحت أن «استخدام القوة من قبل الشرطة والدرك يخضع لمبادئ الضرورة والتناسب، تحت إشراف ورقابة صارمة». غير أن تزايد الحالات التي يتم فيها الحديث عن «عنف الشرطة» وتشابهها، يضع السلطات في بضع الأحيان في وضع حرج. ففي العام الماضي 2022 وحده، سجلت البلاد رقماً قياسياً في عدد الأشخاص الذين قتلوا على يد شرطيين بعد رفضهم الامتثال لعمليات تدقيق مرورية. وقد وصل عددهم إلى 13 قتيلاً. وعلى مدى السنوات العشرين الماضية، كانت الشرطة الفرنسية هي التي قتلت أكبر عدد من المواطنين في أوروبا، حيث قتل 444 شخصًا بسلاح ناري بين عامي 1977 و2020. وبالتالي، فقد تراكمت بين عامي 2011 و2020 عدد الوفيات المنسوبة إلى إطلاق النار على أيدي الشرطة.
بعد موجة الهجمات الإرهابية التي هزت فرنسا في عامَي 2015 و2016 طرحت الحكومة في شباط/فبراير 2017 قانونًا يخفّف، من نواح معيّنة، الشروط القانونية لإطلاق النار من قبل الشرطيين، لا سيّما في سياق رفض الامتثال. لاحظ باحثون أن هذا القانون الجديد زاد من عدد حوادث إطلاق النار المميتة على مركبات خلال تحرّكها بخمسة أضعاف. وعاد هذا القانون ليثير الجدل مرة جديدة. كما أن التحقيقات التي تجريها المفتشية العامة للشرطة المتّهمة بانتظام بحماية الموظفين الحكوميين المستهدفين بقضايا من هذا النوع، تثير أيضًا الجدل. وعاد أيضا موضوع عنف الشرطة وانتهاك الحريات ليتصدر المشهد السياسي الفرنسي، بعد طرح الحكومة لمشروع قانون «الأمن الشامل» الذي تنص المادة 24 منه على عقوبة بالسجن لسنة ودفع غرامة قدرها 45 ألف يورو لكل من ينشر صورة أو فيديوهات لعناصر من الشرطة والدرك بدافع «سوء النية». ويعتبر معارضو هذا النص، بمن فيهم صحافيون ومدافعون عن الحريات والأحزاب اليسارية خاصة، يعتبرون بأنه «يقمع الحريات» ويشددون على أنه بفضل عدسات كاميرات الصحافيين وهواتف مواطنين، تم الكشف عن العديد من الاعتداءات العنيفة التي يرتكبها أفراد من الشرطة. ويطالب هؤلاء بإنشاء وكالة مراقبة خارجية
فعلية للشرطة تتمتّع بالموارد الكافية واللازمة.

استطلاع

أظهر استطلاع أجراه «المعهد الفرنسي للرأي العام» بعد مقتل الشاب نائل أن 30 في المئة فقط من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا يقولون إن لديهم «ثقة» في الشرطة. وفي نفس السياق، أظهر استطلاع أجراه معهد «إيفوب» لصحيفة «لوفيغارو» بعد مقتل نائل أن 57 في المئة من الفرنسيين المستطلعة آراؤهم يثقون في الشرطة أو يتعاطفون معها. وعلى العكس من ذلك، فقد قال 32 في المئة منهم إنهم يشعرون بالقلق أو العداء تجاه الشرطة. ومنذ عام 2021 تواجه الدولة الفرنسية قضية أمام مجلس الدولة بعد دعوى جماعية رفعتها مجموعة منظمات غير حكومية ضد «عمليات تمييزية للتحقق من الهوية» شجبها خصوصًا شباب يتحدرون من أحياء شعبية أو مهاجرون. وكان تقرير صادر عام 2017 قد أكد أن الشاب الذي يُنظر إليه على أنه أسود البشرة أو عربي معرّض أكثر بعشرين مرة للخضوع لتوقيف وتدقيق من عامّة السكّان.

الهجرة والمهاجرون

علاوة على مسألة استخدام الشرطة للعنف، فقد أثارت أعمال الشغب التي أعقبت مقتل نائل، دعوات لتشديد القيود على الهجرة، في ظل ربط شخصيات يمينية ويمينية متطرفة لأعمال العنف والتخريب والنهب هذه بالمهاجرين ومسألة الاندماج. فقد أدلى رئيس كتلة حزب «الجمهوريون» اليميني الديغولي في مجلس الشيوخ، برونو روتايو، بتصريحات وُصفت بأنها «عنصرية فجّة» بعد قوله إنّ الشبّان الذين شاركوا في أعمال الشغب التي شهدتها البلاد الأسبوع الماضي والذين يتحدّر بعضهم من أصول مهاجرة «رجعوا إلى أصولهم العرقية». وقال هذا الأخير في حديث لإذاعة «فرانس انفو» خلال تعليقه على أعمال الشغب التي اندلعت بعد مقتل الشاب نائل إنّ هؤلاء الشبّان «هم حتماً فرنسيون، لكنّ على بطاقة الهوية فقط».
وعلى نفس المنوال تحدث إريك زموز، زعيم حزب «الاستراد» اليميني المتطرف، فقد اعتبر أن ما حدث في أعقاب وفاة نائل «هو نتيجة لسياسة الهجرة الجنونية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة خلال 40 عاما» مشددا على أنه «لو كان في السلطة لأوقف الهجرة أولاً فورا، وطرد المجرمين في نهاية فترة عقوبتهم والعاطلين عن العمل من الأجانب». وهو كلام لا يختلف في جوهره مع ما صرح به بيير بروشاند، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية سابقاً (المدير العام للمديرية العامة للأمن الخارجي DGSE) من عام 2002 إلى عام 2008) وسفير فرنسا سابقا في المجر وإسرائيل. هذا الأخير، اعتبر أن فرنسا تشهد ثورة ضد الدولة الوطنية من قبل جزء كبير من الشباب من أصل غير أوروبي الموجودين على أراضيها. كما اعتبر أن أعمال العنف والشغب والتخريب والنهب التي شهدتها البلاد الأسبوع الماضي هي نتيجة لعقود من العمى والدعاية تجاه هجرة لم يتم قياس نتائجها، على حد تعبيره.
بدورها، اعتبرت زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف ماريان لوبان، أن أعمال الشغب التي تلت مقتل نائل على يد شرطي «من الواضح» أن لها صلة بالهجرة، مضيفة أن «الواقع هو أن هناك أغلبية كبيرة من الأشخاص الذين شاركوا في أعمال الشغب من الأجانب أو من أصول أجنبية». وعزت ذلك إلى فشل الحكومات المتالية في سياسة الاندماج بالنسبة للمهاجرين.
وبالعودة إلى الإدانات التي صدرت ضد بعض المشاغبين، اعتبرت مارين لوبان أن «ذلك لا يحل مشكلة التراخي القضائي، الذي أدى إلى الفوضى تدريجياً بسبب الشعور بالإفلات من العقاب». ويُعد الردّ الجنائي أحد مواضيع الجدل والتحديات أمام الحكومة الفرنسية ما بعد مقتل نائل وأعمال الشعب والعنف التي أشعلها. وقد طالب وزير العدل إريك دوبوند موريتي، بردّ جنائي «سريع وحازم ومنهجي» بما في ذلك ما يتعلق بالقصر وأولياء أمورهم، الذين هدد بمحاسبتهم بعقوبات تتراوح بين السجن لمدة عامين وغرامة مالية قد تصل إلى مبلغ ثلاثين ألف يورو. وذكّرت الحكومة، في تعميم أصدره وزير العدل بمسؤوليتهم المدنية عن الجرائم التي يرتكبها أطفالهم. في مواجهة صغر سنّ بعض الموقوفين خلال أعمال الشغب، انتقد جزء من الطبقة السياسية «تراخي» الأهل. وتقول منظمة «فامي دو فرانس» إن «الاستياء عميق لكنه تربوي واجتماعي أيضًا». في المقابل، اعتبر رئيس الجمهورية السابق، الاشتراكي، فرانسوا أولاند، أن أعمال الشغب التي وقعت بعد وفاة نائل لم تكن مرتبطة بـ «مشكلة الهجرة» موضحا أن الأفراد الذين يقفون وراء أعمال العنف هم «أبناء الجيل الثالث والرابع والخامس» من المهاجرين. ودعا أولاند
إلى «تعميق» نموذج فرنسا الاجتماعي والجمهوري مرة أخرى، قائلاً إن هناك عدة وسائل ممكنة لمحاولة «منح هؤلاء الأفراد الفخر لكونهم فرنسيين» بما في ذلك «المدرسة» و«احترام القواعد» و«القدرة على التطور» أو حتى «الشخصيات التمثيلية للفرنسيين اليوم».
في حين، شدد وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان على أنّ 90 في المئة من الذين تمّ توقيفهم على خلفية أعمال العنف والتخريب والنهب هم مواطنون فرنسيون، وأن عدد الأجانب من بين الـ4 آلآف الذين تم توقيفهم لا يتجاوز نسبة الـ10 في المئة، داعياً إلى عدم خلط الأمور ووصم الأجانب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية