بعد حمص: من مفاوضات الوكلاء إلى مفاوضات أصحاب الحل

حجم الخط
0

ما حدث في حمص، في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، لا يشبه في شيء سوابق هدنات أجراها النظام، بمساعدة من ‘معارضين معتدلين’ في بعض الأرياف المحيطة بدمشق، بعد بلوغ استراتيجيته العسكرية القائمة على نهج ‘الجوع حتى الركوع’ خواتيمه المتوقعة.
فقد خرج شبان حمص المسلحون الثائرون من أحيائهم المحاصرة، والسلاح على الكتف، إلى المناطق المحررة من ريفها الشمالي ليستأنفوا منها حملتهم المسلحة الهادفة إلى إسقاط النظام. قايضوا النظام أطلال مدينة باتت مغادرتها مؤكدة، بحريتهم واستئناف كفاحهم البطولي من جبهات أخرى.
للوهلة الأولى بدا سقوط ‘عاصمة الثورة’ بعد حصار مديد وحرب قاهرة بالطائرات والصواريخ، انتكاسة مؤسفة لمصلحة النظام على أعتاب انتخاباته الرئاسية التي يريد منها بث اليأس في قلوب السوريين بالقول إنه باق على صدورهم لسبع سنوات إضافية ببرنامج بنده الوحيد هو تركيعهم واستعبادهم إلى أبد الآبدين. غير أن هدنة حمص المختلفة التي أدت إلى خروج مقاتليها بسلاحهم، انطوت على ما يجعلنا نعيد النظر في هذا الذي يراد لنا قراءته منها. قبل كل شيء، لم يكن المفاوض باسم النظام سورياً، بل تولى الأمر ضباط إيرانيون من الحرس الثوري لم يعدموا، برغم ثلاثة عقود ونيف من ثورة الملالي وسلطان الولي الفقيه وصخب الممانعة الصوتي، مهارات تاجر البازار الراسخة في الثقافة الفارسية التقليدية. وربما هذا ما يفسر نجاح هذه المفاوضات مقابل الفشل الفاضح لقرينتها السياسية في مؤتمر جنيف رقم 2، حيث تولاها من جانب النظام روبوتات بذيئة لا تميز بين اجتماع جماهيري لحزب البعث، حيث الكذب الصفيق هو الكلام لا ملحه وحسب، ومؤتمر سياسي يجمع قوى دولية فاعلة.
تتحدث تسريبات مختلفة، هذه الأيام، عن مبادرة سياسية إيرانية للحل في سوريا. مبادرة تنطلق من اعتبار الانتخابات الرئاسية التي سيفوز فيها مرشح طهران، بشار الأسد، أمراً واقعاً تبني عليه حلاً متكاملاً مستديماً من وجهة نظرها. يقال إن الإيرانيين قدموا هذه الأفكار إلى الدول المعنية بالمسألة السورية وتنتظر تجاوباً منها. ربما في هذا الإطار أيضاً جاءت الدعوة السعودية إلى وزير الخارجية الإيراني لزيارة الرياض التي أعلنت بالتزامن مع وجود وزير الدفاع الأمريكي فيها. بكلمات أخرى، ما دام الانكفاء الأمريكي عن تدخل فعال في سوريا مستمراً، وما دام تدخلها السلبي بمنع قوى أخرى من التدخل الفعال، يمكن القول إن المسألة السورية تركت لبعض الفاعلين الاقليميين. وإذا كان فشل مؤتمر جنيف أمراً مسلماً به من جميع الأطراف، وتحول من همس إلى صخب بعد إعلان استقالة الأخضر الابراهيمي، فلا بد من تجريب ما لم يجرب. الإيرانيون الذين استبعدتهم الولايات المتحدة من ‘وليمة جنيف’ السياسية الفاسدة، أثبتوا لأصدقائهم وخصومهم معاً بأنهم المفاوض الوحيد الذي حقق نتائج ملموسة في حمص، ويتطلعون اليوم لتعميم هذا النموذج على سوريا ككل. تقوم المبادرة الإيرانية، وفقاً للتسريبات، على نوع من تقاسم السلطة يحتفظ فيه العلويون بقيادة الجيش، ويتقاسمون السلطة على الجهاز الأمني مع رئيس الوزراء الموسع الصلاحيات، على أن تترك أمور الإدارة والاقتصاد للمعارضة. وكل ذلك مقروناً بالتسليم ببقاء بشار في منصبه مع تخل نسبي عن قسم من صلاحياته الواسعة.
هل يمكن للقوى المناوئة أن تقبل بحل سياسي من هذا النوع؟ الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون قد لا يجدون غضاضة في حل مماثل، ما دام هاجسهم الأول في سوريا هو إرهاب منظمة ‘القاعدة’ أكثر من اهتمامهم بإسقاط نظام الأسد الذي يطرح نفسه شريكاً لهم في مكافحة الإرهاب، والأهم من ذلك أن القوى الدولية المذكورة لا تملك برنامجاً بديلاً في سوريا في ظل سياسة الانكفاء الأمريكية التي تعزي نفسها عن انخفاض هيبتها بواقع إنهاك الإيرانيين والروس في المستنقع السوري.
ولكن إذا كان التدويل المفرط للمسألة السورية قد أخرج الحل من يد السوريين، فما زال هؤلاء قادرين على تعطيل أي حلول دولية مطروحة لا ترضي الحد الأدنى من تطلعاتهم. ويمكن القول إن هذا الحد الأدنى يتمثل، بعد كل هذا الدم والخراب، في محاسبة رؤوس النظام الأمنية والسياسية على الفظائع التي ارتكبتها طوال أكثر من ثلاث سنوات، وهذا يعني بداهةً أن تلك الرؤوس لا مكان لها في أي سلطة انتقالية. أي أن المبادرة الإيرانية المسربة قائمة على أساس فاسد لا يمكن للسوريين أن يقبلوا به.
بيد أن براعة تاجر السجاد العجمي إنما تكمن في إقامة سوق المساومات. في الوقت الذي يطرح فيه حله السياسي ‘الممكن’ تنطلق تصريحات متشدديه بصدد الحدود الإيرانية التي تصل إلى شاطئ البحر المتوسط في جنوب لبنان، ويعلنون عن إعداد 130 ألف مقاتل إيراني للقتال في سوريا بدلاً من قوات النظام المنهارة، وعن جمع التبرعات وتمويل قتال الأفغانيين الشيعة في سوريا، ويتشدد مفاوضهم في الجولة الأخيرة من المفاوضات حول الملف النووي. هي إذن سياسة العصا والجزرة: إما بقاء النظام التابع لهم في دمشق واستمرار الحرب إلى أجل غير مسمى، أو بقاؤه في إطار حل سياسي يفرضونه على خصومهم، أثبتوا نجاعته في نموذج حمص.
فالوجه الآخر لاتفاق حمص هو قدرة الطرفين المفاوضين على الالتزام بتعهداتهما على رغم وجود أطراف أخرى من شأنها تعطيل أي اتفاق. فكما أرغم الإيراني شبيحة الأسد على السماح لمقاتلي حمص بالخروج مع سلاحهم الفردي من غير أن يتعرضوا لهم، تمكنت ‘الجبهة الإسلامية’ من إلزام مجموعات مسلحة أخرى، في مناطق أخرى، بإطلاق أسرى العلويين والإيرانيين والروس وبإدخال قافلة مساعدات إلى الشيعة المحاصرين في قريتي نبل والزهراء شمال مدينة حلب. الخلاصة أن فشل المفاوضين الوكلاء، النظام السوري والائتلاف الوطني لقوى المعارضة، أفسح المجال للأصلاء، إيران والجبهة الإسلامية، ليحتلا موقعيهما على طاولة المفاوضات.

‘ كاتب سوري

بكر صدقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية