«برلين السينمائي»… مناسبة فلسطينية رغماً عنه

حجم الخط
0

حفل الختام لمهرجان برلين السينمائي، الشهر الماضي، كان بداية لكرنفال تحريضي من قبل إعلاميين وسياسيين ألمان، على المهرجان وحفله، وتحديداً كلمات الفائزين والمحكمين، والكوفيات التي طبعت دورة هذا العام من البرلينالي، ما جعل المهرجان (السينمائي) عرضةً لاتهامات باللاسامية في الإعلام الألماني.
قبل اليوم الأول من المهرجان، كان موقف البرلينالي من الحرب الإبادية على قطاع غزة حيادياً، حذراً. أُخذ عليه عدم التصريح بشيء تضامناً مع الضحايا الفلسطينيين، لكونه مهرجاناً سياسياً كذلك، وأكثر من زميليه (كان وفينيسيا السينمائيين) فلا يترك مناسبة (إيرانية أو أوكرانية أخيراً) إلا ويدلي بدلوه فيها، بياناتٍ وبرمجةً وتظاهرات. لكن هذه الحيادية، كذلك، أُخذت كموقف متقدّم في اعتبار أنه ألماني، هناك حيث تحوّلت المؤسسات الثقافية والداعمة للمشاريع الثقافية إلى ماكينة مكارثية تنقضّ على كل مناصر للقضية الفلسطينية، في استعادة تلقائية لماضٍ نازي لتلك البلاد المأزومة بتاريخها الأسود.
خلال المهرجان الذي يصنع قيمته الفنانون المشاركون فيه (كأي مهرجان آخر) حضرت دعوات التضامن مع الفلسطينيين، من خلال الكوفيات، التي يندر أن يمر يوم في قصر المهرجان وباحاته دون رؤية أحدهم يعتمر إحداها، من النقاد إلى الفنانين مروراً بالجمهور. ومعها دعوات إلى وقف إطلاق النار، معلقة على ملابس المدعوين، في الافتتاح والختام والعروض بينهما، كالمخرجة الأمريكية اليهودية إليزا هيتمان، التي نالت مسبقاً جائزة لجنة التحكيم الكبرى.
الصور والفيديوهات الرسمية الصادرة عن المهرجان، وصفحات المدعوّين على المواقع المختلفة، جعلت من الحضور الفلسطيني، برموزه أو نداءاته، سمةً من سمات هذه الدورة من البرلينالي، وهو ما كان خارج نطاق سيطرة إدارة البرلينالي وإرادة داعميه من المؤسسات الحكومية والبلدية الألمانية.
تعرّض «برلين السينمائي» بإدارته الفنية، لتحقيقات مكارثية مبكرة، منذ اختيار رئيسة لجنة التحكيم، بسؤال إحدى الصحف المحلية لمديرة المهرجان عن اختيار الممثلة الكينية المكسيكية لوبيتا نيونغو، التي كانت وقّعت مع نجوم آخرين رسالة إلى الرئيس الأمريكي، تدعوه إلى الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار. واستفسرت الصحيفة (كأنّ المقابلة أجريت في غرفة تحقيق) إن كان المهرجان تداول ذلك قبل اختيارها، ما كان إشارة إلى مستوى الانحطاط لهذه الصحافة، وما سيمتد إلى ما بعد المهرجان وحفل ختامه.
الحدث الأكثر إزعاجاً لتلك المكارثية كان حفل الختام والكلمات التضامنية التي ألقاها الفائزون والمحكّمون، وهؤلاء أتوا من كل العالم. فلا يمتلك الألمان سلطة عليهم. وكانت الكلمات ملفتة لكثرتها، كأنّ في موقع المهرجان، العاصمة الأشد دعماً لتل أبيب، ما شجع هؤلاء على التصريح بتضامنهم مع فلسطين، وإدانتهم لإسرائيل، بدءاً بالممثلة الإيطالية جازمين ترينكا، العضو في لجنة التحكيم، مروراً بفائزين، منهم من اعتمر كوفية، مثل الأمريكي بن راسل، وانتهاءً بالفائزة بالدب الذهبي، الفرنسية السينغالية ماتي ديوب.

النتيجة أن حفل الختام، وليس فقط مسابقته الرسمية، كان أقرب لمناسبة تضامنية عالمية مع القضية الفلسطينية، من خلال الكلمات والتصفيق لها، وهو ما ضيّق الخناق على إعلاميين وسياسيين ألمان تهجّموا على المهرجان من بعد ختامه، بشكل مسعور نراه في سلوك وكلام موظّفي فاشيات سياسية. لعلّ أكثر ما ضايقهم كان نيل فيلم لمجموعة نشطاء فلسطينيين وإسرائيليين، «لا أرض أخرى» جائزتي «أفضل وثائقي» و»الجمهور» وكلمة كلٍّ من مخرجَيه الفلسطيني والإسرائيلي الفاضحتين للسياسة الألمانية وحليفتها الإسرائيلية، تحديداً في مطالبة الفلسطيني باسل عدرا في كلمته، الحكومة الألمانية بالامتثال لقرارات الأمم المتحدة، والتوقف عن إرسال السلاح لإسرائيل.
تزامن مع ذلك، خلال المهرجان، بيان من مئات العاملين في البرلينالي، يطالبون الإدارة بالتصريح بمطلب وقف إطلاق النار. فضلا عن احتلال ناشطين مبنى «السوق الأوروبي» في المهرجان، ورفع لافتات ورمي مناشير تدعو لوقف الإبادة. كل هذا، بالتزامن مع وقفات لمتضامنين في ساحة بوتسدام، قرب قصر المهرجان، وغيره، مما جعل المهرجان مناسبة فلسطينية رغماً عنه.
من بعد حفل الختام، أصدرت إدارة المهرجان بياناً جباناً تنتقد فيه التصريحات «الأحادية» المنتقدة لإسرائيل، متبرئة منها، وذلك بعد الهجوم المسعور، الإعلامي والسياسي الألماني، على المهرجان، بسببها، واتهامه، كمهرجان، بكونه معاد للسامية. كما أعلنت وزيرة الثقافة فتح تحقيق حول حفل الختام وتهمَ معاداة السامية تجاه المندّدين بالحرب الإسرائيلية، في تفاهة ألمانية لا سقف لها. بعدها، وفي درس أخلاقي لا أمل في أن يتعلّم منه الألمان، أصدر المدير الفني لدورة هذا العام من المهرجان، والأعوام الأخيرة، الإيطالي كارلو شاتريان، ومسؤول البرمجة، الكندي مارك بيرانسون، بياناً مشتركاً قالا فيه إن «الهجوم السياسي والإعلامي الألماني يجعل من اللاسامية سلاحاً وأداة لغايات سياسية… ومهما كانت آراؤنا ومعتقداتنا السياسية، يجب أن نبقي في أذهاننا أن حرية التعبير جزء أساسي في تعريف الديمقراطيات».
وصلت المهزلة الألمانية أقصى حالاتها في محاولة الدولة بأجهزتها، فرض سياستها الخارجية في التعامل مع مهرجان له قيمة دولية كبرى، ويمتلك فيه الفنانون حق التصريح الحر لدقائق، حال استلامهم الجوائز، كأن المهرجان واجهة لبروباغاندا ألمانية (كما كان مهرجان فينيسيا في زمن الفاشية) لا مساحة لأفلام السينمائيين، ولأفكارهم ومواقفهم. فبهم أولاً يتخذ المهرجان مكانته.
مقابل حالة التجييش المحلي ضد المهاجرين والأجانب، مع حضور قوي لحزب اليمين المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» المعروف بكونه امتداداً للنازية، في مؤسسات الدولة، مقابل هذا كله كان المهرجان فضحاً، لا للموقف المخزي للدولة الألمانية ومؤسساتها الرسمية والموالية، تجاه الإبادة في قطاع غزة، وحسب، بل لعموم التوجه الألماني في دعم دولة الاحتلال. فالمهرجان عالميٌّ بضيوفه، ولا يمتلك أن يتحكم في مواقفهم، وإن طالب سياسيون بذلك في دوراته المقبلة، في ابتزاز صريح من رئيس بلدية برلين للإدارة الجديدة للبرلينالي، بقوله، في تغريدة، إنه يتوقع منها أن تضمن عدم تكرار أحداث كهذه.
كان المهرجان هذا العام، رغماً عن الألمان، مناسبة كبرى لإدانة إسرائيل. كانت المساحات مفتوحة لفنانين من كل العالم، قالوا ما لن يستطيع ألماني (أو فرنسي) قوله علناً، دون حملات قد توصله إلى المحاكم والإدانة والسجن، ودائماً بتهمة معاداة السامية، التي احترفها (المعاداة ثم التهمة) الألمان والفرنسيون قبل غيرهم من الأوروبيين. فلا يستغرب أحدنا أن يصرّح سياسي بأنه يشعر بالخزي لرؤية كل هذا التصفيق في بلده لكلمات انتقادية لإسرائيل، أو يتفوّه آخر بأن التصفيق، الذي تلا تلك الكلمات وعلاها، نقطة تدنٍّ ثقافية وفكرية وأخلاقية، أو أن تُساءل وزيرة الثقافة عن تصفيقها حين نال «لا أرض أخرى» جائزته، لتؤكد بسفاهة أن تصفيقها كان موجهاً للمخرج الإسرائيلي لا الفلسطيني. فلا قاع لمهازل الفاشيات.
كان المهرجان أخيراً، في ما سبقه وخلاله وفي ما لحقه تحديداً، دفعةً قوية للخطاب المتضامن مع القضية الفلسطينية، أظهر تكاتف هذه المواقف، وكثرتها، بما لم يتوقعه أحد، أظهر انسجاماً أكبر من المنتظَر، من المجتمع الفنّي في العالم، مع عدالة القضية الفلسطينية، وأظهر شرخاً بين هذا المجتمع من ناحية، ومجتمع المتنفّذين والسياسيين وأصحاب رؤوس الأموال، الإعلامية تحديداً، من ناحية أخرى. وأظهر، كذلك، هذا الانحطاط الأخلاقي المسيطر في ألمانيا، الذي يستعيد اليوم من التاريخ الحديث ثلاثينيات القرن الماضي، الأعوام الأولى للنازية.

كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية