انتقادات للوضع الحقوقي في تونس ودعوات للتدارك والإصلاح

حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: تتعرض السلطة في تونس إلى هجوم حاد من قبل أطراف عديدة ترى في المسار السياسي الذي انتهجه رئيس الجمهورية قيس سعيد منذ 25 تموز/يوليو 2021 تكريسا للاستبداد والتسلط وعودة إلى الديكتاتورية التي كانت سائدة قبل أكثر من عقد. وهذه الأطراف تمثل شرائح تونسية عديدة في مقابل وجود مؤيدين للرئيس سعيد حسب عمليات سبر الآراء، وصوت هذه الفئة المعارضة مسموع في الداخل والخارج وتجد آذانا صاغية خاصة في ظل تواصل الأزمة الاجتماعية.

وقد تصاعدت الأصوات المعارضة المنددة بانتهاك الحقوق والحريات مع اقتراب الانتخابات المحلية التي سيتم على إثرها تركيز المجالس المحلية والجهوية ومجلس الجهات والأقاليم وهو الغرفة الثانية للبرلمان التونسي التي تتمتع بصلاحيات هامة طبقا لدستور سنة 2022. ويتوقع أن تواصل هذه الأصوات ارتفاعها مع الإعلان عن النتائج وإثرها في ظل توقعات بحصول عزوف عن التصويت بدأ منذ انتخابات سنة 2019 مع شعور التونسيين بأن صناديق الاقتراع لم تغير شيئا في معيشتهم اليومية ونفورهم من الطبقة السياسية برمتها.

حرية التعبير

ومن بين المآخذ على السلطة الحاكمة في تونس إصدارها للمرسوم عدد 54 الذي يرى جانب هام من التونسيين أنه يقمع حرية الرأي والتعبير ويسلط سيف القضاء على الإعلاميين الذين وجهت لعدد منهم التهم وتم إصدار بطاقات إيداع بالسجن في حقهم على أساس هذا المرسوم. ويحصل ذلك في وقت لم تسارع فيه السلطة إلى تشكيل المحكمة الدستورية العليا التي لديها سلطة البت في دستورية القوانين وبالتالي إمكانية إلغاء هذا المرسوم الذي يرى منتقدوه أنه مخالف للدستور الذي يضمن حرية التعبير.
فالمحكمة الدستورية العليا هي حجر الزاوية في النظام السياسي باتفاق أغلب أطياف الشعب التونسي ومن خلال الدستور أيضا، وفي غيابها يمكن للسلطة التنفيذية أن تستأثر وحدها بالقرار وتستبد مثلما يحلو لها وتفعل ما تشاء من دون رقيب أو حسيب. ويؤكد البعض على أن تشكيلها سيمكن من البت في دستورية القوانين لا غير لكنها لن تمنع الاستبداد لا اليوم ولا غدا إذا لم يقع تعديل الدستور وتغيير شكل النظام من رئاسوي إلى رئاسي يمكن فيه للمحكمة الدستورية العليا أن تحاسب رئيس الجمهورية.
كما أن تركيبة المحكمة الدستورية العليا حسب الدستور الجديد تفتقد إلى النفس الحقوقي الذي يضمنه عادة وجود المحامين وإلى مواكبة تطورات البحوث في المجال القانوني والتي يؤمنها أساتذة القانون. فقد تم إبعاد ممثلي هذين القطاعين من تركيبة المحكمة وجعلها تقتصر على القضاة المتقاعدين رغم أنها ليست محكمة بالمفهوم التقليدي للمحكمة بل أن عملها فقهي بالأساس ومن الأفضل برأي البعض أن تتنوع فيها الآراء وتتعدد.

مواصلة على النهج

ويرى البعض أنه خلال الأعوام الماضية لم يكن التونسيون أفضل حالا في مجال حرية التعبير وقد حصلت أيضا محاكمات لصحافيين، وتم الاعتداء على إعلاميين من قبل هذا الفريق السياسي أو ذاك، وهجمت ميليشيات تابعة للنظام على مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل، وحصل ضرب وسحل لناشط سياسي معارض إلى حد الموت تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي، وتم منع التظاهر في الشوارع، وتم التنكيل بأشخاص في مراكز الإيقاف والسجون رغم هامش الحرية الذي كان سائدا فيما يتعلق بعديد الأطياف، وتتصاعد اليوم الانتهاكات مع المنظومة الحالية.
ويرى هؤلاء أن الوضع السياسي والحقوقي وإن كان أفضل بكثير مما هو عليه الحال في دول المنطقة لكنه لا يليق بمستوى وعي الشعب التونسي الذي راكم التجارب الإصلاحية منذ زمن قرطاج وصولا إلى زمن الحركة الإصلاحية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مرورا بتجارب القيروان وعلمائها ومفكريها. فتونس، أو قرطاج، أو إفريقية كما سماها العرب المسلمون حين كانت تضم أيضا شرق الجزائر والغرب الليبي، لا تقل أهمية عن الدول الغربية من حيث التاريخ الإصلاحي وبروز الأفكار التنويرية التقدمية بصورة مبكرة والتي كثيرا ما كانت تجد الصد من بعض الغارقين في محيطها العربي والإسلامي في الجمود والتحجر.
وبالتالي يرى هؤلاء أنه على النظام أن يعي ذلك جيدا وأن يدرك أن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء وأن القوى الحية وإن كانت تضع تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أولوية في الوقت الحاضر شأنها شأن عموم المواطنين، إلا أنها سرعان ما ستثوب إلى رشدها بعد تحقق هذه المطالب ليعود مطلب الحرية هو الأساس. وتاريخ تونس هو بامتياز تاريخ ثورات، وانتفاضات، ومطالبات بالإصلاح وتغيير الواقع، ومحاربة للاستبداد والتسلط في كل العهود وكل الحقب الزمنية دون استثناء.

مشروع مُسقط

ائتلاف صمود، هو أحد مكونات المعارضة التونسية يعتبر في بيان أصدره للتوقيع عليه من قبل كل من يشاطره الرأي أن السلطة القائمة بصدد مواصلة تنفيذ مشروعها السياسي المسقط على التونسيات والتونسيين، حيث وقعت دعوة أكثر من ثمانية ملايين ناخبة وناخب لانتخاب 279 مجلسا محليا في 2155 دائرة انتخابية يوم 24 كانون الأول/ديسمبر الماضي، دون أن يكون لهذه المجالس قانون أساسي يحدد دورها وصلاحياتها وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الدول والشعوب، حسب ما جاء في البيان.
ويعتبر الائتلاف أيضا أن هذه الانتخابات تأتي في ظل أزمة سياسية غير مسبوقة بعد فرض السلطة القائمة منحى استبداديا وقمعيا استهدف المعارضين والنقابيين والإعلاميين والمحامين والمثقفين وكل أصحاب الرأي الحر بالتضييقات والمحاكمات والاعتقالات، وهو ما يؤكد، حسب ائتلاف صمود، أن المنظومة السياسية التي تسعى السلطة لتركيزها لا تؤسس لدولة القانون الحامية للحقوق والحرية.
ويؤكد صمود أن دستور 2022 أنهى الانتقال الديمقراطي ومكن رئيس الجمهورية من كل السلطات ووضعه فوق كل مراقبة أو مساءلة أو محاسبة، وحول السّلطة التشريعيّة والسلطة القضائية إلى مجرد وظائف خاضعة للسلطة التنفيذية. ويأتي تركيز المجالس المحلية، حسب البيان، كخطوة إضافية تهدف لإضعاف السلطة المحلية وتشتيتها وجعلها هي الأخرى أداة طيعة في يد السلطة التنفيذية.
ويؤكد ائتلاف صمود على أن المحطة الانتخابية المقبلة، تأتي مرة أخرى بعد إقصاء الأحزاب السياسية ومحاصرتها والتضييق على المجتمع المدني، لمنع التعددية وإنهاء التداول السلمي على السلطة. وهي تمثل حسب الائتلاف حلقة أساسية في تركيز النظام القاعدي الذي يؤسس لنظام رئاسوي يتجه نحو الدكتاتورية.
وتدعو العريضة المفتوحة للتوقيع من قبل الشخصيات المستقلة والقيادات الحزبية والأعضاء والمنظمات والجمعيات كافة التونسيات والتونسيين إلى مقاطعة الانتخابات المحلية باعتبارها محطة أخرى لإلغاء مؤسسات الجمهورية الديمقراطية، وتعتبر المشاركة في هذه الانتخابات مساهمة في تكريس منظومة القمع والاستبداد. كما تدعو العريضة القوى الديمقراطية والتقدمية إلى توحيد صفوفها من أجل التصدي للمنحى الاستبدادي الذي انتهجته السلطة القائمة والعمل سويا على إيجاد الطرق والوسائل الديمقراطية الكفيلة بإنقاذ البلاد من الأزمة العميقة والشاملة التي تعيشها.

تضامن ودعم

كما عبر البعض في تدويناتهم على مواقع التواصل عن دعمهم المطلق وتضامنهم اللامحدود ومساندتهم الكاملة لبعض النشطاء الذين تم تتبعهم قضائيا، فعلى سبيل المثال اعتبر الناشر كارم الشريف أن محاكمة الباحثة والشاعرة شيماء عيسى هي امتحان حقيقي للعدل والعدالة والحرية والديمقراطية في تونس. كما عبر عن دعمه الكلي وتضامنه اللامحدود ومساندته المطلقة لكل من يحاكمون تحت طائلة المرسوم عدد 54 الذي نعته بمرسوم العار، وذلك رغم اختلافه الجذري واللامحدود مع جلهم، إنسانيا وسياسيا وفكريا وقيميا، على حد تعبيره.
واعتبر الشريف أن المرسوم المشار إليه معاد لحرية التعبير والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهو من أخطاء رئيس الدولة الذي عليه ان يلغيه ويعدمه، لأنه ضد تونس وتاريخها وشعبها. وتونس يريدها شعبها أن تتسع للجميع، وبالتالي فالاختلاف خلق ليكون نعمة لا نقمة برأي الشريف. كما عبرت هيئة الدفاع عن الناشطة السياسية شيماء عيسى عن تضامنها فأصدرت بيانا جاء فيه أن مندوبتهم تمثل أمام الدّائرة الجنائيّة بالمحكمة العسكريّة الابتدائيّة الدّائمة بتونس لمحاكمتها على خلفيّة تعبيرها عن آرائها ومواقفها السّياسيّة في تصريحات إذاعيّة. حيث وجهت لها على إثر هذه التصريحات الإذاعية، وحسب فريق الدفاع، تهم خطيرة، كارتكاب جرائم وتحريض العسكرييّن على عدم طاعة الآمر وإتيان أمر موحش ضد رئيس الدّولة وترويج ونشر أخبار وإشاعات كاذبة بهدف الإضرار بالأمن العام والدّفاع الوطني، طبق الفصول 81 من مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة و67 من المجلّة الجزائيّة و24 من المرسوم 54.
وفي إطار خشيتها على مصير مندوبتها دعت هيئة الدفاع كافة المحامين والحقوقييّن للحضور بكثافة لمساندة ومعاضدة شيماء عيسى في هذه المحاكمة العسكريّة السياسيّة على حد تعبيرها. وهو ما يبرز مناخ عدم الثقة بين المواطن ولسان دفاعه في علاقة بالسلطة بعد فشل مسار العدالة الانتقالية الذي لم ينجح في خلق مصالحة بين مختلف المكونات بعد الاعتذار وجبر الضرر ولم ينجح في إصلاح أجهزة الدولة للدخول في مرحلة جديدة تقطع مع الماضي.

دون المأمول

ويرى المحامي والحقوقي التونسي صبري الثابتي في حديثه لـ«القدس العربي» أن وضع الحقوق والحريات في تونس ليس في مستوى تطلعات الشعب ولم يكن كذلك على الدوام سواء خلال فترة الاستبداد أو خلال مرحلة ما بعد الثورة. وقد جعل ذلك محدثنا يتساءل لعل الإشكال هو لدى التونسيين أنفسهم فيما يتعلق ببيئتهم ونشأتهم باعتبار أن الحكام تغيروا لكن الانتهاكات بقيت هي نفسها سواء خلال فترة بن علي أو في مرحلة ما يطلق عليها البعض عشرية سوداء أو الآن.
ويضيف قائلا: « لكن الماضي هو للمؤرخين وسيقومون يوما ما بتقييم كل مرحلة وإبراز ما لها وما عليها، أما الحاضر فواجبنا هو انتقاده وتصويب توجهاته كلما وجد خللا ما، لأن كرسي الحكم يمكن أن يحجب عن صاحبه عديد الأشياء. كما أن محيط الحاكم بإمكانه أن يدفع بحاكمه إلى ما لا يحمد عقباه معتقدا أنه يحسن صنعا وأن ما يقوم به هو عين الصواب متجاهلا بأن الآراء نسبية وقابلة للنقد ولا أحد بإمكانه الجزم بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة.
وخلاصة القول هناك تجاوزات عديدة في مجال الحقوق والحريات وجب تصويبها والنضال من أجل صون كرامة التونسي وحقه في محاكمة عادلة وأن تحترم الإجراءات بدقة في هذه المحاكمات وأن نكف عن إخافة الصحافيين وترهيبهم بالملاحقات القضائية. ولا يجب أن نقارن أنفسنا بالأمثلة السيئة في المنطقة، باعتبار أن هناك أصواتا تعلو لتذكر أننا أفضل في مجال الحقوق والحريات من هذا الشقيق وذاك، لأن الأمر يتعلق بتونس التي يجب أن تكون رائدة بالنظر إلى تاريخها في الدسترة والتشريع تكريسا للحريات، وفي الحركات الإصلاحية التي عرفتها منذ العصور القديمة.
مخطئ من يعتقد أنه يمكن الإطمئنان إلى نظام ما ومنحه كل السلطات لأن الإنسان ميال إلى الإستبداد بطبعه وبالتالي فإن اليقظة واجبة حتى لا تحصل الإنحرافات وإن حصلت وجب الضغط حتى يحصل التراجع عنها. لا بد اليوم في تونس من الضغط لإنشاء المحكمة الدستورية العليا ولإلغاء المناشير التي تستهدف حقوق الإنسان والحريات، ولا بد من تنقيح بعض القوانين لضمان إجراءات سليمة لمحاكمة عادلة ومن التكوين المستمر دون توقف لمنتسبي الأجهزة الرسمية في مجال حقوق الإنسان والحريات وغيرها لأن التجاوزات موجودة والسكوت عنها قد يوصلنا إلى ما لا يحمد عقباه».

قلق وحيرة

وتعتبر الصحافية التونسية لمياء الشريف في حديثها لـ«القدس العربي» أنه لا يختلف إثنان على أن الوضع الحقوقي في تونس يبعث على القلق والحيرة وهو بحاجة إلى إصلاحات حقيقية خاصة فيما يتعلق بحرية التعبير التي كانت تعاني الأمرين في السابق وزادت سوءا مع المرسوم عدد 54. فهذا المرسوم، حسب محدثتنا، أرهب الصحافيين وأثار مخاوفهم وبث الرعب في نفوسهم وجعلهم يفكرون ألف مرة قبل كتابة مقال في الشأن العام أو المشاركة في حوار إذاعي أو تلفزيوني باعتبار أن زملاء لها قد تمت دعوتهم بعد لدى بعض الفرق الأمنية للمثول أمامها.
وتضيف قائلة: «أصبحت أقيم لنفسي رقابة ذاتية مثلما كان يحصل زمن بن علي حتى لا أجد نفسي عرضة لتتبعات قضائية قد أجد نفسي بعدها في غياهب السجون رغم أنني لست ممن يقذفون أو يشتمون أو يدعون على خلق الله كذبا وزورا وبهتانا. أخشى شخصيا من العودة إلى الوضع الخانق لحرية التعبير الذي كان سائدا قبل 2011 وأن نفقد الكثير من المكاسب التي تحققت بعد هذا التاريخ رغم أننا لم نكن في جنة حريات مع حركة النهضة بل كانت أيضا هناك انتهاكات كثيرة.
لا يكفي أن مهنة الصحافة وخصوصا الصحافة الورقية تمر بأزمة مالية خانقة تهدد وجود بعض المؤسسات الإعلامية فإذا بنا أمام مرسوم جديد يضاف إلى تشريعات سابقة تكبل حرية التعبير. لا بد من إلغاء هذا المنشور صراحة لتعارضه مع ما ورد في الدستور التونسي الجديد لسنة 2022 وإلا فإننا لن نجد مستقبلا إعلاما حرا في تونس».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية