الهوية والحدود والقطرية في الرواية العربية

لا يمكن فهم القضايا الإنسانية في الرواية العربية، دون النظر في إشكالات متعلقة بها، وتتمحور حول واقع الإنسان العربي، وصراعات الهوية العربية، والمشكلات الناتجة عن القطرية والإقليمية، التي طغت في النقاشات النقدية، حيث تعاظم القطري على حساب القومي، واشتد الفرعي على حساب الرئيسي، وكثرت الدراسات الفردية، وقلّت الدراسات التي ترصد المعالم المشتركة، وندر ما ينظر إلى إشكالات الهوية، خاصة في مراحل التأسيس، والخطابات النقدية الدائرة حولها.
وعندما نتأمل المشهد الروائي العربي على المستوى الجغرافي، سنلاحظ أن أقطار العروبة جميعها باتت مساهمة في الإنتاج الروائي العربي، وأضحى لكل قطر مبدعوه المعبرون عن همومه وقضاياه، وكأن الروائي العربي المعاصر يقوم بدور الشاعر القديم في صياغة هموم قبيلته شعرا، يتغنون به في أسمارهم، أو بدور الراوي للسير الشعبية العربية، يعزف على أوتار ربابته، متغنيّا بأمجاد أبطال عرب، تحدث الناس عن جهادهم وفروسيتهم ونبلهم، إلا أن الراوي يعزف على الهم الإنساني العربي، ويروي حكايات الواقع والمجتمع، ويستعيد أمجاد التاريخ ليستنهض الحاضر.
ويقودنا النقاش إلى الولوج في قضية القطرية وعلاقتها بالرواية العربية، حيث يثير محمود أمين العالم هذه القضية، – في مقاله المعنون بـ«هل هناك خصوصية للرواية العربية؟» المنشور في مجلة «فصول» المصرية – ويطرح سؤالا عن واقع الرواية في ضوء التقسيم القطري للدول العربية، مذكِّرا بالخلافات وتناقضات المصالح بين أقطارها المختلفة، بل في داخل القطر الواحد، ويطلق عليه جدل الفرد والمجتمع، وجدل القطري والقومي، أي جدل الخاص والعام في تشكيل الخصوصية الروائية العربية، فهل هناك مشترك بين هذه الخصوصيات العربية بالنظر إلى تعدد الأوضاع والرؤى العربية؟ وإذا صح كذلك، فهل هناك ما هو مشترك بين الخصوصيات العربية المتعددة المختلفة، مما يمكن أن نعده خصوصية قومية عامة للرواية العربية؟ ويخشى محمود العالم أن يكون حال الرواية العربية، سواء بسواء كحال الأوضاع العربية الراهنة، بما فيها من تأثيرات وتفاعلات سلبية وإيجابية، في سياق اللحظة التاريخية التي تعيش داخلها، والتي تتحقق ذاتيتها سلبا أو إيجابا في مواجهتها، وهو ما يمكن أن نسميه بجدل الأنا والآخر، أو الداخل والخارج في تشكيل مفهوم الخصوصية العربية الروائية.
تتبدى الإشكالية في الأسئلة السابقة في أهمية النظر إلى قضايا تمس خصوصية الرواية العربية، وأهمها: مسألة الهوية بين القطرية والقومية، وتموضع التاريخ والثقافات الوطنية، وتأثيرات الجغرافيا والبيئة المكانية، والمشكلات البينية السياسية والاقتصادية، وتحديد مفهوم الأنا والآخر في ضوء المشترك العروبي الثقافي والإبداعي. وعلينا أن نضع في حسباننا أمورا عديدة عند طرحنا لهذه القضايا، أبرزها:
إن الحدود السياسية بين أقطار العروبة إنما هي حدود سياسية، لا تعني تفرقا أو اختلافا بين أبناء الأمة العربية، بقدر ما هي دول قطرية، تقوم نظم الحكم فيها على رعاية شعوبها، والسعي إلى نهضتها، مع وجود تفاوت في معدلات النهضة بينها، وأيضا تفاوت في موقع هذه الدول في الخريطة الثقافية العربية، على مستوى العطاء والإبداع، ومدى تميزها في المساهمة الإبداعية. فمن المهم وجود دراسات تتناول الرواية في أوطان بعينها، أو حتى في أقاليم وبيئات داخل هذه الأوطان، فمن شأن هذه الدراسات تعميق الدرس، وأن تتوقف بالفحص والنقاش أمام الروايات المنتجة في هذه الأمكنة، وتغذي بدورها نهر الدراسات النقدية للرواية العربية.
وإننا – كعرب- نحمل هوية جمعية مشتركة، عنوانها اللسان العربي الواحد، والثقافة العربية الإسلامية الأصيلة، بكل ما فيها من قيم وعادات وتقاليد ورؤى وقناعات وتاريخ مشترك، ونعيش في مساحة ممتدة في قارتي آسيا وافريقيا، دون حواجز طبيعية تمنع تواصلنا، بل إن التواصل الآن في ازدياد، بفعل التطور الهائل في وسائل المواصلات والاتصالات، بما يتجاوز الخلافات السياسية الوارد حدوثها.
ومن المهم إدراك هذا البعد في قراءة الرواية العربية، والنظر في المشتركات بين الإنسان العربي، وحبذا في هذا الصدد إيجاد الدراسات المقارنة للعادات والتقاليد بين أقاليم وأقطار الأمة العربية، فترصد المتشابه منها، وتعلن عن المختلف والمتمايز، وبذلك تكون الرواية مرآة إبداعية للواقع الاجتماعي العربي، بل ترصد وتسجل التبدلات التي لحقت بالإنسان العربي اجتماعيا وثقافيا، إلى جانب المشكلات.
كما أن التنوع السكاني بين شعوب الأمة العربية، كائن وقائم، وهذا ناتج عن تأثير عوامل متعددة، أبرزها الموقع الجغرافي، الذي ينعكس على الطباع والأمزجة، ولننظر إلى تأثير الجغرافيا على المزاج النفسي والطباع لدى الشعوب العربية المختلفة، وهو ما نرصده في اختلاف الشخصية العربية بين أقاليم العروبة الكبرى (وادي النيل، أرض الرافدين، بلاد الشام، شبه الجزيرة العربية، المغرب العربي) مع الأخذ في الحسبان انعكاس البيئة المكانية على شعوبها، فالشعوب العربية القاطنة على ضفاف الأنهار، تختلف عن أهل الساحل، وقبائل الصحراء، ما أنتج تنوعا في أشكال الحياة فهناك مجتمعات رعوية، وأخرى زراعية، وثالثة صناعية، ورابعة مدنية عصرية، بل إن هناك تنوّعا من ناحية الزمن، فالوطن العربي غلب عليه طابعا الريف والبداوة في بداية القرن العشرين، وراح يتطور تدريجيا مع زيادة التعليم، ونمو الدخل القومي، فظهرت المدن الجديدة، واتسعت المدن القديمة، وتم تخطيطها تخطيطا حديثا، وقلّت حياة البداوة، خاصة بعد التحرر من الاستعمار، وبداية خطط التحديث في سنوات الخمسينيات والستينيات، إلى جانب التطورات السياسية التي حملت شرائح من أبناء الأسر المصرية البورجوازية أو الشعبية إلى السلطة، ما أدى إلى تغييرات اجتماعية عميقة، على مستوى النخب، توازى ذلك، مع تدفق النفط، وحدوث تغييرات في الأقطار العربية، فظهرت أقطار ثرية اجتذبت العمالة من الأقطار الفقيرة، وتواكبت معه هجرة من الريف إلى المدينة، مع توافر فرص عمل جديدة، وإهمال حل مشكلات الريف، وتنميته؛ ما يعطي ثراء لا حدود له في الرواية العربية، ولننظر إلى اختلافات البشر على مستوى الفرد وقضاياه، وأيضا على مستوى الأسرة والمجتمعات الصغيرة، أيا كان نوعها، وتظهر براعة الروائي في الغوص في نفسية الإنسان العربي، وتحليل أبعادها، ولا شك في أن ثمة تقاربا وتشابها بين مشكلات الإنسان العربي في البيئات العربية المختلفة: الريف والمدن والبادية، النخبة وطبقات الشعب المختلفة والمهمشين، وهذا بعد فكري لا بد أن يكون حاضرا في وعي الناقد.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية