النخب والجامعات الأمريكية دعماً لفلسطين

حجم الخط
0

أن نرى جورج واشنطن يرفع علم فلسطين عالياً وسط العاصمة الأمريكية ومن حوله هتاف Free..Free Palestine يملأ الأسماع؛ أمرٌ يثير الدهشة والاستغراب. لكن في حقيقة الأمر، هذا ما يحدث فعلاً في جامعة جورج واشنطن وكولومبيا وهارفارد، ونحو أربعين من جامعات الولايات المتحدة الأكثر شهرةً وعراقةً في العالم. هذه الاحتجاجات المتصاعدة أخذت أشكالاً عديدةً، وحددت أهدافاً لحراكها، وأفرزت واقعاً جديداً في الولايات المتحدة الأمريكية، يرسم ملامحه الشباب الأمريكي وأكاديميو الجامعات.
لقد اندلعت هذه الاحتجاجات، وبعضها تحوّل إلى اعتصامات داخل حرم الجامعات، والبعض الآخر شهد مواجهات بعد تدخل الشرطة الفيدرالية، التي استخدمت القوة المفرطة. حدث كل هذا بعد التجاهل المتعمد من إدارة بايدن لمطالبهم. هذا السلوك يُعدُّ جزءاً من سياسة هذه الإدارة الدائمة التماهي مع المصالح الإسرائيلية، بل المشاركة في الحرب العدوانية التي تزهق أرواح آلاف الأبرياء من أطفال ونساء وكبار السن. هذه السياسة التي يعارضها نحو 71% من الأمريكيين. كذلك يأتي هذا الحراك احتجاجاً على استمرار الدعم العسكري واللوجستي والدبلوماسي، من إدارة بايدن لدولة الكيان، على حساب الشعب الأمريكي. انتفض هؤلاء الطلبة ومعهم أساتذتهم، الذين زرعوا فيهم قيم الحياة الأخلاقية والإنسانية، وقيم العدالة والحرية، مدفوعين بمشاهد الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي والتدمير الممنهج لكل جوانب الحياة في غزة، التي أدمت قلوبهم وأيقظت مشاعرهم وضمائرهم، بعد موت الإحساس والضمير العالمي المتزيّن بحقوق الإنسان الزائفة، التي لم يُرَ منها إلا حق «إسرائيل» المزعوم في الدفاع عن النفس.

أكد حراك الجامعات الممنهج، أن الجامعات لا تزال ليس فقط منابر علم وأبحاث ومعرفة، بل قواعد للتغيير الاجتماعي والسياسي، وأن الطلبة هم الذين يصنعون التاريخ

لقد انتفضت هذه النخبة الأكاديمية، بعد سلسلة من التحقيقات طالت بعض مديري الجامعات والهيئة التدريسية، وفصل بعضهم على خلفية مواقفهم من الحرب، ودعمهم للحق الفلسطيني، لقد صدح صوت هؤلاء غير آبهين بما ستؤول إليه نتائج احتجاجاتهم واعتصاماتهم من بطش وعنف الشرطة والحرس الوطني، ومن عقوبة الفصل والطرد التي تنتظرهم. لم يثنهم تهديد رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون، ورموز الدولة العميقة واللوبي الصهيوني باتهامهم بأنهم معادون للسامية، وأن تحركهم يشكل تهديداً لأمن الطلبة اليهود؛ الذين على العكس تماماً، كانوا جزءاً مهماً من حراكهم السلمي. أمام هذه الاتهامات، وبمزيدٍ من التحدي والإصرار، تحوّلت معظم احتجاجاتهم إلى اعتصامات مفتوحة، طالبوا من خلالها وبشكلٍ واضحٍ وصريحٍ بإيقاف فوري للحرب على غزة، ووقف المساعدات العسكرية لإسرائيل، وسحب استثمارات الجامعات الأمريكية من موّردي الأسلحة والشركات الإسرائيلية، أيضا قطع العلاقات الأكاديمية مع الجامعات الإسرائيلية، والتراجع عن الإجراءات التأديبية التي اتُّخذت بحق الطلاب والأساتذة المحتجين، وإطلاق سراح المعتقلين الذين وصلت أعدادهم إلى أكثر من 900 معتقل. من جانبٍ آخر، تعكس هذه المطالب وما ترافق معها من خطوات، مدى جديّة هذا الحراك ومنهجيته وآلياته ودوافعه، ومدى التزام قادته برسالة وقيم ومبادئ الجامعات التي يَدرُسون فيها ويُدَرِّسون.
من ناحيةٍ أخرى، لقد صدمت قوة هذه الاحتجاجات المتصاعدة الإدارة الأمريكية وصانعي القرار والمشرّعين، لاتساعها وشموليتها واجتذابها لأطياف مختلفة من المجتمع الأمريكي وهيئاته المدنية، من مختلف الديانات والطوائف والجاليات والمنظمات، ولعل أبرزها كان مشاركة مجموعات يهودية مثل «الصوت اليهودي من أجل السلام»، ومنظمة «إن لم يكن الآن»، ومجموعة «طلاب من أجل العدالة في فلسطين». وفي السياق ذاته، من البديهي أن تشكل هذه النخبة من الشباب، وهذا التنوع البشري في الحراك، تهديداً مباشراً لفرص إعادة انتخاب بايدن، الذي يحاول عبثاً السير بخطين متوازيين؛ بين الدعم اللامحدود واللامشروط «لإسرائيل»، والعزف على وتر الانتخابات وإرضاء الشارع الأمريكي الغاضب. كما يعكس هذا أيضا تآكل شعبية بايدن، كما أشارت استطلاعات الرأي الانتخابية إلى ذلك. لقد وضعت هذه الاحتجاجات الإدارة الأمريكية في مأزقٍ حقيقي؛ بين المحافظة على حرية التعبير وحق التظاهر وصون الحريات، وانتهاك وقمع هذا الحراك؛ خشية تصاعده أكثر فأكثر، وتأثيره على مجمل فئات الشعب الأخرى، ووقوفها إلى جانب الحق الفلسطيني، وبالتالي إسقاط الرواية الصهيونية الزائفة، وتعرية موقف الإدارة البايدنيّة. وما شيطنة هذه الاحتجاجات من قبل هذه الإدارة باتهام الطلاب بأنهم ينتهكون السلوك الطلابي؛ إلا محاولةً للخروج من هذا المأزق. لقد بات واضحاً أن المظاهرات والمسيرات التي اجتاحت الولايات الأمريكية كافة طيلة الستة أشهر الماضية، وما تبعها من هذه الاحتجاجات والاعتصامات تحمل دلالات عديدة.
في مقامها الأول، تمثّل تغييراً اجتماعياً تقوده النخبة من الشباب الأكاديمي، بعدما كان مقتصراً على طبقة الأثرياء وشخصيات معينة. ثانيا، تعكس تغييراً جوهرياً في البنية الفكرية والوعي الشبابي الأمريكي. ثالثا، تحمل فهماً جديداً للواقع والأحداث المؤثرة في مكانة بلدهم. وفي المقام الرابع، تؤكد نزوع الشباب إلى قول كلمتهم في النظام السياسي وتوجهه، بعدما كانوا منصرفين عنه. خامسا، تنامي دورهم في رسم ملامح المشهد العام في الولايات المتحدة، باعتبارهم نخبة المجتمع وقادة المستقبل. سادسا، تطوّر وعيهم الاجتماعي والإثني؛ بتجاوزهم لكل حملات التفرقة والعنصرية والتمييز العرقي والديني، التي يحاول الساسة الكبار واللوبي الصهيوني بثها في صفوفهم، تحت عُصيّ الإرهاب ومعاداة السامية. سابعاً، أكد هذا الحراك الهادف والممنهج، أن الجامعات لا تزال ليس فقط منابر علم وأبحاث ومعرفة، بل قواعد للتغيير الاجتماعي والسياسي، كما شهدته سابقاً الكثير من البلدان، عندما انطلقت شرارة التغيير والثورة من الجامعة وعلى يد الطلبة الذين يصنعون التاريخ، ولعل ما حدث في براغ من ثورة مخملية وجنوب افريقيا وفرنسا خير أمثلة على تلك الحقيقة. وفي الدلالة الأخيرة، كشف حراكهم زيف الديمقراطية الغربية، وحقوق الإنسان المعطّلة؛ التي طالما تغنّى بها «العالم الحر»، من خلال ما تعرّض له المحتجون من اعتقال وتنكيل وتهديد، وتكميم أفواه، وفصل وطرد من الجامعة. ويبقى السؤال هنا، هل تسير عجلة الأكاديميين عكس تيار ساسة البيت الأبيض ومَن وراءهم؟ وهل ستنتصر خيم اعتصاماتهم وهتافاتهم على هراوات الحرس الوطني الأمريكي؟ وهل سينطق تمثال الحرية كلمة الحقيقة في هذا الحراك؟ وهل سينجح هذا الحراك في إيقاف الحرب في غزة كما فعلها حراك 1968 إبان الحرب الفيتنامية؟
في نهاية المطاف، إن الانتصار للحق والإنسانية لا يعرف هويّة بعينها، إنها صحوة الضمير وتلامس المشاعر، والعدوى التضامنية التي انتقلت من جامعات كولومبيا وهارفارد وجورج واشنطن ونيويورك وتكساس وكاليفورنيا ومعهد ماساشوستس وغيرها من جامعات العراقة. هذه العدوى التضامنية مع غزة وشعب فلسطين انتقلت إلى جامعات إسبانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا وتركيا واستراليا. لكن الجامعات العربية – للأسف – مازالت محصنةً ضد هذه العدوى، فهل تصلها متأخرة؟ والبقية تأتي….
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية